ترجمة وتحرير: نون بوست
دفعت هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر التي نفذتها حركة حماس في “إسرائيل” معظم دول المنطقة إلى إعادة النظر في علاقاتها مع تل أبيب، وهذا حال تركيا التي أصبحت سياسة تقاربها مع “إسرائيل” موضع شكّ بسبب التضامن مع فلسطين – رئيسًا وشعبًا.
اتّسم رد فعل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر بضبط النفس والاعتدال في أعقاب الهجمات التي نفّذتها حماس، ودعا الطرفين إلى الحوار لإيجاد حلّ دبلوماسي، لكن الأعمال الانتقامية الإسرائيلية العنيفة أجبرت تركيا على تبني موقف أكثر تشددًا – لتتلاشى طموحات الوساطة للرئيس التركي. وقد وصف أردوغان حركة حماس بأنها “منظّمة تحرير وطني تناضل من أجل حرية الشعب الفلسطيني”. فكيف يمكننا تفسير هذا التحول؟
منذ مأزقها في سوريا، تحاول أنقرة الخروج من عزلتها من خلال تطبيع علاقاتها مع عدد من جيرانها ودول المنطقة مثل أرمينيا ومصر وكذلك “إسرائيل”، التي تعود القطيعة معها إلى سنة 2010، إذ كانت هناك حاجة ماسة للتعاون مع تل أبيب. في سنة 2022، بلغ حجم التجارة بين تركيا و”إسرائيل” ما يزيد قليلا عن 10 مليارات يورو. وفي قلب تعاونهما توجد قضية غاز البحر الأبيض المتوسط. خططت أنقرة للمشاركة في بناء خط أنابيب غاز بحري لنقل الغاز الإسرائيلي من حقل ليفياثان للغاز إلى الأراضي التركية مع شراء جزء للاستخدام المحلي وتصدير جزء آخر إلى أوروبا.
في قطاع السياحة، يتزايد عدد السياح الإسرائيليين منذ عدة سنوات ليصل إلى 560.000 سنة 2022، وهو ما تستفيد منه شركة الخطوط الجوية التركية التي كانت عشية الأزمة تقوم بحوالي 10 رحلات يوميا بين تل أبيب وإسطنبول. وكانت سياسة التقارب هذه على وشك النجاح، وهو ما يفسر ضبط النفس في ردود الفعل الأولية. وقد اجتمع الرئيس أردوغان في أيلول/ سبتمبر 2023 في نيويورك لأول مرة مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي تم الإعلان عن زيارته المقررة لأنقرة في أيلول/ سبتمبر أو تشرين الأول/أكتوبر. لكن تبددت كل هذه الجهود.
كجزء من سياسة التطبيع الإقليمية، فرضت تركيا قيودًا على نشاط جماعة الإخوان المسلمين المنفية والمصريين وغيرهم من رعاياها، بما في ذلك حماس، على الأراضي التركية. ويبدو أن الهجوم المفاجئ وعنفه مثّل غطاءً ملائما لأنقرة. مفضلًا مصالح تركيا العليا، التي تعتمد على إقامة علاقة سلمية مع “إسرائيل”، اختار أردوغان في البداية الاعتدال والوساطة حتى أنه طلب من بعض المسؤولين التنفيذيين في حماس مغادرة تركيا.
“المعايير المزدوجة للغربيين”
بعد فشل المحاولات التركيّة لتحرير الرهائن ووصول العنف الإسرائيلي إلى هذا الحد، غيّرت السلّطات موقفها بالكامل لا سيما مع التصريحين المدويّين للرئيس أردوغان. يوم 24 تشرين الأول/أكتوبر، أكّد أردوغان في خطابه أمام مؤتمر حزب العدالة والتنمية، وسط تصفيق النواب الواقفين، أن “حماس ليست منظمة إرهابية، بل مجموعة من المجاهدين الذين يدافعون عن أراضيهم”. واستخدام هذه العبارة ليس من فراغ، ذلك أن رفع مقاتلي حماس إلى مرتبة “المجاهدين”، أي المنخرطين في الحرب المقدسة، يسمح بقياس البعد الرمزي لمواقف أردوغان.
بعد أربعة أيام، هاجم الرئيس أيضًا الغرب متهمًا إيّاه باتباع “المعايير المزدوجة والتواطؤ في الجرائم التي ترتكبها “إسرائيل” ضد المدنيين الفلسطينيين”. لكن اتخاذ مثل هذا الموقف الواضح سيكون له عواقب سلبية على تركيا على المدى القصير والمتوسط، مما يطرح تساؤلات حول مآل التطبيع مع “إسرائيل” ويثير غضب الغرب. في الواقع، من الصعب فهم سلوك أردوغان نظرا لطبيعته المتغيّرة وغير المتوقعة سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية.
يتمثّل التفسير الأول في أن أردوغان، الذي يُدافع علنًا عن حماس، يستسلم لطبيعة قمعيّة ترتكز على التشدد الإسلامي. وغالبا ما يوصف كشخصية معقدة ومزدوجة. من ناحية منفتحة وواقعية ومن ناحية أخرى أيديولوجية وعقائدية. لكنه في الحقيقة عالق بين طموحاته الشخصية وقيمه الأيديولوجية، وهو يتأرجح بين هذين النقيضين. وفي سعيه للقيادة في المنطقة، كان سينتهي به الأمر إلى الاستسلام لطبيعته العميقة. لكن هذا التفسير النفسي السياسي غير كاف على الإطلاق.
حسابات السياسة الداخلية
هناك تفسير آخر يستند إلى المنطق الجيوسياسي. ما بين 7 و24 تشرين الأول/أكتوبر، ومع ملاحظة تطور الوضع على الأرض وردود الفعل التي يثيرها في المنطقة وخارجها، كان أردوغان يراهن من أجل مصلحة بلاده على توجيه انتقادات لاذعة للأعمال الانتقامية الإسرائيلية، ويكمن الهدف في وضع تركيا في موقع الصدارة في العالم الإسلامي. وهنا لم تكن الحجة مقنعة كثيرا. ويستند التفسير الثالث الذي قدمه العديد من الصحفيين في تركيا إلى رواية رفض منح دور الوسيط لأردوغان، الذي كان سيقلب الطاولة لجذب الانتباه على الساحة الدولية.
أما تفسير الرابع فيتعلق بالحسابات السياسية المحلية والاعتبارات الانتخابية، وهو يستحق أن يؤخذ بعين الاعتبار. فالانتخابات البلدية تلوح في الأفق بحلول ربيع 2024، وهو يوليها أهمية لا تقل عن أهمية الانتخابات الوطنية، خاصة أن الرهان هذه المرة يتعلق بالعودة إلى إسطنبول وأنقرة، اللتان خسرهما أمام المعارضة في سنة 2019. ومن الممكن أن يضمن له تعزيز صورته الدولية الحصول على بضعة أصوات، مع العلم أن السكان لديهم حساسية كبيرة تجاه القضية الفلسطينية. مع ذلك، يجب أيضا وضع وجهة النظر هذه في منظورها الصحيح. من المؤكد أن السكان يتضامنون مع فلسطين، لكنهم أيضا قلقون للغاية بشأن هشاشة الاقتصاد الذي يعتمد على العلاقات الجيدة مع “إسرائيل” والدول الغربية والموقف الحالي يهدد بحدوث توترات جديدة.
التطرف الإسرائيلي
كما هو الحال في كثير من الأحيان، يحاول المحللون فهم توجهات أردوغان ومواقفه من خلال وضعه في موقع مركزي للغاية، أي عن طريق عزله عن السياق الذي يجد نفسه فيه وعدم الأخذ بعين الاعتبار تصرفاته ضد منافسيه أو شركائه، أو من خلال التقليل من نزعة الرئيس التركي إلى التصرف والرد وفقا لتطور وضع سياسي معين. لذلك، إذا كانت جميع هذه الفرضيات تسلط الضوء فقط على جزء من استراتيجية أردوغان السياسية، فكيف يمكن فهم تغير موقف الرئيس التركي؟
تتجاهل هذه التفسيرات موقف “إسرائيل” بعد الهجمات وتطرف سياستها في غزة. فبعد أن تلقت الضوء الأخضر من الغرب لاتخاذ موقف انتقامي، كان رد فعل “إسرائيل” مبالغا فيه وغير متناسب غير أنه لم يتلق غير إدانات هادئة والجلوس في وضع الانتظار والترقب من طرف المجتمع الدولي.
في وقت تقف فيه “إسرائيل” مترددة بين التوغل والاحتلال واستعمار قطاع غزة، لا يزال مصير غزة وسكانها غير مؤكد. وقد ولدت شدة التفجيرات وارتفاع عدد القتلى الأبرياء صدمة عاطفية عالمية، جمعت بين العجز والسخط خاصة في العالم الإسلامي، حيث تعززت مشاعر الوحدة والتضامن. كما أن دعم الغرب غير المشروط تقريباً لـ “إسرائيل”، الذي يعتبره العالم الإسلامي تحالفاً يهودياً مسيحياً ضد الفلسطينيين والعالم الإسلامي، كان سبباً في فرض شكل من أشكال الولاء على العديد من الزعماء المسلمين.
فجوة بين تصوُّرين
إن تسليط معظم وسائل الإعلام والمثقفين في العالم الغربي الضوء على قضيّة الدفاع عن “إسرائيل” وسّعت الفجوة بين هذين التصوُّرين للصراع واتجاه العالم اليوم. ومع ذلك، ظلّ أردوغان يتصرف بذريعة الاهتمام بمصالح العالم الإسلامي، وقد دفعته وحشيّة القصف العشوائي للجيش الإسرائيلي إلى الوقوف في صف معسكر الفلسطينيين. وسيكون لهذه الاختيارات عدد من التداعيات من بينها تحسّن صورة أردوغان إلى حد ما لدى شركائه الغربيين بفضل الحرب في أوكرانيا حيث لعب دور الوساطة لا سيما فيما يتعلق باتفاق الحبوب.
كان يبدو أن أردوغان شخص عملي ودبلوماسي وجعل من نفسه شخصًا لا غنى عنه. مع ذلك، فإن موقفه الجديد المؤيد للفلسطينيين سوف يفقده جزءًا كبيراً من هذه المصداقية المستعادة ليصبح مرة أخرى في نظر الغرب زعيمًا شعبويًا سريع الغضب لا يمكن التنبؤ بتصرفاته. ولم تؤدِ زيارته الرسمية إلى ألمانيا في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 حيث ردد معتقدات إلا إلى تعزيز هذا التصور.
لعلّ الأمر الأكثر خطورةً أن تركيا ستواجه أزمةً جديدة مع الغرب وستتلاشى الآمال في مسألة عضويتها في الاتحاد الأوروبي. في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أصدرت المفوضيّة الأوروبيّة تقريرها السنوي حول توسيع الاتحاد الأوروبي ليشمل عدة دول مرشحة. وبينما تتوجّه جميع الأنظار نحو أوكرانيا ومولدوفا بل وحتى جورجيا، لن يتم ذكر تركيا. ستزداد حدّة الأزمة بين الولايات المتحدة وتركيا وستضع بلا شك حدًا لسياستها الرامية إلى تحسين العلاقات مع أنقرة. ومن المتوقّع استمرار رفع الحظر على مبيعات الأسلحة وخاصة تسليم طائرات “إف-16″، رغم حاجة تركيا الماسة إلى اللحاق بالركب في مجال الطيران.
لا تزال أمام تركيا فرصةٌ للحصول على الضوء الأخضر من الكونغرس. ومطلب انضمام السويد إلى الناتو لم يحصل بعد على موافقة البرلمان التركي الذي يهدف إلى منح أردوغان المزيد من الحرية في سياسته تجاه الغرب. ومن دون الحصول على طائرات “إف-16″، من غير المرجّح أن يعقِد البرلمان التركي جلسةً للنظر في مسألة انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي.
نظام عالمي جديد
يتمثّل الضرر الأكثر شدة في التوقف الكامل لعملية التطبيع مع “إسرائيل”. ومع أن الجهود التي بذلها الجانبان طيلة سنوات ساعدت على التقارب بين البلدين غير أن موقف أردوغان بشأن القضية الفلسطينية يعرقل العملية مما يُعرّض الاقتصاد التركي لعدد من المشاكل. وبطبيعة الحال، فإن قطع العلاقات الدبلوماسيّة لن يوقف التجارة بل قد يؤدّي إلى إبطاء نموّها بشكل خطير. بات من الصعب التفاوض بشأن مشروع التعاون الكبير في مجال الغاز عبر تركيا إلى أوروبا من حقول الغاز الإسرائيلية الجديدة.
مع ذلك، حتى لو كانت آثار هذا الموقف قصيرة المدى فقد سلّطت الأزمة الضوء على الانقسام في النظام الدولي الذي لم يعد الغرب المؤيد لـ “إسرائيل” سيّده الوحيد، إذ يعارض “الجنوب العالمي” الذي يُشكّل أقليّة في الشكل الجديد من القطبية الثنائية للدعم الغربي الجماعي لـ “إسرائيل”.
المصدر: أوريون 21