عسكرة الساحل: الخطوة الفرنسية الجديدة وصدام الاستراتيجيات

في ظل احتدام التكالب على القارة الإفريقية على غرار ما حدث في القرن الثامن عشر مع الاستعمار الغربي، من جديد تعود ظاهرة الأحلاف العسكرية إلى القارة السمراء، وفي منطقة الساحل على وجه التحديد والذي كان إقليمًا مهملًا، غير أن الاهتمام الدولي به جاء من باب الإرهاب، ليدخل الإقليم مرحلة جديدة من صدام الاستراتيجيات.
حديثًا جدًا، أعلنت فرنسا على لسان رئيس وزرائها إيمانويل ماكرون (2 من تموز/يوليو)، تشكيل قوة أمنية إقليمية مع دول غرب إفريقيا، أُطلق عليها “قوة الساحل”، والحجة كالعادة مكافحة “الإرهاب”، حيث أكد ماكرون أن على فرنسا وشركائها الأفارقة العمل معًا للقضاء على الإرهابيين والمجرمين والقتلة في منطقة الساحل.
ومع تصاعد نشاط المجموعات الجهادية، أخذت إفريقيا تحتل مركزًا متقدمًا في “مؤشر الإرهاب العالمى” الذي يرصد ويصنف وقوع الحوادث الإرهابية في أقاليم العالم، تواجه القارة السمراء مسارًا تصاعديًا في وتيرة العسكرة (الأمننة)، حيث تتخذ هذه العملية أشكالاً متعددة منها تأسيس القواعد العسكرية، نشر القوات، إرسال الخبراء والمستشارين، برامج التدريب والمناورات المشتركة، توقيع الاتفاقيات، فضلًا عن تمويل القوات والعمليات العسكرية.
وتشارك في القوة الجديدة، والمدعومة من فرنسا، دول الساحل الخمسة (مالي، بوركينا فاسو، موريتانيا، النيجر، تشاد)، على أن تكون قوة جديدة متعددة الجنسيات ستعمل بالتنسيق مع القوات الفرنسية وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مالي “مينوسما”، ومن المقرر أن تبدأ عملها هذا الخريف، كما نقلت وسائل الإعلام عن ماركون.
يشير بعض الباحثين إلى أن فرنسا قامت بزهاء أربعين تدخلاً عسكريًا في إفريقيا، كان آخرها عملية تدخلها في مالي (11 من كانون الثاني/يناير 2013)
وينظر مراقبون لهذه الخطوة على أنها تشكل أساسًا لاستراتيجية خروج القوات الفرنسية من المنطقة، وهو تحليل ثاقب ينطوي على دلالة مهمة جدًا بخصوص الاستراتيجية الفرنسية في إفريقيا ومنطقة الساحل على وجه الخصوص، إذ يبدو أن فرنسا – القوة الاستعمارية السابقة والتي قادت تدخلًا استباقيًا لإنقاذ الحكومة المركزية في مالي بعد سيطرة الجهادييين والانفصاليين الأزواديين على مناطق بشمال البلاد عام 2012، ومن ثم بدأوا الزحف نحو العاصمة باماكو – تحاول اليوم أن تتجنب شبح “فيتنام” الولايات المتحدة في حربي أفغانستان والعراق، بعد فشل التدخل العسكري في هذين البلدين في تحقيق الأهداف المعلنة من أجله.
ولا تعتبر هذه الخطوة الفرنسية أمرًا جديدًا، إذ يشير بعض الباحثين إلى أن فرنسا قامت بزهاء أربعين تدخلاً عسكريًا في إفريقيا، كان آخرها عملية تدخلها في مالي (11 من كانون الثاني/يناير 2013).
ومصداقًا لذلك، يذهب الخبير في الشؤون الإفريقية، الدكتور حمدي عبد الرحمن حسن، إلى أنّ السياسة الفرنسية في إفريقيا تسعى إلى إعادة إنتاج العلاقات الاستعمارية السابقة والمحافظة على الأدوار القيادية، وتأكيدًا لهذا القول، التحرك الفرنسي بعد تصاعد نشاطات حركة “بوكو حرام”، حيث سارعت باريس في 17 من أيار/مايو 2014 إلى عقد “قمة باريس للأمن في نيجيريا”.
يمكن الزعم أنه لا توجد أدلة على إمكانية نجاح القوة الأمنية الإقليمية في تحقيق ما فشلت فيه القوى الدولية خاصة فرنسا، لا سيما محاربة الإرهاب في الساحل والتهديدات الأمنية الأخرى كنشاط شبكات الجريمة المنظّمة لتهريب البشر والأسلحة وغيرها
كذلك، تأتي الخطوة الفرنسية هذه في إطار تحول جذري في مقاربات الدول الكبرى للقضايا الأمنية، بالانتقال من سياسات التدخل المباشر إلى التدخل بالوكالة، وذلك من خلال مقاربتين: أولهما، دعم الجهود والخطط الإقليمية للتدخل العسكري والحماية والمحافظة على السلم والاستقرار، وثانيهما: إنشاء قوات إقليمية أو محلية وفق اتفاقيات ثنائية أو غيره، وذلك للقيام بمهام أمنية بالوكالة عن هذا الطرف الخارجي أو ذاك، فضلاً عن الاعتماد المتزايد على نشر التقنيات الأمنية المتقدمة، خاصة الطائرات المسيّرة عن بُعد (الدرونز) في بعض البلدان القريبة من بؤر التوترات.
بكل تأكيد، يمكن الزعم أنه لا توجد أدلة على إمكانية نجاح القوة الأمنية الإقليمية في تحقيق ما فشلت فيه القوى الدولية خاصة فرنسا، لا سيما محاربة الإرهاب في الساحل والتهديدات الأمنية الأخرى كنشاط شبكات الجريمة المنظّمة لتهريب البشر والأسلحة وغيرها.
وتحولت ليبيا، ونتيجة الفراغ الأمني الكبير الذي تمر به، إلى مركز إقليمي لإعادة تصدير الاضطرابات إلى البؤر المشتعلة، وزعزعة الأمن في الساحل الكبير وجوارها البعيد، إذ يجمع المراقبون على أن الاضطرابات الأمنية التي عمّت شمال مالي، وانبعاث الكفاح المسلح للطوارق، وكذلك نشاط الجماعات الجهادية، لم يبرز وينتشر بهذه السرعة إلا نتيجة للأوضاع المتداعية في ليبيا وانتشار الأسلحة منها إلى عدد من المناطق الرخوة.
علاوة على ذلك، تعكس الخبرة العملية أنّ أقلمة سياسات “الأمننة”، لم يؤد بالضرورة إلى تحقيق نجاحات أو أهداف عجزت القوى الكبرى والمنظمات الدولية كالأمم المتحدة عن تحقيقها، ويمكن نذكر هنا مثالين: نيجيريا ومالي، ففي 8 من تموز/يوليو، وإزاء تصاعد التهديد الإقليمي لحركة “بوكو حرام”، أُعلن تشكيل قوة إقليمية أطلق عليها “قوة التدخل المشتركة المتعددة الجنسيات”، والتي تكونت من 8700 عنصر من دول المنطقة (نيجيريا والنيجر وتشاد والكاميرون وبنين)، بيد أن المعطيات تشير، وبعد هذه السنوات، إلى فشل ذريع لهذه القوة في دحر الحركة تمامًا، على الرغم من الدعم الدولي والإقليمي الذي حظيت به.
وفي مالي، ورغم التدخل الفرنسي وإنشاء مجلس الأمن لبعثة (مينوسما) والتي بدأت عملها في يوليو 2013، تتسم الأوضاع في ذلك البلد بالهشاشة، ومع ازدياد عدد الهجمات على القوات الدولية والمالية والتي يقوم بها الجهاديون والانفصاليون الطوارق، أُعلن في 25 من أيلول/سبتمبر 2015 عن تشكيل “جبهة تحرير ماسينا” والتي تتكون عناصرها من قبيلة الفولاني، وهي مجموعة ذات توجهات جهادية ولها منطلقات إثنية عابرة للحدود، لتشكل تهديدًا وعبئًا أمنيًا جديدًا.
وفوق كل ذلك، ونتيجة للفراغ الكبير، هناك غياب ملحوظ لأدوار دول الإقليم في القضايا المصيرية، رغم حديث البعض عن نظام أمني جديد في إفريقيا يتولى من خلاله الاتحاد الإفريقي وضع وتنفيذ الأجندة والاستراتيجيات الأمنية.
سبق لفرنسا أن طرحت في العام 2016 مبادرة عرفت بـ(G5 Sahel)، وهناك أيضًا “الاستراتيجية الأوروبية للأمن والتنمية في منطقة الساحل” (2013)
ونظرًا لقصور ومعوقات السياسات الإفريقية المستقلة في مقاربة القضايا الأمنية، تعددت مبادرات القوى الخارجية، حيث طرحت واشنطن مبادرة الساحل الكبير (Pan Sahel) والتي تطورت لاحقًا إلى ما عرف بـ”مكافحة الإرهاب عبر الساحل”، وهناك القيادة الأمريكية في إفريقيا (آفريكوم)، والتي بدأت عملها في تشرين الأول/أكتوبر 2008.
كما سبق لفرنسا أن طرحت في العام 2016 مبادرة عرفت بـ(G5 Sahel)، وهناك أيضًا “الاستراتيجية الأوروبية للأمن والتنمية في منطقة الساحل” (2013).
إن هذه الخطوة الفرنسية تؤشّر للدلالات الآتية:
أولًا: فشل المقاربات التقليدية للقوى الكبرى وطي فكرة التدخل البري في بعض البلدان، كما كان معتمدًا لدى الدول الكبرى والأمم المتحدة لعقود طويلة.
ثانيًا: فشل التدابير التي اُتخذت بهدف إرساء السلم والأمن في منطقة الساحل وذروتها التدخل الفرنسي والأمم المتحدة في شمال مالي.
ثالثًا: تعاظم التهديدات الأمنية في منطقة الساحل ومالي خاصة، إذ أعلنت مؤخرًا المجموعات الجهادية الرئيسية توحدها في كيان جديد أطلقت عليه (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين).
رابعًا: دخول استراتيجيات “الأمننة” مرحلة جديدة، في ظل احتدام التنفس بين الدول الكبرى على النفوذ، والتحول نحو الرهان على بناء قدرات دول المنطقة منفردة أو لبعض المجموعات الفرعية للاتحاد الإفريقي.
إن الموجة الجديدة من “الأمننة” – ممثلة في الخطوة الفرنسية التي تناولناها هنا – تحمل “وصفة” لزيادة معاناة شعوب الساحل، رغم الحديث المنمق عن تحقيق الرفاه والازدهار مع كل استراتيجية جديدة، فهل سنقرر يومًا ما أن الدول الكبرى تعتبر إحدى عوامل زعزعة الاستقرار والأمن؟