تطلعت الأنظار إلى تركيا مباشرة بمجرد أن طفت الأزمة الخليجية مع قطر على السطح وذلك بسبب العلاقة الجيدة بين تركيا وقطر وبسبب تبني تركيا لسياسة خارجية مشابهة، وقد اتبعت تركيا خطابًا متوازنًا لعلنا نلقي نظرة على بعض الملاحظات عليه في السطور التالية.
التدرج الإيجابي
لعل المتتبع للموقف التركي من أزمة مقاطعة عدة دول لدولة قطر التي تتمتع بعلاقات جيدة مع تركيا يصفها البعض بأنها علاقات استراتيجية وتحديدًا بعد عام 2013، يجد أن الموقف التركي كان حريصًا على تصدير خطاب دبلوماسي يراعي الصداقة مع دولة قطر والوفاء مع مواقفها السابقة لا سيما الموقف من محاولة انقلاب 15 تموز الأخيرة في تركيا وما تبعه من استثمارات مهمة للدوحة في تركيا.
حافظت تركيا على تدرج إيجابي في خطابها تجاه الطرفين الأساسيين للأزمة (السعودية وقطر) مع موقف ساعٍ لإنهاء الأزمة
وفي نفس الوقت عدم استفزاز أو استعداء الطرف الآخر للأزمة وخاصة المملكة العربية السعودية باعتبارها الدولة الأكبر في منطقة الخليج، حيث بدأت تركيا بالإعراب عن أسفها من وقوع الأزمة بين الأشقاء وحاولت استيضاح الأسباب وعرضت خدماتها للمساعدة في إنهاء هذه الأزمة.
ومع تصعيدها لموقفها المساند لقطر سواء من خلال الرفض الواضح لعزلتها ومقاطعتها أو الجسر الجوي الذي بدأته لتعويض نقص الأغذية الذي تسبب به إغلاق السعودية لحدودها البرية أو فتح المجال الجوي بعد إغلاق السعودية والإمارات لمجالهما الجوي أمام الخطوط القطرية أو الخطوة الأهم وهي مصادقة البرلمان والرئيس التركي على نشر جنود أتراك وفق الاتفاقية الموقعة مع قطر في عام 2014، حافظت تركيا على تدرج إيجابي في خطابها تجاه الطرفين الأساسيين للأزمة (السعودية وقطر) مع موقف ساعٍ لإنهاء الأزمة.
الدبلوماسية الشبكية
بمجرد وقوع الأزمة بدأت تركيا في إجراء حزمة كبيرة من الاتصالات الدبلوماسية قام الرئيس رجب طيب أردوغان بعدد كبير منها ومن ذلك الاتصال بكل من زعماء قطر والسعودية وإيران والكويت والأردن والبحرين وروسيا وفرنسا والتواصل مع وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون.
استقبل وزير الخارجية البحريني في أنقرة، وقد تم تقديم خطاب يخفف من حدة الأزمة، مؤكدًا أن مصادقة البرلمان لا تستهدف الدول المشاركة في الأزمة الحالية بل هي اتفاقية قديمة تهدف إلى تحقيق الاستقرار في منطقة الخليج
كما اتصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالملك السعودي سلمان بن عبد العزيز واستقبل وزير الخارجية البحريني في أنقرة، وقد تم تقديم خطاب يخفف من حدة الأزمة، مؤكدًا أن مصادقة البرلمان لا تستهدف الدول المشاركة في الأزمة الحالية بل هي اتفاقية قديمة تهدف إلى تحقيق الاستقرار في منطقة الخليج، إضافة إلى زيارة وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو للدوحة وتصريحه عن رغبته بزيارة السعودية بعد ما أرسلت أنقرة مبعوثين إلى الرياض لاستيضاح أسباب الأزمة عن قرب والاطلاع على تفاصيلها وعرض ماذا يمكن أن تقدمه أنقرة من مساهمة في إنهائها.
التفريق بين أطراف الأزمة
ولو لاحظنا الخطاب والسلوك التركي جيدًا لوجدنا أن تركيا كانت حريصة على التوازن في العلاقة مع السعودية ولكنها لم تفعل ذلك مع الإمارات، وربما نستدل على ذلك من بعض التصريحات للمسؤولين الأتراك ومن تناول الصحافة التركية، فعلى سبيل المثال استحضر السفير التركي في الدوحة تسريبات السفير الإماراتي في واشنطن مؤكدًا أن قطر تتعرض للمؤامرات كما تتعرض تركيا، مطالبًا الأطراف المخطئة بتصحيح أوضاعها بصورة فعلية وجادة.
وخلال الأيام التي تلت الأزمة تناول عدد كبير من الكتاب الأتراك المقربين من الدولة أزمة قطر، مشيرين إلى دور سلبي جدًا للإمارات تصريحًا وتلميحًا بدور مشابه للإمارات في محاولة انقلاب 15 تموز في تركيا.
وبعد ذلك مباشرة نقل موقع “هاف بوست” عن مسؤول بوزارة الخارجية التركية “إنَّ قطر صديقٌ أثبت فاعليته في الخليج على مدى فترةٍ طويلةٍ، وستستخدم أنقرة كل نفوذها لدعم الدوحة، وفي الواقع لا يوجد خيارٌ آخر حقًا، فمن الواضح أنَّ دولًا مثل دولة الإمارات حاولت الإضرار بتركيا على الساحة الدولية بأقصى درجةٍ ممكنة”.
ويظهر من الأزمة أن تركيا ما زالت تحاول الحفاظ على حبال الود مع المملكة العربية السعودية لكنها في نفس الوقت لا تتعامل بنفس الأسلوب مع دولة الإمارات، حيث يظهر أنها تعتبرها المحرك الأساسي للأزمة، وتعمل ضد مصالحها في أكثر من بلد منها ليبيا وسوريا، ولا يعرف إن كانت تركيا متجهة إلى حرق السفن في علاقاتها مع الإمارات.
وقد قال الرئيس التركي في أحد تصريحاته: “نعلم جيدًا من كان سعيدًا في الخليج عندما تعرضت تركيا لمحاولة الانقلاب، فإن كان لأي منها مخابرات، فنحن أيضًا لدينا مخابراتنا، ونعرف بشكل جيد كيف أمضى البعض تلك الليلة”، وقد فسر عدد من الكتاب الأتراك ذلك بأن الرئيس كان يقصد دولة الإمارات، كما نسبت تقارير صحفية تركية إلى الإمارات تهمة تمويل الإمارات 3 مليار دولار وبعض المصادر قالت 4 مليار دولا من أجل إسقاط الحكومة التركية وتمويل المحاولة الانقلابية في 15 تموز.
يتضح أن تركيا لا ترى في الجبهة التي تقاطع قطر جبهة موحدة وهي تتعامل مع الفروقات والدوافع لكل واحدة بخطاب مختلف
وكما نعلم أن الأطراف الرئيسية في جبهة مقاطعة قطر هي السعودية والإمارات ولمنع حدوث أي تطورات سلبية مع السعودية وليس الإمارات قد تكون انعكاسًا لقراءة التصريحات التركية الرافضة لمقاطعة قطر، قال وزير الخارجية التركي: “الرئيس أردوغان لم يستهدف السعودية نهائيًا في حديثه ولم يستهدف مطلقًا أيًا من القيادات السعودية، حتى إنه لم يسمِّ أيًا من الشخصيات السعودية وهو يكن احترامًا كبيرًا لخادم الحرمين الشريفين، وقد قال مرارًا وتكرارًا إن الملك سلمان فقط هو من بمقدوره حل هذه الأزمة، خلافًا لذلك لم يستهدف السعودية ولم ينتقدها أبدًا لا هي ولا أي دولة أخرى، وكان واضحًا وصريحًا تمامًا في التعبير عن آرائه وتوجهاته، كما عبر عن رغبة تركيا في المساهمة في حل هذه المشكلة العالقة”. وبهذا يتضح أن تركيا لا ترى في الجبهة التي تقاطع قطر جبهة موحدة وهي تتعامل مع الفروقات والدوافع لكل واحدة بخطاب مختلف.
أما الأطراف الأخرى للأزمة باستثناء البحرين التي تم استقبال وزير خارجيتها كونها دولة خليجية من دول مجلس التعاون الخليجي، فقد تجاهلت تركيا بقية الدول لإدراكها أنها قدمت موقفًا تابعًا وليس فاعلاً، وربما من هذه الدول مصر وجيبوتي واليمن وموريتانيا وغيرها.
مقاربة متوازنة
وقد تأكد حرص تركيا على إبقاء التواصل مع السعودية من خلال إعلان زيارة وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو للسعودية، وتأكيده على تصريحات أردوغان التي مفادها أن الملك سلمان وحده القادر على حل أزمة قطر.
ومن خلال تصريح تشاووش أوغلو التالي يمكننا أن نرى المقاربة المتوازنة للأزمة من قبل تركيا التي تتفق مع دول الخليج في سوريا وفي الموقف من إيران: “كما تعلمون، كل دول هذه المنطقة دول شقيقة لنا، ومتساوون بالنسبة لنا ويشكلون أهمية بالغة لنا، وسوف نستمر في تقديم كل ما يمكننا فعله لحل هذه المشكلة بأسرع ما يمكن، وسنسعى لتذليل المصاعب كافة لحل هذه المشكلة قبل نهاية شهر رمضان المبارك”.
حتى التواصل مع إيران في أثناء الأزمة لم يحمل لنا مسارًا جديدًا في العلاقة سوى التأكيد على هذه المقاربة المتوزانة ولعل استقبال تركيا للوزير البحريني ومؤتمره الصحفي مع الرئيس أردوغان كان لإحداث التوازن بعد زيارة وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف.
من المتوقع أن تحافظ تركيا على أركان خطابها المتدرج بإيجابية والمتوزان والذي يفرق بين أطراف الأزمة والذي يراعي مشاعر الوفاء والدعم لدولة صديقة له مثل قطر
بعد تقديم الدول المقاطعة لمطالبها كان متوقعًا أن تصدر تركيا خطابًا أكثر تشددًا وهو ما حصل لكن ليس على البُعد الرسمي بعد إدراج الدول المقاطعة لقطر ضمن مطالبها طلب إغلاق القاعدة العسكرية في الدوحة، حيث شن العديد من الكتاب والصحفيين والمحللين هجومًا على المطالب باعتبارها غير منطقية وظالمة، ولكن تركيا رسميًا استمرت على نفس الخط تقريبًا مع تأكيدها عبر وزيري الدفاع والخارجية على عدم إغلاق القاعدة، ولكن ثمة قناعة عن إمكانية تأجيل إرسال مزيد من الجنود لمنع تأجيج الأمور.
من المتوقع أن تحافظ تركيا على أركان خطابها المتدرج بإيجابية والمتوزان والذي يفرق بين أطراف الأزمة والذي يراعي مشاعر الوفاء والدعم لدولة صديقة له مثل قطر، وسيكون ذلك على الأقل حتى اللقاء المرتقب بين أردوغان والملك سلمان على هامش قمة العشرين، ولكن في حال تدهور ظروف الأزمة خاصة مع انتهاء المهلة وتمديدها لمدة 48 ساعة أخرى مع التلويح بالتهديدات، فإن تقييم ما سيكون عليه الموقف التركي سيكون مبنيًا على ظروف الأزمة الجديدة وحساباتها التي لا تبدو في ظل الظروف الحالية لتركيا مشيرة إلى فتح تركيا جبهة جديدة على نفسها.