تشن قوات الاحتلال الإسرائيلي، منذ بدء حربها على قطاع غزة، حملات اعتقالات واسعة على أنحاء متفرقة من الضفة المحتلة، شملت اعتقال أكثر من 4655 فلسطينًا منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، من المنازل وعبر الحواجز العسكرية، ومن اضطروا لتسليم أنفسهم تحت الضغط، ومن احتجزوا كرهائن.
إحدى هذه الحملات، نفذتها قوات الاحتلال في 26 أكتوبر/تشرين الأول، في بلدة كوبر شمال غرب مدينة رام الله، اعتقلت خلالها نحو 18 فلسطينيًا من القرية، بينهم سهير البرغوثي – أم عاصف – أم الشهيد والأسرى وزوجة القيادي الراحل في حركة “حماس” عمر البرغوثي، الذي اعتقل ما مجموعه 30 عامًا في سجون الاحتلال.
تروي أم عاصف (64 عامًا) لحظات اعتقالها، وتقول إن الاحتلال نفذ حملة الاعتقالات في البلدة وكان بينهم أشقاؤها وأبناؤهم، ثم أحضرهم جميعًا إلى بيتها، ووقف الكابتن – مسؤول المنطقة في جيش الاحتلال – وقال: “ادخلوا إلى بيت الإرهابي الكبير إلي رباكم”، ولم تتوقع أم عاصف حينها الاعتقال، فالاحتلال يتعمّد مع كل اقتحام للبلدة، أن يقتحم بيتها ويفتشه ويلحق الأضرار بمقتنياته.
وتضيف أم عاصف لـ”نون بوست”: “أخبروني أنني معتقلة، ووضعوني في سيارة الاعتقال، وعلى طول الطريق إلى سجن عوفر ضربوا أخوتي، وشتمونا بألفاظ مهينة، ثم أنزلوني في السجن وأخذوا بصمتي، وبدأ الاعتقال الأصعب في حياتي، فقد اعتقلت سابقًا وقت استشهاد ابني صالح، لكن لم يكن بقساوة هذه المرة”.
والشهيد صالح البرغوثي، نجل أم عاصف، استشهد في ديسمبر/كانون الأول 2018، بعد أيام من المطاردة أعقبت تنفيذه عملية إطلاق نار أسفرت عن إصابة 11 مستوطنًا، كما اعتقل شقيقه عاصم البرغوثي، مطلع يناير/كانون الثاني 2019، بتهمة تنفيذ عملية انتقامية بعد ساعات من اغتيال شقيقه أدت إلى مقتل جنديين إسرائيليين وإصابة آخرين، وحكم عليه بالسجن 4 مؤبدات (25 عامًا كل مؤبد) و30 سنة، وشقيقهم الثالث الصغير محمد، وهو معتقل منذ نحو 3 سنين بقرار إداري دون توجيه تهمة.
“حين دخلت الزنزانة، وجدتُ الأسيرة رقية عمرو من الخليل ملقاة على الأرض فاقدة الوعي، حاولت أن أوقظها وأخبرتني أن الضابط ضغط عليها بقدمه لمدة ثلث ساعة، كما شهدتُ تفتيشًا عاريًا للأسيرات مثل الصحفية لما خاطر ومريم سلهب، وضرب جندي لإحدى الأسيرات في منطقتها الحساسة وتهديدًا بالاغتصاب للنساء”، تقول أم عاصف.
وعندما نقلها الاحتلال إلى سجن الدامون، حيث تقبع الأسيرات الفلسطينيات، وجدت أم عاصف أوضاعًا مأساوية، من قلة الطعام وسوء نوعيته، والازدحام في الغرفة الواحدة لضم 11 أسيرةً بدلًا من 6 في وضع ما قبل الحرب، وسحب للأجهزة الكهربائية وهي سخان المياه الكهربائي وآلة تسخين الطعام، وقطعًا للكهرباء، ومنعًا للأسيرات من الحصول على الفوط الصحية عند قدوم الدورة الشهرية.
وبحسب أم عاصف، وهي مريضة بارتفاع الضغط والسكري، تعمد الاحتلال الإهمال الطبي لها ولبقية الأسيرات، حتى إن أسيرة أصيبت بإمساك شديد من سوء الطعام المقدم، وكانت تصرخ من شدة الألم، فجاءت المجندات برفقة الطبيبة وفحصوها داخل السجن، وخرجوا وهم يضحكون ويستهزئون بها، قبل أن يعطوها ملينًا للأمعاء، بدأ مفعوله بعد 3 أيام.
وأفرجت قوات الاحتلال عن الأسيرة المحررة أم عاصف، في صفقة تبادل أسرى مع حركة المقاومة الإسلامية حماس، في نوفمبر/تشرين الثاني، خلال أيام الهدنة السبع وسط عملية طوفان الأقصى الممتدة من 7 أكتوبر/تشرين الأول.
شهادة اغتيال داخل الأسر
كان محمود قطناني (19 عامًا)، من مخيم عسكر في مينة نابلس، في زيارة لشقيقه الأسير حمزة في سجن مجدو في 28 أغسطس/آب 2023، قبل أن يدرك أن هذه الزيارة ستتحول للحظة اعتقال له، حيث اعتقلته قوات الاحتلال لحظة خروجه من غرفة الزيارة وحولته للاعتقال الإداري، فيما تستمر باعتقال شقيقه الثالث حسام منذ 10 أعوام وقد حكمت عليه بالسجن 11 سنة، واعتقلت لاحقًا شقيقه الرابع محمد، مطلع سبتمبر/أيلول 2023.
نقلت إدارة السجون قطناني إلى سجن النقب، بعد تحقيق مطول معه، ولم يكن تجاوز الـ19 بعد، بشأن التخطيط لعمليات عسكرية، والتواصل مع الكتائب المسلحة في مخيم جنين، وتنفيذ عمليات إطلاق نار نحو حواجز الاحتلال في مدينة نابلس، وسلمته قرارًا بالاعتقال الإدراي لمدة 6 أشهر، بعد أسبوعين من اعتقاله، وظن قطاني أنه قد يلتحق بأخيه حسام في سجن النقب، لكن الاحتلال منعه من أن يجتمع بأخيه هناك.
ويتحدث قطناني لـ”نون بوست” عن تفاصيل صعبة خلال فترة اعتقاله، لا سيّما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، حيث تعمدت قوات الاحتلال إدخال وحدات القمع مع كلابهم إلى أقسام الأسرى، والهجوم عليهم وضربهم، ثم إطلاق سراح الكلاب نحوهم، ويقول: “أصابتني صدمة نفسية من حجم التعذيب والقمع، هذا هو الاعتقال الأول لي ولم أخف مثلما خفت في الاعتقال”.
أما التفاصيل الأصعب التي يرويها قطناني، فهي تفاصيل استشهاد الأسير ثائر أبو عصب في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، خلال حملات القمع والضرب المتواصلة بحق الأسرى كإجراء تنكيلي انتقامي بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، “دخلت علينا وحدة القمع، وانهالوا علينا بالضرب مع كلابهم، وبعدما خرجوا تفقدنا بعضنا في الغرفة، وجدنا الأسير أبو عصب ملقى على الأرض وقد خرج جزء من دماغه خارج رأسه، وتحوّلت الأرضية إلى بركة من دمائه، نادينا مطولًا على السجانين، لكنهم رفضوا القدوم إلا بعد إنهاء فترة “العد” في جميع الأقسام، أي بعد ساعتين على الأقل، وكان أبو عصب قد استشهد حينها”.
ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، استشهد 6 أسرى فلسطينيين تحت التعذيب في سجون الاحتلال، وهم عمر دراغمة من مدينة طوباس، وعرفات حمدان من رام الله، وماجد زقول من مدينة غزة، وشهيد رابع لم يتم التعرف على هويته، وعبد الرحمن مرعي من سلفيت، وثائر أبو عصب من قلقيلية، وفق بيانات نادي الأسير الفلسطيني، ومؤخرًا، كشفت مصادر عبرية أن 19 عنصرًا من قوات الاحتلال شاركوا باغتيال الأسير أبو عصب.
أما قطناني فأفرجت عنه قوات الاحتلال في صفقة تبادل أسرى مع حركة المقاومة الإسلامية حماس، في نوفمبر/تشرين الثاني، خلال أيام الهدنة وسط عملية طوفان الأقصى.
الأسرى المرضى
بعد نحو 62 يومًا من مطاردة الأجهزة الأمنية الفلسطينية له، اعتقلت قوات الاحتلال الشاب أحمد هريش (29 عامًا) من بلدة بيتونيا غرب رام الله، نهاية مايو/أيار 2023، وحولته إلى الاعتقال الإداري في سجن عوفر، رغم أنه يعاني من حالة صحية صعبة، نتيجة التعذيب المستمر لـ158 يومًا في سجون السلطة في رام الله وأريحا.
وهريش، الذي روى محاميه خلال فترة اعتقاله لدى السلطة الفلسطينية أنه واحد من أشد 5 حالات تعرضت للتعذيب لدى السلطة منذ قدومها عام 1994، وخرج من الاعتقال بعد إضراب عن الطعام، وتعذيب شديد أفضى إلى مشاكل في ركبته وعدم مقدرته على الحركة إلا على كرسي متحرك.
تقول شقيقته أسماء هريش إن الاحتلال اعتقل شقيقها في إطار التنسيق الأمني المتواصل مع السلطة، رغم حالته الصحية، وعدم وجود قضية فعلية للحكم عليه، فقط رغبتهم بالانتقام، ومع حالته الصحية والنفسية الصعبة تواصلنا مع أطباء لحقوق الإنسان في الداخل المحتل، الذين تمكنوا من زيارته في الأيام الأولى لاعتقاله لدى الاحتلال، واطلعوا على وضعه الصحي.
بحسب قول هريش لـ”نون بوست” تمكنوا من زيارة أحمد مرة واحدة في سبتمبر/أيلول 2023، وكان من المفترض أن تكون الزيارة الثانية منتصف أكتوبر/تشرين الأول، لكن بعد اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، توقفت كل الزيارات، وحتى المحامين لم يسمح لهم الاحتلال بالزيارات إلا ما ندر، وسحب الاحتلال أجهزة الهواتف التي كان بعض أهالي الأسرى هربوها لكي نستطيع التواصل معهم، وانقطعت أخبار هريش المصاب عن عائلته.
وليس أحمد وحده من جرى اعتقاله، فبعد اندلاع الحرب الإسرائيلية، وخلال حملات الاعتقال الموسعة، اعتقلت قوات الاحتلال والده نوح هريش (58 عامًا) مطلع نوفمبر/تشرين الثاني، وتروي ابنته أسماء: “في البداية اعتقلوا شقيقي الآخر محمود واعتدوا عليه بالضرب مع ساعات الفجر رغم أنه أصيب إصابة خطيرة في رأسه برصاصة الاحتلال في حرب غزة 2014 خلال تغطيته كصحفي للحرب، وظهر هذا اليوم اتصل بنا “كابتن المنطقة”، وهدد والدي إن لم يسلم نفسه فسيعيدون ضرب محمود مرة أخرى، فذهب والدي المصاب بارتفاع الضغط والسكري إلى سجن عوفر، واعتقلته قوات الاحتلال هناك”.
وكحال جميع الأسرى المرضى، لم يسمح الاحتلال لهريش بإدخال أدويته كما هو الحال قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، كما سحبت من الأسرى جميعًا بقية ملابسهم، ولم تبقِ إلا على الملابس التي يرتدونها في ظل الأجواء الباردة، لا سيما في سجن النقب الصحراوي، وسمحت بساعةٍ واحدة فقط لقدوم المياه لجميع الأقسام في السجن، سيستخدمها 11 أسيرًا على الأقل خلال هذه الساعة للاغتسال وقضاء الحاجة اليومية.
أسرى غزة: قتل وتنكيل
منذ بدء العدوان على قطاع غزة والعملية البرية، اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 1000 غزي من الرجال والنساء والأطفال وكبار السن، وعرضتهم لظروف انتقامية واسعة، وتنكيلية مهينة، فضلًا عن إعدامات ميدانية، كما حصل مع من اعتقلتهم من المستشفيات ومراكز النزوح شمال قطاع غزة.
وكشف تحقيق لصحيفة “هآرتس” العبرية، في 18 ديسمبر/كانون الثاني 2023، أن مئات الأسرى الفلسطينيين من قطاع غزة محتجزين داخل معتقل للاحتلال قرب بئر السبع جنوب فلسطين المحتلة، وأن بعض الأسرى ارتقوا شهداء داخل المعتقل، بينما يزعم جيش الاحتلال أنه يجري التحقيق بظروف ارتقائهم.
ووفق الصحيفة فإن ذلك المعتقل أقيم في معسكر “سدي تيمان” التابع لجيش الاحتلال، وأضافت أن الأسرى من كل الأعمار داخل المعتقل منهم أطفال ومسنون، بينما تمنع القيود التي وضعت عليهم من تحركهم بحرية، بينما جرى نقل نساء وفتيات فلسطينيات اعتقلهم الاحتلال بعد الدخول البري للقطاع إلى معسكر “عناتوت” الاحتلالي قرب القدس.
وجمع المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان شهادات لمعتقلين تم الإفراج عنهم من المعسكر الإسرائيلي المذكور، أظهرت تعرضهم إلى أنماط متعددة من التعذيب وسوء المعاملة، وجرى منعهم من استخدام الهواتف، ولم يحظوا بفرصة لقاء محامين أو بزيارات من اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
وأكد هؤلاء وجود مسنين معتقلين تعرضوا للضرب المبرح والمعاملة المهينة، بالإضافة إلى تكبيل أيدي وأرجل المعتقلين في الحافلة خلال نقلهم واحتجازهم دون ماء أو طعام وهم مكبّلون ومعصوبو الأعين، فيما يُقابل بالعنف والشتائم كل من يحاول طلب شيء.
ونقل المرصد عن أحد المفرج عنهم (طلب عدم ذكر اسمه خشية الانتقام منه)، قوله إنه شهد إطلاق جنود إسرائيليين الرصاص بشكل مباشر على 5 من المعتقلين وتصفيتهم في حالات منفصلة، فيما وثق نادي الأسير الفلسطيني تصنيف الاحتلال 260 أسيرًا من قطاع غزة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول كـ(مقاتلين غير شرعيين).
وبحسب نادي الأسير، تجري حكومة الاحتلال تعديلات على تعليمات التنفيذ لقانون المقاتل غير الشرعي التي كان آخرها يوم 5 ديسمبر/كانون الأول، حيث يتاح احتجاز المعتقل فترة 42 يومًا قبل إصدار أمر الاعتقال، وتجري عملية المراجعة القضائية للأمر بعد 45 يومًا من توقيعه، كما يُمنع المعتقل من لقاء محاميه حتى 80 يومًا.
وعمل الاحتلال على تعديل قانون الاعتقالات 1996، الذي يطبق على الأسرى من قطاع غزة الذين يخضعون للتحقيق في مراكز التحقيق، حيث يتم تمديد توقيف المعتقل لمدة 45 يومًا للتحقيق وتمدد لفترة 45 يومًا إضافية، ويمنع من لقاء محاميه طوال هذه الفترة، دون أي رقابة فعلية من المحكمة على ظروف احتجازه وهل يتعرض للتعذيب أم لا.