منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، تناول البعض الثورة كمسألة ثأر شخصية من الأنظمة القمعية، واتخذ من الثورة كفكرة مبدأ يمثل كل ما يدافع عنه المرء وهو قابع في أرض بلاده، من أجل تحريرها ونيل الحرية والكرامة، اتخذ البعض الآخر الثورة كحركة شعبية، كانت قد آتت ثمارها فترة وانهزمت فترات أخرى وما زالت الحرب سجالًا، أما البعض الآخر فاتخذ موقف المتفرجين، واكتفى بمتابعة الأخبار عبر وسائل الإعلام المختلفة حتى ملّ وانصرف عنها.
اتخذ البعض من غير السوريين موقفًا مغايرًا لكل ما سبقوا، ربما لإيمانهم الشخصي بفكرة الثورة، وربما لأنها كانت فكرة تطوف بلاده نفسها يومًا ما، إلا أنهم وجدوا الثورة في الراحلين عن بلادهم رغمًا عنهم، وهم اللاجئون، تاركين أغلى ما كان في حياتهم من تراب بلادهم وعوائلهم وذكرياتهم خلفهم إلى وجهة لا يعرفون مصيرها، فوجد البعض فيهم التحدي الكامل، لا سيما في الناجحين منهم، ممن يحاولون إعادة بناء الحياة في المنفى أو المهجر أو في بلد اللجوء.
كانت صاحبة فكرة مشروع “بناة الحياة في المنفى” واحدة من المجموعة السابقة، التي لم تتخذ موقف المتفرجة حيال قضية اللاجئين، بل وجدت فيهم الإلهام والإبهار، ووجدت فيهم أبطالًا مغمورين لا يتحدث الإعلام عنهم في صورة أبطال واختزلها في صورة العجز والانكسار، في صورة اللاجئين المتكدسين على الحدود والممرات المائية.
وجدت شيماء غيث، مصرية تقيم في تركيا، أن في قصص اللاجئين صورة أخرى لا يسلط الإعلام الضوء عليها، وهي صورة ملهمة اتخذتها هي نفسها هدفًا لمشروع يوثق مشاريع اللاجئين في بلاد المهجر أو اللجوء، حيث يهدف مشروع “بناة الحياة في المنفى” إلى توثيق التاريخ من وجهة نظر أخرى، من خلال التركيز على التحدي الذي تقبله هؤلاء اللاجئون في بلاد غريبة على ثقافتهم ولغتهم.
الصحافة والإعلام جزء من توثيق التاريخ، ولأن دورهما لم يكن شديد الإيجابية في تناول صورة اللاجئين السوريين في الإعلام، كان يجب على المجتمع المدني المهتم بقضية اللاجئين إبراز حل مخالف لتلك المنهجية
بدأ الأمر بكون المشروع مشروع تخرج شيماء بعد إتمامها برنامج الدراسات العليا في جامعة “بيلجي” التركية في مجال الإعلام، والذي بدأت شيماء العمل فيه منذ ثلاثة أعوام تقريبًا بعد تحويلها مجال دراستها من الهندسة الإنشائية إلى الإعلام.
شعار المشروع على موقعه الرسمي
كانت الفكرة والتنفيذ خاصة بشيماء وحدها مع إشراف أكاديمي من أكاديميين بجامعة “بيلجي” التركية في مدينة إسطنبول، أما عن المشروع نفسه فهو عبارة عن موقع إلكتروني متعدد الوسائط (Multimedia) يهدف إلى توثيق مشاريع اللاجئين في بلاد اللجوء، عن طريق عرض تلك المشاريع على هيئة قصص يمكن لأي زائر للموقع قراءتها على صفحة الموقع الرئيسية، أو من خلال مشاهدة فيديوهات أنتجتها شيماء لخدمة هدف الموقع.
تقول شيماء في حديثها لنون بوست إن الصحافة والإعلام جزء من توثيق التاريخ، ولأن دورهما لم يكن شديد الإيجابية في تناول صورة اللاجئين السوريين في الإعلام، بعد أن تناولتهم في صورة عبء على المجتمعات في بلاد اللجوء أو المهجر، واختزلت وصفهم في صورة الاحتياج الدائم إلى الغير بصورة ملحة ومزعجة أحيانًا، كان يجب على المجتمع المدني المهتم بقضية اللاجئين إبراز حل مخالف لتلك المنهاجية.
في متابعة لحديث شيماء مع نون بوست أشارت إلى أن صورة اللاجئين تلك ستبقى في الأذهان على الرغم من عدم صحتها، فاللاجئ ليس شخصًا معدوم الحيلة وعاجزًا بتلك الصورة المهينة، وإنما لديه طاقات وإمكانيات قد تساهم في المجتمعات التي تفد إليها تلك الوفود من اللاجئين اقتصاديًا، تمامًا كما حدث مع بلاد استضافتهم مثل تركيا ومصر.
نادرًا ما يتجاهل الإعلام أن اللاجئين في الأغلب يميلون لابتكار حلول لمساعدتهم بدلًا من الاعتماد الدائم على الغير، ففي رأي شيماء تكون أغلب المشاريع الخاصة باللاجئين في الأساس من بناة أفكار اللاجئين أنفسهم، فعندهم القدرة على بناء مشاريع خاصة بالإغاثة ومشاريع اقتصادية وربحية وتكنولوجية، إلا أن كل ما سبق صورة مُغيبة في الإعلام الخاص بتغطية قضية اللاجئين.
أحد المشروعات التي وثقها مشروع “بناة الحياة في المنفى”
عندما سأل نون بوست شيماء عن الهدف الأساسي للمشروع، أجابت بأنه محاولة صغيرة في تغيير طريقة تعاملنا مع قضية اللاجئين، والنظر إليها من وجهة نظر واقعية أكثر من كونها بروباجاندا، كما يهدف المشروع إلى توثيق مشاريع اللاجئين السوريين في بلاد المهجر، حيث بدأ المشروع مع اللاجئين الموجودين في تركيا، إلا أن شيماء ترغب في تمدد المشروع إلى بلاد اللجوء أو المهجر الأخرى، ومن ثم التطرق إلى قضايا لجوء أخرى.
صورة اللاجئين تلك ستبقى في الأذهان رغم عدم صحتها، فاللاجئ ليس شخصًا معدوم الحيلة وعاجز ًا بتلك الصورة المهينة، وإنما لديه طاقات وإمكانيات قد تساهم في المجتمعات التي تفد إليها تلك الوفود من اللاجئين
السوريون في غازي عنتاب
زارت شيماء مدينة غازي عنتاب، وهي مدينة من المدن الحدودية التركية مع الحدود السورية، ومن أكثر المدن التركية احتواءً لمخيمات اللاجئين السوريين، صورت شيماء هناك ثلاثة مشاريع، كان مقرها مدينة غازي عنتاب، كان أحد تلك المشاريع بعنوان “الأصالة السورية” وهو مشروع خاص بالفن السوري الأصيل من موسيقى وتمثيل، حيث يكون مؤسسو المشروع أنفسهم فنانين سوريين من مدينة حلب.
المشروع عبارة عن محاولة صغيرة في تغيير طريقة تعاملنا مع قضية اللاجئين، والنظر إليها من وجهة نظر واقعية أكثر من كونها بروباجاندا
ترجملي لايف
صورة من تطبيق مشروع “ترجملي شكرًا”
أما المشروع الثاني الذي وثقته شيماء من مشاريع اللاجئين في مدينة غازي عنتاب كان مشروع “ترجملي لايف”، وهو عبارة عن تطبيق إلكتروني يساعد على الترجمة الفورية من اللغة العربية إلى اللغة التركية والعكس، وهو المشروع الأكثر أهمية بالنسبة للاجئ السوري في تجاوز العائق الأساسي له في الحياة في تركيا وهو اللغة.
بيتنا سوريا
الصورة مأخوذة من موقع “بيتنا سوريا” الرسمي
أما المشروع الثالث، فكان مشروع “بيتنا سوريا”، وهو عبارة عن مؤسسة تساهم في ترابط وتشبيك المجتمع المدني السوري ودعمه وتدريبه، إيمانًا منهم أن الحل والأمل في القضية السورية يكمن في سواعد المجتمع المدني بعد انتهاء النزاع.
يقول المسؤول عن التواصل عمر الخاني في مشروع “بيتنا سوريا” في تقرير عن المشروع على موقع “بناة الحياة في المنفى” الأصلية بأن تحول الثورة إلى نزاع مسلح لا يعني أن الثورة توقفت، فالثورة تهدف لمحاربة الفساد المتأصل في المبادئ التي زرعها حزب البعث في سوريا، والتي يراهن شباب المشروع على سواعد المجتمع المدني في تغييرها ومحاربتها، فالعمل المدني لا يعتمد على السياسيين ولكن يعتمد على الأفراد أنفسهم.
تقول شيماء في حديثها عن مشروع “بناة الحياة في المنفى” بأن لكل مشروع جماله الخاص به، فكل منهم يسد ثغرة معينة، وفي كل منهم مقاومة جميلة لها رونقها الخاص وطريقتها المميزة، ولكن حينما سألناها عن أفضل المشاريع التي أثرت فيها، فكانت الإجابة عن مشروع “مرسم قباء”، وهو مشروع يضم مجموعة من الشباب المعماريين يحاولون تسليط الضوء على العمارة المستدامة.
تحول الثورة من ثورة سلمية إلى نزاع مسلح لا يعني أن الثورة توقفت، فالثورة تهدف لمحاربة الفساد المتأصل في المبادئ التي زرعها حزب البعث في سوريا، والتي يراهن شباب المشروع على سواعد المجتمع المدني في تغييرها
يركز شباب مشروع “مرسم قباء” على العمارة الخاصة بالعمارة السورية، حيث يركزون على أن إعادة إعمار سوريا هو شأن خاص بالسوريين وليس في حاجة لاستغلال الشركات الكبرى، كما يعمل الشباب القائمون على المشروع على التعريف بالعمارة السورية للأطفال السوريين الذين تركوا البلاد في عمر صغير لا يكفيهم لتذكر العمارة السورية الأصيلة.
شعار مشروع “مرسم قباء” هو: “معماريون وُجدنا في هذه الأرض المتعبة من الدمار، بين القلوب المثقلة، نحاول ما استطعنا رسم وجه البلاد الفرِح مع الناس وبالناس”.
أكدت شيماء أن المشروع فكرة شخصية تمامًا، ولم يحصل على الدعم المادي لا من جهات حكومية ولا غير حكومية، وأهم ما يحتاجه المشروع في المرحلة الحالية التسويق، لكي يخدم أهدافه المستقبلية في التمدد إلى خارج تركيا، للتركيز على مشروعات السوريين في البلاد التي أصبح إعلامها يشوه اللاجئين بشكل مستمر.