ترجمة وتحرير: نون بوست
في أمسية باردة في شهر كانون الأول/ ديسمبر في كامبريدج، إنجلترا، جلست على مكتبي في محاولة لكتابة شيء مفهوم. أكتب في جوّ من الحزن الشخصي والجماعي الساحق الذي شهدته وعايشته منذ الهجوم الأخير على غزة. مكتبي مريح، ولا يزعجني سوى ضجيج حركة المرور خارج نافذتي، وصوت ضحك الطلاب عائدين إلى منازلهم بعد رحلاتهم الاحتفالية وهم يمرحون وقد احمرت الخدود والأنوف من البرد. في هذه الأثناء، ينام صديقي المفضل على صوت الطائرات الحربية المألوف الآن.
يشعر بالرهبة وكذلك أنا أو بالأحرى أحاول قدر الإمكان الاقتراب من الشعور بالرهبة الذي لن أفهمه أبدًا، بغض النظر عن مدى تعاطفي معه. ومثل العديد من الفلسطينيين الآخرين، أصبح الآن معتاداً على هذا الصوت بعد أن قضى حياته تحت الاحتلال العسكري الوحشي. (هل يمكن لأي شخص أن يعتاد على مثل هذا الصوت؟)
كيف أفهم هذا التنافر؟! الطبقات المتعددة من الشعور بالذنب سواء بسبب الامتياز الذي أملكه للعيش بأمان، أو كتابة هذه الكلمات كطالبة في واحدة من أرقى الجامعات في العالم، أو الحزن الهائل الجامح الذي يغمر كياني! لدي ارتباط عميق بفلسطين، لدي العديد من الأصدقاء والأشخاص الذين أحبهم هناك، لكنني لست فلسطينية. إذن من أنا حتى أحزن؟
وسط تناقضي تجاه الألم الذي أعاني منه بشكل لا يمكن إنكاره، أتعلم أن أدرك أن هذا الرد الذي يبدو مفرطًا ومتسامحًا هو في الواقع علامة على إنسانيتي؛ وظيفة جسدي الفطرية هي التعاطف على المستوى العميق مع أولئك الذين يكونون في وضع أكثر قسوة وعنفًا وخطورة من وضعي، ولكن هذا لا يتجاوز دافعي للحزن.
“حياة لا حداد عليها”
في الواقع، إن قدرتنا على الحداد على حياة بعيدة عن حياتنا تكشف الكثير عن هويتنا كبشر. تجادل جوديث بتلر بأن “إحدى الطرق لطرح سؤال حول من نحن في أوقات الحرب هذه، هي من خلال السؤال عن من تُعتبر حياته ذات قيمة، ومن تستحق حياته الحزن من أجلها، ومن لا تستحق حياته الحداد”.
أكد مقطع فيديو لخطاب عام ألقته رشيدة طليب، عضوة الكونغرس الفلسطينية الأمريكية، أهمية الحداد على حياة لم نعرفها. روت طليب في كلمتها أنها شاهدت مقطع فيديو لأطفال غزة المصابين بالصدمة وهم يبكون محاطين بأنقاض منازلهم بينما يقال لهم “ما تبكي”. في هذه اللحظة، أجهشت طليب بالبكاء، وصرخت: “دعوهم يبكون“، قبل أن تؤكد “إذا كنتم لا تبكون، فهناك خطب ما”.
ظلّ هذا الشعور عالقًا في ذهني، عندما كنت أحاول فهم حزني وحزن كل من هو مرتبط بطريقة ما بالمأساة التي نشهدها من حولنا. بغض النظر عمن نحن أو من أين أتينا، إذا لم نشعر بالغضب والضيق والحزن فهذا يعني “أن هناك خطبا ما” ويجب علينا أن نتساءل لماذا لا نتحرك لفعل شيء ما. ومن مصلحة القوى العالمية أن تقسم الأرواح إلى أولئك الذين يمكن الحداد عليهم وأولئك الذين لا يمكن الحداد عليهم؛ أولئك الذين يبرر حزنهم عمل المجمع الصناعي العسكري، وأولئك الذين يقوضه حزنهم. لذلك، يجب علينا رفض هذه الرقابة على الحزن.
ما لا يدركه الكثير من الناس أن هذه المأساة عالميّة، وتنتشر في كل ركن من أركان العالم بينما نشهد الإبادة الجماعية أمام أعيننا (مع ذلك، يختار العديد منا أن ينظروا بعيدًا). ولا يقتصر الشعور بالرعب على غزة فحسب، بل في الضفة الغربية بأكملها حيث يتم اعتقال الآلاف من المدنيين الأبرياء بشكل جماعي دون أن يجتمع أحد لدعمهم، حيث يمتد تعاطف وسائل الإعلام فقط إلى “النساء والأطفال” – وكأن سجن وتعذيب وقتل الرجال الفلسطينيين أمر لا مفر منه؛ وكأن جثث الرجال الفلسطينيين مجرد أضرار جانبية. وخارج الضفة الغربية، فإن الفلسطينيين الذين يعيشون في مدينتي حيفا ويافا المعزولتين مضطهَدون في حدادهم لأن الدولة تعتبر الأرواح التي ينعونها غير مستحقة للرثاء.
دائرة لا نهاية لها من الصدمة
بعد استفسار إدوارد سعيد حول من يملك “إذن رواية” الأحداث العالمية، يجدر بنا أن نتساءل: من يملك إذن الحزن؟
في كتاب محمود درويش “يوميات الحزن العادي”، الذي ترجمه إبراهيم مهاوي إلى الإنجليزية، يروي درويش الحزن الخاص الذي يضطر الفلسطينيون الذين يعيشون في الأراضي المحتلة لسنة 1948 إلى تحمله كل سنة في ذكرى “حرب الاستقلال”، عندما يُطلب من المواطنين الحداد على أرواح الجنود الإسرائيليين الذين فُقدوا في هذه الحرب.
وفي الوقت نفسه، يجب على العرب أن “يبكوا من أعماقهم، أو ينفجروا من الضغط”، لأن “إعلان ولادة إسرائيل هو في نفس الوقت إعلان موت فلسطين”. وفي حين أن أحد أشكال الحزن مقبول ويُشجع عليه، فإن الآخر “ممنوع”.
ما وجدته من ردود الفعل على العنف المتكشف فضلاً عن الصور المتواصلة وقصص الصدمة التي تملأ أذني وموجز أخباري وأفكاري هو أنه على النقيض من وصف درويش الساخر الهزلي للحزن الفلسطيني بأنه “عادي” في العنوان المذكور لعمله، لا شيء عادي في الحزن الفلسطيني. لا يوجد شيء عادي فيه لأنه يتحدى النمط التقليدي للحزن حيث يقع حدث سيء، أو سلسلة من الأحداث التي ينشأ فيها إحساس بالخسارة سواء الفعلية أو المتصورة.
يعاني الشخص أو الأشخاص من الصدمة والغضب والخوف والحزن والإنكار وما إلى ذلك، أحيانًا بالتناوب وأحيانًا دفعةً واحدة، وبعد ذلك يبدأون عملية “المضي قدمًا” البطيئة والمضنية في كثير من الأحيان، وهي عملية لا تهدف إلى التغلب على الخسارة بل إلى التعايش معها.
ومن ناحية أخرى، إن عملية التغلب على الخسارة بالنسبة للفلسطينيين معقدة للغاية بسبب الدائرة التي لا نهاية لها من الأحداث المؤلمة التي يتعرضون لها وطبيعة الحياة تحت الاحتلال. فليس هناك نهاية للحدث المؤلم، والحياة في حد ذاتها صدمة وعملية حزن متواصل على الماضي والحاضر والمستقبل.
قيل الشيء نفسه عن المجموعات المضطهدة الأخرى، مثل الأمريكيين السود الذين يعيشون “حياة حداد” بحكم كونهم سودًا في بلد تستوطن فيه العنصرية حيث “يعتاد الأمريكيون على جثث [السود] في مجيئهم وذهابهم اليومي”، وذلك وفقًا لكلوديا رانكين. وهذا الرضا السائد عن فقدان حياة السود هو الذي دفع رانكين إلى قول إن “موتنا داخل نظام العنصرية سبق ولادتنا”، وهو شعور يبدو صحيحًا في السياق الفلسطيني سواء في الداخل أو الخارج حيث يمكن إطلاق النار على الشخص في الشارع لمجرد كونه فلسطينيًا أو يبدو كذلك.
أفكر هنا بالفلسطينيين الثلاثة الذين تعرضوا للرصاص في ولاية فيرمونت بالولايات المتحدة يوم 25 تشرين الثاني/نوفمبر بينما كانوا يرتدون أغطية الرأس الفلسطينية، الكوفية، وهم يسيرون بالقرب من حرم جامعتهم في “أرض الأحرار”. أتذكر مناقشة رانكين لموضوع السواد في أمريكا هنا لأن فكرة العيش في حالة حداد تنطبق بالمثل على السياق الفلسطيني حيث الحياة تعني الحزن، وهذا لا يعني طبعًا أن الفلسطينيين لا يشعرون بالفرح، ولكن بين لحظات السعادة هذه، هناك إيقاع ثابت من الحزن.
الحزن من أشكال العمل السياسي
إذا كان هناك غرض من الحزن، فهو أنه فرصة لتعبئة المعاناة كوسيلة لمقاومة الظروف العنيفة التي تنشأ منها. وتكمن الفرصة في أنه من خلال فتح المجال للحزن الجماعي – فرصة نعترف فيها ونشارك آلام بعضنا البعض – نطالب بمستقبل أفضل حيث أن تولد فلسطينياً لا يعني أن تولد ميتاً بالفعل.
بالنسبة لرانكين، الحداد الجماعي هو “أسلوب من التدخل والمقاطعة” يبني التضامن والتعاطف، ويتطلب التعامل البارد مع حقيقة جرائم القتل ذات الدوافع العنصرية والهياكل والظروف التي تسهل الإفلات من العقاب وتسمح بحدوثها. أما بالنسبة للكتّاب الفلسطينيين مثل درويش، تعتبر الكتابة بحد ذاتها من أشكال الحزن الذي يحمل إمكانيات متعددة. ففي رثائه للباحث الفلسطيني الشهير المناهض للاستعمار إدوارد سعيد، أشار درويش إلى أن الكتابة يمكن أن “تستضيف الخسارة” وأنها “إحدى هبات العزاء” و”تخترع أملا للكلام/ تبتكر جهة أو سرابًا يطيل الرجاء”.
وبينما تظلّ الكتابة رفاهية بالنسبة لكثير من الناس، فإن عدد الكتاب الذين تعرضوا للرقابة أو الاعتقال أو حتى القتل بسبب كلماتهم (مثل الكاتب الفلسطيني المقاوم غسان كنفاني)، يشهد على قدرة الكلمات على التحوّل إلى فعل. وردًا على احتفال سعيد بـ “الجمالية كحرية” قال درويش متهكمًا: “الحياة التي لا تعرّف/ إلا بضدٍّ هو الموت/ ليست حياة”.
من الضروري إذن أن نكمل الأقوال بالأفعال وأن نطالب بظروف تُحترم فيها كرامة الإنسان وتكون فيها حياة الفلسطينيين مهمة ليس فقط في الموت وحين نقوم بقياس الإحصائيات وحساب الخسائر، وإنما أيضًا في الحياة. أن يكون الحق في الحياة، وفي حياة تستحق العيش، غير قابل للمصادرة والتصرف حقًا.
تأمين هذا المطلب – والحق في حياة كريمة – ليس مجرّد ملاحظة هامشية لوقف إطلاق النار، وهو ليس طلبًا خاصًا يتم تناوله في وقت لاحق، ربما بعد 75 عاماً من الآن، إنها ليست أمنية، أو أملًا، أو رؤية طوباوية، وإنما شرط مسبق لبقاء الإنسان. إن حزننا يخبرنا بشيء مصيري وعلينا الآن أن نستمع.
المصدر: ميدل إيست آي