يبدو جليًا أن أزمة هوياتية دخل فيها السوريون مؤخرًا، بالتوازي مع أزمة الموت والتشرد والحروب المتعددة الأطراف المستمرة منذ انطلاق الثورة السورية المشهورة بتفاصيلها الكثيرة وتشابك خيوطها.
من المُلاحظ أيضًا أن نتائج الإقصاء والإهمال لمدن الجزيرة السورية الثلاثة، الرقة ودير الزور والحسكة، من قبل نظامي الأسد الأب وولده، على مر السنوات التي سبقت الثورة
بإمكاننا القول إن السواد الأعظم من السوريين غرقوا في أزمة الهوية، وانفصلوا عن شعورهم الوطني، بدرجات مختلفة، بسبب تعدد ألوان المتحاربين وداعميهم، وبسبب تنوع الولاءات والانتماءات الأيديولوجية والفكرية، فضلًا عن كم البؤس القاهر الذي وقع عليهم خلال السنوات الأخيرة.
ومن المُلاحظ أيضًا أن نتائج الإقصاء والإهمال لمدن الجزيرة السورية الثلاثة، الرقة ودير الزور والحسكة، من قبل نظامي الأسد الأب وولده، على مر السنوات التي سبقت الثورة، طفت على السطح بشكل واضح، فهذه المدن في مقدمة المدن المتأزمة هوياتيًا اليوم في سوريا، والتي من الصعب التنبؤ بمصيرها مستقبلًا، لتعدد المشاريع الدائرة حولها، والتي لسنا بصدد الحديث عنها في هذا المقال.
يشعر أهالي المدن الثلاثة وبالذات الرقة ودير الزور، بمظلومية قديمة كرستها حديثًا اللامبالاة الشعبية السورية والثورية منها قبل الموالية للنظام، التي تتساوى وبنفس الدرجة من القسوة باللامبالاة الأُخرى لأطراف الصراع، وعدم اكتراثهم بأهالي هاتين المدينتين اللتين تركتا فريسة مثالية لتنظيم داعش وأعدائه على حد سواء.
مظلومية لم تترك ربما لقاطني هذه الأراضي الغنية بالثروات والمتنوعة الإثنيات، المختلفين إلى حد كبير عن بقية السوريين في العادات والتقاليد بالإضافة إلى الاختلاف الأصيل في الثقافة واللهجة والأزياء، إلا الرجوع للخلف أو في أحسن الأحوال الوقوف في نقطة السكون.
فعندما تضيع شعارات الثورة السورية بالحرية والديمقراطية والدولة المدنية وسط أمواج هائجة ومتلاطمة من الأفكار الأصولية الدينية والقومية المكفّرة والرافضة للآخر المختلف حتى لو كان يحمل ذات الخلفية المذهبية والفكرية، وعندما تلقى هذه الأفكار دعمًا بشكل أو بآخر بالسلاح والمال والنفوذ من أطراف خارجية، وعندما يصبح يمين الثورة مثل يسارها، لا يمكن للرقي والديري، إلا الجنوح إلى أفكار عصبوية ضيقة تمهد للانسلاخ الوطني معنويًا على الأقل، الذي يكفي لجعله جغرافيًا في المستقبل البعيد وربما القريب أيضًا.
لمن المؤسف أيضًا أن تصبح مواقع التواصل الاجتماعي، وسيلة لقيادة السوريين نحو الخلف، عبر استفتاءات محمومة ولا مباشرة، كثير منها غير بريء، تروّج للعودة إلى دوائر القبيلة والهوية الضيقة
تبقى هذه المشاعر محدودة الشرور والمخاطر عندما تكون شعبية، لكنها تتحول إلى ظاهرة متوحشة عندما تنتقل هذه الأفكار إلى مثقفي الشعب ونخبته، الذين كانوا أول من لامست أقلامهم قاع المستنقع في الآونة الأخيرة، فأصبح بعضهم ينادي بالانسلاخ حينًا وطلب الوصاية والانتداب من إحدى الدول العظمى حينًا آخر، ولمن المحزن أن يطالب أحدهم صديقه الذي ينتمي إلى عشيرة رائدة في محافظة الرقة، بالعمل لتأسيس دولة جديدة، على غرار الدولة السعودية.
ولمن المؤسف أيضًا أن تصبح مواقع التواصل الاجتماعي، وسيلة لقيادة السوريين نحو الخلف، عبر استفتاءات محمومة ولا مباشرة، كثير منها غير بريء، تروّج للعودة إلى دوائر القبيلة والهوية الضيقة.
ولا بد أن ننوّه في سياق تعرضنا لهذه الظاهرة، أن المشكلة لا تكمن بالانسلاخ أو الانفصال بحد ذاته، فهذا شأن تتخذه الشعوب حينما تجد نفسها مستعدة لذلك، لأسباب معينة في ظروف وأحوال خاصة، لا نملك منها شيئًا في الحالة السورية، لكن تكمن الكارثة في أن هذه الأفكار تهدد فعليًا الثورة السورية كفكرة تدعو إلى وطن حر ديمقراطي ومستقل، هذه الفكرة التي كان السوريون يعتاشون عليها طيلة سنوات، بعدما أن أفِلت الثورة على صعيد العسكرة والمقاومة المسلحة.
الوعي السوري أفضل ما يمكن استثماره والتعويل عليه، في هذا الوقت الحرج ووسط هذه المعمعة والفوضى السياسية والعسكرية في سوريا
لا بد لنا اليوم، من غض أبصارنا عن الجغرافيا السورية المهترئة، ولا بد من نزع فتيل التفتت المشتعل، إن الشعب السوري اليوم لا يحتاج تحليلات إعلامية واستراتيجية لمشاريع الدول العظمى في سوريا، بقدر ما يحتاج لإعادة الحياة لأفكار الوطن والمواطنة والهوية السورية الجامعة، والدولة الديمقراطية التي تتسع لجميع السوريين على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم القومية والدينية والمذهبية والفكرية.
إن الوعي السوري أفضل ما يمكن استثماره والتعويل عليه، في هذا الوقت الحرج ووسط هذه المعمعة والفوضى السياسية والعسكرية في سوريا.