مع بدء الإعلان عن حصار قطر انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي الصور لاكتظاظ الناس في محلات المواد التموينية بالدوحة، بالإضافة إلى صور للأرفف الفارغة، مع التعليقات بأن هناك بوادر أزمة غذائية ونقص في السلع الأساسية. الأمر الذي خلق حالة من القلق للمتابعين مع تسرب الخوف إلى النفوس، لكنه ما لبث أن انتهى سريعا بعد تبين زيف هذه الصور.
لاحقا يستمر نشر الصور الكاذبة والمضللة بل ويشترك مثقفون في عمليات الكذب والتضليل حول قطر ومن بينهم كاتبة سعودية نشرت صورة تُظهر مطار الدوحة خاليا من المسافرين، وأبدت تعاطفها مع أهل قطر لما لحق بهم جراء ما ارتكبته قيادتهم بحقهم، وبالطبع صدّقها كثيرون ممن ينحازون إلى الطرف المُحاصِر، وأولئك الذي لا يكلفون أنفسهم عناء البحث عن مصادر أخرى لمعرفة الحقيقة.
الصور والفيديوهات المفبركة التي تنتشر كالنار في الهشيم، لا تختلف عن تلك اللقطة المختلقة في الفيلم الروائي الأمريكي (Wag the Dog) لفتاة ألبانية تحمل قطتها وسط البيوت المدمرة بفعل الحرب في بلادها وتهرب من العصابات الإرهابية، لكن الحقيقة في الفيلم، أن اللقطة تم تصويرها في استوديو كروما، وحتى القطة نفسها بين يدي الفتاة تم تركيبها لاحقا في المونتاج.
(هزّ الكلب) يُستخدم هذا المصطلح في اللغة الإنجليزية للإشارة إلى تحويل الانتباه عن حدث معين إلى حدث آخر وأيضا لقلب الحقائق والمعلومات، وتقول النكتة كما وردت في بداية الفيلم
المقطع من الفيلم الذي يتم فيه تنفيذ لقطة الفتاة الألبانية
الأزمة الخليجية وإعلان دولة قطر عدوة للخليج ومحاصرتها، ومراحل تطورها تشبه في الكثير من تفاصيلها أحداث الفيلم الأمريكي نفسه والذي تم إنتاجه عام 1997 وأخرجه الأمريكي باري ليفنسون، وربما تكون الترجمة الأنسب له بالعربية هي (هزّ الكلب) ويُستخدم هذا المصطلح في اللغة الإنجليزية للإشارة إلى تحويل الانتباه عن حدث معين إلى حدث آخر وأيضا لقلب الحقائق والمعلومات، وتقول النكتة كما وردت في بداية الفيلم:
لماذا يهز الكلب ذيله؟
الجواب : لأن الكلب أذكى من ذيله..
ولو كان ذيل الكلب أذكي من الكلب..
لهز الذيل الكلب..!!
ويتناول الفيلم قصة رئيس أمريكي تُوجه له فتاة قاصرة اتهامات بالتحرش الجنسي وذلك قبل موعد الانتخابات الرئاسية بأحد عشر يوما، الأمر الذي يدفع أحد المستشارين في حملته الانتخابية كونراد برين-ولعب دوره روبرت دي نيرو-إلى الاستعانة بالمنتج في هوليوود ستانلي موتس-ولعب دوره داستن هوفمان-من أجل خلق قصة تغطي على فضيحة الرئيس.
وتكون واحدة من أهم الخطوات للتغطية على الفضيحة اختلاق صورة (لقطة تلفزيونية) للتأثير على الجمهور وتكسب تعاطفه، وبنفس الوقت لإكمال القصة الوهمية، يجب إيجاد عدو وخلق حرب معه، وتكون دولة ألبانيا هي الهدف، ويظل السؤال المتكرر طوال الفيلم “لماذا ألبانيا، ماذا فعل الألبان لنا؟” ويأتيهم دوما الجواب نفسه من المستشار “ماذا عملوا هم (قدموا) لنا؟”
ولكن المُنتج ستانلي موتس يجعل سبب اختيار العدو أكثر قابلية للإقناع، ويتضح ذلك من حواره مع المستشار:
ستانلي موتس: لماذا ألبانيا؟ ماذا يريدون؟
كونراد برين: الحرية؟
ستانلي موتس: لماذا يريدون ذلك؟
كونراد برين: الاضطهاد؟
ستانلي موتس: لا لا لا.. تبا للحرية
إنهم يريدون تحطيم الشيطان الأمريكي الكافر، يريدون تدمير طريقة حياتنا…!!
مقتطفات من الفيلم وفيها الحوار بين المستشار والمنتج حول ألبانيا
يتم العمل على تأليف أغنية لكسب تعاطف الناس، وتدور فحواها حول ضرورة الحفاظ على الحلم الأمريكي.. وما جاء في هذه الأغنية لا يختلف عما تُردده دول الحصار إذ تصر على أن قطر بدعمها لثورات الربيع العربي تُهدد الحلم الخليجي بالأمن والوحدة والاستقرار.. لكن هل يكفي ذلك؟
يجب حبك قصة تشير إلى كيفية تقويض قطر لدعائم استقرار الخليج.. وفي الفيلم الأمريكي، يتم الزعم بأن ألبانيا تمتلك قوة نووية وسيتم تهريبها إلى أمريكا من أجل تفجيرها.. وتكون الخطوة الأولى قبل كل شيء من خلال وسائل إعلام يجب عليها البدء بتحويل الاهتمام عن الفضيحة، فيتم توجيه الأسئلة في أحد المؤتمرات الصحفية للرئاسة الأمريكية حول ما إذا كانت أمريكا ستشن حربا على ألبانيا، فيبدأ الصحفيون والناس بالانصراف تدريجيا عن فضيحة الرئيس.. طبعا مع بث الفيديو للفتاة الهاربة مما يخلق حالة من التعاطف تستوجب تدخل أمريكا في هذه الحرب لإنقاذ نفسها وإنقاذ الأبرياء..
وفي الحملة ضد قطر يتواصل نشر الصور ومقاطع فيديو مجتزئة من سياقها لتشويه سمعتها ولإظهار مدى معاناة الناس فيها بسبب تعنت الحكومة القطرية بعد إعلان الحصار، فالناس كما قال المستشار للمنتج في الفيلم “تتذكر الصور وتنسى الحرب”. وذلك بعد حوار بينهما سأله خلاله المنتج: ماذا تريد مني أن أفعل، يجب أن يكون لديك حربا !!” ثم يجد علامات الرضى على وجه المستشار، فيكمل كلامه:
“أنت تمزح.. أنت لا تمزح؟ أنا أعمل في صناعة الترفيه Show business)) فلماذا جئت إلي؟”
يرد عليه المستشار بأن عملهم هو أيضا صناعة الترفيه ويبدأ بتذكيره ببعض الشعارات والصور منها صورة الطفلة الفيتنامية العارية التي تركض هربا من قنابل النابالم الأمريكية.
وقد بدأت الحملة ضد قطر بتصريحات مفبركة نُسبت لأميرها، وحتى هذه اللحظة لا يوجد أي توثيق بصري أو سمعي لها، مع ضخ إعلامي من قبل وسائل إعلام مختلفة وخصوصا قنوات فضائية موجهة بأن هذه التصريحات عدائية وضد دول الخليج وبأنها تتغنى بالعلاقات مع إيران.
وإذا تساءل البعض “لماذا قطر؟” ربما يأتيه الجواب من ترمب أو من أحد مناصريه أو من الذين دفعوا له المليارات “لأن قطر لم تدفع لنا شيئا “..!!
إذن عناصر الفيلم أو القصة الوهمية مكتملة؛ وسائل إعلام تُشتت الانتباه عن أمر ما، من خلال ما سُمي بـ (تصريحات تميم)، ثم الزعم بأن قطر تدعم الإرهاب، ولاحقا بث صور لخوف الناس وهلعهم من نقص الغذاء والذي تتحمله قطر نتيجة أفعالها.
المقطع من الفيلم الذي وردت فيه العبارة (أنت تتذكر الصور وتنسى الحرب)
وكما جاء في الفيلم “نحن لا نعلن الحرب.. نحن ذاهبون للحرب”، كذلك كان تصرف دول الحصار “نحن لا نُعلن الحصار.. نحن سنحاصرهم” فلم تطرح شكواها ضد قطر في مجلس التعاون الخليجي كما يُفترض، بل وأعدت قائمة بمطالب تدرك مسبقا بأنها ستُرفض، فما وُضعت إلا لأجل ذلك.
الفرق بين الفيلم والواقع في أن الحرب كانت مختلقة بينما الحصار حقيقي، ولكن الخطوات هي نفسها في محاولة للتأثير على الرأي العام، والفزاعة المستخدمة هي نفسها. فزاعة الإرهاب، فالمعارضة الألبانية (جماعات إسلامية متطرفة) تشكل تهديدا في الفيلم، وتزعم دول الحصار بأن هناك جماعات متطرفة في سوريا وليبيا وغيرها تدعمها قطر، بالإضافة طبعا إلى حركة المقاومة الإسلامية حماس..
تبدأ وساطة خليجية برعاية أمير الكويت، وتشير أخبار أولية بأن هناك بوادر لحل الأزمة لكن الوساطة في حينها لم تنجح، وكذلك في فيلمنا حينما تُعلن المخابرات الأمريكية- السي آي إيه- التي تعارض ما قام به مستشار الرئيس الأمريكي، أن التهديد قد اختفى، فلا يعجب المنتج ذلك ويقول للمستشار:
“الحرب لا تنتهي، حتى أقول أنا ذلك، هذا فيلمي وليس فيلم المخابرات”
ولكن كيف يمكن الخروج من هذا المأزق؟ كيف يمكن للحرب (الحصار) أن تستمر؟ وكيف يمكن كسب تعاطف الناس لصالح دول الحصار وكيف يمكن لتحريضهم ضد قطر أن يستمر؟
في كل حرب أو أزمة يجب أن يكون هناك بطل ما، حتى وإن تمت التضحية به لاحقا.. وبالفعل يتم الزج باسم أحد الجنود ويتم النشر عبر وسائل الإعلام بإن هذا الجندي أسير لدى جماعة متطرفة ويجب إنقاذه، ويتم اختيار اسم رمزي له هو (الحذاء القديم) مع تأليف أغنية شعبية عنوانها (الحذاء القديم الجيد) ثم يتم وضعها في أرشيف مكتبة الكونغرس حتى يظن الناس بأنها أغنية قديمة وبالفعل يصدقون ذلك، ثم يقوم المستشار والمنتج بعمل حركة ذكية بإلقاء أزواج من الأحذية القديمة على أغصان الأشجار وفي اليوم التالي يبدأ الناس بإلقاء الأحذية القديمة على الأسلاك بل ويرمونها في أرض الملعب خلال إحدى المباريات تعاطفا مع الجندي البطل، كما ويظهرون مدى كراهيتهم لألبانيا.
مقطع من الفيلم حول اختلاق قصة الجندي البطل، وإلقاء الأحذية القديمة
وفي المشهد الواقعي في هذه الأزمة لم يكن هناك بطل، بل بطلان يُفترض أن تظهرهما الحملة ضد قطر، في حال نجحت، بأنها استطاعا القضاء على الإرهاب وهما الأمير السعودي محمد بن سلمان والشيخ الإماراتي محمد بن زايد. ولكن عقّد الموقف تساؤل الناس عن أسباب اختفاء حاكم الإمارات الشيخ خليفة بن زايد، وكذلك الرجل القوي في السعودية ولي العهد الأمير محمد بن نايف عن المشهد..
وفي الفيلم تتعقد الحبكة، بعد أن تسقط الطائرة العائدة بالجندي البطل الذي تم إنقاذه، وكان على متن الطائرة المستشار والمنتج واللذين تبين لهما خلال الرحلة بأن الجندي متهم باغتصاب راهبة ومريض نفسيا، وكان هو نفسه سبب سقوط الطائرة بسبب نوبة أصابته. ولكن ينجو من كان على متنها بعد سقوطها في إحدى الغابات ويحاولون البحث عن وسيلة تنقلهم لمكان مأهول إلى أن تصادفهم شاحنة تنقلهم إلى أحد المحلات، وهناك يحاول الجندي الاعتداء على فتاة فيتم قتله.. فيصبح المستشار والمنتج أمام مأزق أكبر، ولكن المنتج موتس يجد الحل في إعلان أن الطائرة سقطت ويجب إقامة جنازة عسكرية للجندي البطل، وبحيث يشاهدها الناس.
وفي الأزمة الخليجية، ومع فشل محمد بن زايد ومحمد بن سلمان في تحقيق أهداف الحملة في مدة قصيرة، كان لا بد من فيديو يظهر فيه بن نايف (بعد عزله) وهو يبايع بن سلمان وليا للعهد، وفيديو آخر يظهر فيه الشيخ خليفة بن زايد يستقبل المهنئين بعيد الفطر، قبل أن ترد الأخبار بأنه غادر البلاد دون الإفصاح عن وجهته..
الشيخ خليفة بن زايد يتقبل التهاني من حكام الإمارات
فيديو لتشتيت انتباه الناس عن الأسباب الحقيقية وراء عزل بن نايف، وللتأكيد على أن البطل في هذه الأزمة سيكون بن سلمان، ومن يُشاهد الفيديو يظن بأن المبايعة تمت طوعا، كدلالة على وحدة الأسرة الحاكمة، والفيديو الآخر لخليفة بن زايد يظهر فيه ضعيفا بسبب تردي حالته الصحية.. وبالتالي يُصبح مبررا تولي محمد بن زايد زمام الأمور في الإمارات لقيادة الحملة ضد الإرهاب القطري.
مبايعة الأمير محمد بن نايف للأمير محمد بن سلمان
من المفارقات في الفيلم أنه بعد أن يعطي المستشار لرجاله الأمر بقتل المنتج الذي هدد بفضحهم لأنه لم يحصل على التقدير المعنوي اللازم له، نشاهد السائق الذي أقلّهم، وهو مهاجر غير شرعي، يقف منتشيا يؤدي القسم أمام قاضية ليصير مواطنا، حيث تم شراء سكوته بمنحه الجنسية، وبدون المرور بأية إجراءات حكومية أو قانونية، وفي سياق واقعي مشابه، يُقال بأن هناك “رجل دين” حصل على جنسية إحدى دول الحصار بساعتين فقط، ولكنه لم يلتزم الصمت، وربما دفعته عُقدة إثبات الولاء أو محاولة الحصول على بعض الغنائم إلى التحريض ضد قطر، وقبلها كان مغردا ضد علماء دين كبار موجها الاتهام لهم بالتحريض على الأنظمة العربية ودعم الإرهاب.
المشهد الذي يعطي فيه المستشار الأمر لرجال لقتل المنتج
بعد نجاح خطة المستشار كونراد برين وإعلان وفاة المنتج ستانلي موتس بسكتة قلبية، ينتهي الفيلم بخبر حول قصف المعارضة المتطرفة في ألبانيا لإحدى القرى هناك، وبأن الرئيس غير متواجد للتعليق، ولكن مع تصريح لقائد الجيش الأمريكي بأنه سيتم إرسال الطائرات والقوات لإكمال مهمتهم.
تستمر الأزمة الخليجية، وربما كان يأمل المخططون للحصار أن تستسلم قطر لهم بعد المشهد الأول، مثل الفيلم.. فخلال التخطيط لخلق الحرب الوهمية، يدور الحوار التالي:
– المنتج: “ألبانيا تنكر كل شيء.. ثم الرئيس الأمريكي يظهر على الهواء ويكون هادئا.. المشهد الثاني..”
– المستشار: لسنا بحاجة إلى مشهد ثان، نحن بحاجة فقط إلى أن نلفت انتباههم خلال الأحد عشر يوما”
– مُساعدة المستشار: “الرئيس يسأل عن ردة الفعل المحتملة للألبان؟”
– المستشار: “لا يمكن خوض حرب بدون عدو.. ولكن الرد سيكون غبيا..!!”
لكن الرد القطري كان قويا، وأغفلت دول الحصار أن في قطر وسيلة إعلامية مثل الجزيرة، يطالبون بإغلاقها، نجحت في أن تشكل بالإضافة إلى الدبلوماسية المتزنة للحكومة القطرية، درعا ضد محاولات تشويه سمعة قطر وتحريض المواطنين والمقيمين ضد النظام، ولم تفلح محاولاتهم في تجنيد ما يمكن من مؤثرين على السوشيال ميديا (من الكتاب والمثقفين ورجال الدين ونجوم الرياضة. الخ) لنشر الأكاذيب وفبركة الأخبار، وغاب عنهم بأنه من السهل كشف زيفهم، كمثل ذلك الذي كان في يوم ما مديرا لفضائية إخبارية عربية ينشر على صفحته بأن الدوحة مدينة أشباح، وكأن قطار الزمن فاته فلا يعلم بأن كذبة مثل هذا يُسقطها بث حي من موبايل أي إنسان عادي يسكن في قطر..
وحتى الآن تسير الأمور لصالح النظام القطري الداعي إلى حل الأزمة بالحوار والتفاوض..بينما يجد المُحاصرِون أنفسهم في مواقف محرجة وهم يحاولون اختلاق الكذبة تلو الأخرى والتي تزيد من عُمر الأزمة بين الأشقاء، وعلى الرغم من فشل محاولاتهم في قلب الحقائق، تظل الحقيقة الثابتة كما يقول المثل الشعبي “ذيل الكلب عمره ما ينعدل”.
ومع استمرار المشهد تعقيدا بانتهاء المهلة التي مُنحت لقطر لتنفيذ مطالب دول الحصار، ثم تمديدها، وضبابية السيناريوهات القادمة، ربما يطلب المخططون لهذه الأزمة (السعودية، الإمارات، البحرين، مصر) من المخرج الأمريكي صناعة جزء ثان من الفيلم علهم يجدوا لهم مخرجا من المأزق الذي وضعوا أنفسهم فيه.