لن يكون حديثنا عن إحدى القوى التقليدية في عالم الساحرة المستديرة، ولا عن بلدٍ يتردد اسمه كثيرًا في نشرات الأخبار، بل عن مجموعةٍ من المحاربين أصحاب الطموح، الذين كتبوا بهمتهم وعزمهم تاريخًا جديدًا لبلادهم، التي كانت شبه منسيةً على الخارطة الكروية.
إنه منتخب تشيلي لكرة القدم، والذي يعيش أفضل أطوار تاريخه الكروي، بعد بلوغه نهائي كأس القارات مؤخرًا، وإحرازه لقبي النسختين الأخيرتين من بطولة كوبا أمريكا، فضلًا عن احتلاله المركز الرابع في التصنيف العالمي للمنتخبات الذي تصدره الفيفا، متفوقًا على معظم القوى الكروية العالمية الكبرى.
فماذا عن هذا البلد اللاتيني الذي يقع في أقصى الأرض؟ وهل من إنجازاتٍ كرويةٍ تُذكر لمنتخبه الوطني قبل الأعوام الثلاث الماضية؟ وما أبرز الأجيال التي مرت عليه عبر تاريخه؟ ولماذا يعد الجيل الحالي الأفضل في تاريخ الكرة التشيلية؟ تعرف ذلك في سياق المقال التالي، الذي يحكي قصة المنتخب الأحمر العنيد.
شعار منتخب تشيلي “لاروخا”
تقع جمهورية تشيلي أقصى الجنوب الغربي للقارة الأمريكية الجنوبية، مشكلةً الشريط الساحلي الضيق للقارة على المحيط الهادي، وتحدها كل من الأرجنتين والبيرو وبوليفيا، وتبلغ مساحتها 756 ألف كم2، وعدد سكانها نحو 17 مليون نسمة بحسب تقديرات عام 2011، ويتحدث معظمهم اللغة الإسبانية التي تُعد الرسمية في البلاد، التي نالت استقلالها عن المملكة الإسبانية عام 1818، بعد نحو 3 قرونٍ من الاحتلال.
تشتهر جمهورية تشيلي اللاتينية بجبال الأنديز وطيور الكوندور وأيائل الهويمول
وتُعد سانتياغو المركز الاقتصادي والاجتماعي الأهم في البلاد، فضلًا عن كونها عاصمتها السياسية وأكبر مدنها، وكان معظم سكان تشيلي يعملون في الزراعة وصيد الأسماك، قبل أن يتم اكتشاف كمياتٍ كبيرةٍ من البترول والنحاس والحديد والذهب داخل أراضي البلاد، التي تجمع ما بين الصحاري القاحلة في شمالها، والمراعي الخضراء والغابات الوارفة في جنوبها، إضافةً إلى سلسلة جبال الأنديز التي تشكل معظم الشريط الحدودي الشرقي مع جارتها الآرجنتين، تلك الجبال التي تُعد إحدى رموز الثقافة التشيلية، إضافةً إلى طيور الكوندور وأيائل الهويمول التي تستوطن جبال الأنديز، كما تُعد نبتة الفلفل الحار من رموز تلك البلاد، حتى إن اسمها “Chile” مستمد منها.
منتخب تشيلي صاحب المركز الثالث في كأس العالم 1962
ورغم قدم ظهور كرة القدم في تشيلي، حيث يعود تاريخ تأسيس اتحادها المحلي لعام 1895، وتاريخ أول مباراة رسميةٍ لمنتخبها الوطني إلى عام 1910، فإن الكرة التشيلية بقيت بعيدةً عن إنجازات جيرانها في أمريكا اللاتينية، وخاصةً البرازيل والأرجنتين والأورغواي، فاكتفت بشرف المشاركة في أول نسخةٍ من كأس العالم في الأورغواي عام 1930، حيث ودعت البطولة من دورها الأول، وهو ما تكرر في مشاركتها الثانية في مونديال البرازيل عام 1950، قبل أن يشهد مونديال عام 1962 الذي استضافته تشيلي ذاتها، تسجيل أفضل نتيجةٍ لمنتخب الحمر “لاروخا” في تاريخ مشاركاتها في كأس العالم، حين حلوا في المركز الثالث خلف كلٍ من البرازيل وتشيكوسلوفاكيا، وهو الإنجاز الذي فشل محاربو الأنديز في تكراره على مدى مشاركاتهم الستة التالية في بطولات كأس العالم، والتي ودعوا منافساتها من الدورين الأول أو الثاني.
شاركت تشيلي في النسخة الأولى من بطولة أمريكا الجنوبية عام 1916 وفي أول بطولة كأس عالم عام 1930
أما في البطولة القارية، فرغم أن تشيلي تُعتبر إحدى مؤسسي الاتحاد الأمريكي الجنوبي للعبة “الكومبيبول”، وإحدى البلدانٍ الأربع المشاركةٍ في أولى بطولاته القارية عام 1916، إلا أنها فشلت في معانقة اللقب القاري على مدى مشاركاتها الكثيرة قبل عام 2015، رغم اقترابها من تحقيق الإنجاز المنشود ببلوغها المباراة النهائية في أربع مناسباتٍ، أعوام: 1955، 1956، 1979، و1987.
النجمان إيفان زامورانو ومارشيلو سالاس لعبا لتشيلي في التسعينيات
ولا يعني خلو خزائن الاتحاد التشيلي من الألقاب خلال تلك الأحقاب، عدم ظهور نجومٍ كرويين في تلك البلاد العاشقة للساحرة المستديرة، فالتاريخ يحتفظ بأسماء أبطال إنجاز المركز الثالث في مونديال 1962، كليونيل سانشيز، إلاديو روخاس، خايمي راميريز، لويس إيزاغويري، خورخي تورو، وراؤول سانشيز، إضافةً إلى إلياس فيغويروا، الذي يُعد اللاعب الوحيد في تاريخ تشيلي الذي خاض 3 بطولات كأس عالم، أعوام: 1962، 1966، و1982.
يخلو سجل المنتخب التشيلي لكرة القدم من أي ألقابٍ قبل كوبا أمريكا عام 2015
كما يعد المهاجمان إيفان زامورانو ومارشيلو سالاس، اللذان برزا في الملاعب الأوروبية أواخر القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، من أفضل ما أنجبت الكرة التشيلية عبر تاريخها، فالهداف الطائر زامورانو يُعتبر أبرز هدافي نادي ريال مدريد خلال تلك الحقبة، والنجم سالاس الذي لعب لناديي لاتسيو ويوفنتوس الإيطاليين، يُعد أحد الأسماء التي بصَمَت بقوةٍ في تاريخ الدوري الإيطالي.
حققت تشيلي أول ألقابها تاريخيًا عام 2015 بإحرازها لقب كوبا أمريكا
وبعد سنواتٍ عجافٍ خاليةٍ من الألقاب والبطولات، صحت جماهير الكرة التشيلية على إنجازٍ أنهى حالة الجفاف المزمن، إذ استطاع المدرب الأرجنتيني خورخي سامباولي، استغلال استضافة البلاد لبطولة كوبا أمريكا عام 2015، ليقود منتخب لاروخا لتحقيق لقبٍ عز عليهم طوال سنين، بعد أن تفوق على كبرى قوى القارة اللاتينية، فتصدر مجموعته بكل جدارةٍ، قبل أن يزيح البطل السابق الأورغواي من طريقه، ويتبعه بمنتخب الجار اللدود البيرو، ليجد نفسه في مواجهةٍ من العيار الثقيل أمام الجار الأكبر والأخطر الأرجنتين، التي كانت متعطشةً بدورها لإنجازٍ يُسجل في صحيفة أسطورتها الخالدة ليونيل ميسي، ولكن تألق رجال سامباولي وصمودهم لمدة 120 دقيقة، في وجه إعصار التانغو في المباراة النهائية، كوفئ بلقبٍ أسعد أكثر من 75 ألف متفرجٍ احتشدوا في الملعب الوطني بالعاصمة سانتياغو، بعد أن قادتهم ركلات الترجيح لإحراز اللقب الغالي.
تشيلي جددت فوزها بكوبا أمريكا عام 2016
وفي حين ظن معظم المتتبعين أن إنجاز تشيلي في كوبا أمريكا ما هو إلا ضربة حظٍ لن تتكرر، وخاصةً مع رحيل صانع الإنجاز المدرب سامباولي، واستبداله بمدربٍ مغمورٍ هو الأرجنتيني خوان أنتونيو بيتزي، أثبت محاربو الأنديز أصالة ومتانة معدنهم، فكرروا إنجازهم للعام الثاني على التوالي، في البطولة الخاصة التي استضافتها الولايات المتحدة صيف العام الماضي، بمناسبة مرور 100 عامٍ على تأسيس اتحاد أمريكا الجنوبية “الكوميبول”، فحرقوا المرحلة تلو الأخرى وصولًا إلى المباراة النهائية، التي جمعتهم مجددًا بالجار الأرجنتيني الرهيب، الذي كان يتطلع للانتقام من هزيمة العام السابق، وإنهاء نحس النهائيات الذي يلازمه منذ خسارته نهائي كأس العالم عام 2014.
فإذا به يصحو على خيبة أملٍ جديدةٍ، وضربةٍ ثالثةٍ قاصمةٍ وجهها له أبطال لاروخا، الذين كرروا سيناريو النهائي السابق بحذافيره، بعد إنهائهم الوقتين الأصلي والإضافي من المباراة بالتعادل السلبي، قبل أن يتفوقوا بركلات الجزاء الترجيحية، التي أهدتهم لقبهم الثاني توليًا في بطولة كوبا أمريكا.
ثلاثي المنتخب التشيلي: أليكسيس سانشيز وأرتورو فيدال وكلاوديو برافو
وتقوم منظومة المنتخب الحالي، الذي يُعد الأفضل في تاريخ الكرة التشيلية، على 3 دعائم رئيسية تشكل العمود الفقري للمنتخب الأحمر، أولها حارس المرمى الصلب كلاوديو برافو، الذي استفاد من خبراته باللعب لنادي برشلونة العملاق قبل انتقاله إلى مانشستر سيتي، ليقود الخط الخلفي لمنتخب بلاده بكل جدارة، ويشكل الحائط المتين الذي ارتكز عليه لاروخا في جميع إنجازاته، وخاصةً في المباريات التي كانت تمتد حتى ركلات الجزاء الترجيحية، التي يُعتبر برافو أحد أفضل مختصي التصدي لها على مستوى العالم.
يُعتبر الثلاثي أليكسيس سانشيز وأرتورو فيدال والحارس كلاوديو برافو أبرز مرتكزات الجيل الذهبي الحالي لتشيلي
ومن أمامه يبرز الوتد الثاني الذي يلعب في خط الوسط، وهو المحراث النشيط أرتورو فيدال، نجم نادي بايرن ميونيخ وأحد أفضل لاعبي الوسط في العالم حاليًا، والذي يشكل بقوته ونشاطه وحماسه قلب لاروخا النابض، ورئته الحية التي يتنفس من خلالها هواء البطولات والألقاب.
إلى جانب المبدع الأول في المنتخب، وصاحب المهارات الفنية الرائعة، أليكسيس سانشيز، نجم أرسنال الحالي وبرشلونة السابق، الذي يُعد ثالثة الأثافي والعنصر الأكثر حسمًا في منظومة مقاتلي الأنديز، التي تبرز فيها أسماء أخرى كان لها دور لا يمكن إغفاله في تحقيق الإنجازات، وأقصد بكلامي المدافعين ماوريسيو إيسلا وغاري ميديل وغونزالو خارا وجيان بوسيجور، ولاعبي الوسط بابلو هيرنانديز ومارشيلو دياز وتشارلز أرانغويز، والمهاجم القناص إدواردو فارغاس.
جانب من مباراة نهائي كأس القارات الأخيرة بين ألمانيا وتشيلي
ومؤخرًا، كان محاربو تشيلي على موعدٍ مع إنجازٍ جديد، ولقبٍ عالميٍ بدت قطافه دانية، بعد أن شق رفاق برافو وفيدال وأليكسيس طريقهم إلى مباراة نهائي كأس القارات التي استضافتها روسيا، على حساب أبطال أوروبا المنتخب البرتغالي بقيادة نجمهم الشهير كريستيانو رونالدو، ليصطدموا بمنتخب المانشافت الألماني، الذي هزمهم بهدفٍ يتيمٍ حرمهم من إحراز لقبهم الثالث تواليًا في السنوات ال3 الأخيرة، ولكنه لم يحرمهم من كتابة تاريخٍ كرويٍ جديدٍ لبلادهم، ومعانقة أمجادٍ كبرى بقيت عصيةً عليهم طيلة أكثر من 100 عام.