تمكنت القوات العراقية من الوصول لقلب الموصل القديمة بعد معارك شرسة وفرض سيطرتها على جامع النوري الكبير، ذالك الجامع الذي صعد منبره قبل 3 سنوات إبراهيم عواد البدري، معلنًا للناس أنه خليفتهم وأن دولة الخلافة انطلقت وسط ذهول الحاضرين صلاة الجمعة من الأهالي الذين لم يفهموا ماذا يريد منهم هذا الرجل بالتحديد وعن أي خلافة يتحدث.
خرج بعدها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما معلنًا أن مدة القضاء على هذا التنظيم 3 سنوات وقد صدق في هذا التصريح بشكل غريب لكثير من المتابعين بشأن دقة التشخيص فهل كان مجرد صدفة؟!
هناك ملفات لا تقل خطورة عن داعش نفسها تنتظر ثاني أكبر مدن العراق وتحتاج لقرارات مدروسة بعناية لعبور حقل الألغام الذي نشره التنظيم قبل المغادرة
وكما قال فعلاً، فنحن اليوم على أعتاب مرحلة ما بعد داعش ولا ينتظرنا غير أيام قليلة على إعلان نهاية وجود التنظيم عسكريًا بشكل تام، ولكن هل انتهت الحكاية فعلاً؟
يوجد تحت رماد المعركة جمر ساخن ينتظر نهاية صوت الرصاص ليكشف عن نفسه، فهناك ملفات لا تقل خطورة عن داعش نفسها تنتظر ثاني أكبر مدن العراق وتحتاج لقرارات مدروسة بعناية لعبور حقل الألغام الذي نشره التنظيم قبل المغادرة، فما تلك الملفات المنتظرة؟
الملف الأمني
لم تضع الحرب أوزارها بعد ليتكشف لنا خطورة ثلاث أوراق بالملف الأمني في المدينة المثقلة بالحرب، فموضوعات ملاحقة خلايا داعش النائمة وترحيل عوائل المتورطين في مناصرة داعش ومستقبل الحشود العسكرية في المدينة، يجعلون المستقبل على صفيح ساخن.
لا يمكن لأي عاقل نفي أن التنظيم رغم خسارته العسكرية فإنه ما زال قادرًا على العمل بشكل مخيف تحت الأرض وفق خلاياه النائمة القادرة على الضرب والانسحاب واستنزاف المدينة وخلق حالة من التخبط وعدم الاستقرار الذي سيعرق ملفات ثانية مثل عودة النازحين وإعادة الإعمار، وللأسف العمل الاستخباراتي ما زال محدودًا وبدائيًا بالاستخبارات العراقية في الرصد والمتابعة والكشف عن تلك الخلايا.
طرح عدد من المراقبين النموذج الأمني لإقليم كردستان العراق الذي نجح بضبط الأمن في محيط إقليمي ساخن جدًا وإمكانية استنساخه في الموصل
على الرغم من أن التنظيم ترك خلفه في الموصل عددًا لا يستهان به من الوثائق والملفات السرية التي لو تم إحسان استغلالها يمكن أن تكون بداية موفقة لإمساك الملف الأمني على الأرض باحترافية.
بينما طرح عدد من المراقبين النموذج الأمني لإقليم كردستان العراق الذي نجح بضبط الأمن في محيط إقليمي ساخن جدًا، عن طريق فتح فروع للأمن في كل منطقة تكون مسؤولة عن الرصد والمتابعة وضبط حركة السكان والكشف عن أي تحرك مشبوه، ويكون المواطن ونظام شيوخ العشائر والمختارية أنظمة مساعدة لعمل الأمن.
لكن يبقى هذا الطرح وغيره منوط بالإرادة السياسية لمن يسيطر على الأرض من عسكر وحكومة المركزية في بغداد وحكومة الموصل المحلية.
فيما موضوع عوائل داعش وطريقة التعامل معهم من المواضيع المعقدة في الملف الأمني حيث يعتبر شائكًا من الناحية الأمنية والاجتماعية خاصة أن كلمة “عوائل داعش” تصنف إلى 4 أنواع.
أولاً: عوائل ضد كل أفعال أبنائها ورفضت حتى العيش معهم وبعضهم غادر المدينة لأجل هذا السبب بالتحديد.
ثانيًا: عوائل لم توافق ولم تعارض على وجود أبنائها كعناصر داخل التنظيم وبقيت تتعامل معهم دون تأييدهم على ذلك الفعل ودون مقاطعتهم أيضًا.
ثالثًا: عوائل وافقت على دخول أبنائها لداعش وتفتخر بهم وتدافع عنهم إعلاميًا واستفادت من وجودهم في التنظيم بشكل مادي أو معنوي.
رابعًا: عوائل منتمية للتنظيم (رجال ونساء وأطفال) ومؤمنين بفكره ومجاهرين بالدفاع عنه والقتال في سبيله.
هناك أكثر من 30 حشدًا من أبناء محافظة نينوى متنوعة المشارب، فهناك حشود عشائرية عربية وحشود تركمانية وأيزيدية وشبكية ومسيحية لا يعترف كل منها بالأخر كمرجعية وتسلسل قيادي ويتنافس على بسط النفوذ والسيطرة
هذا الأمر يجعل الموضوع معقدًا ويحتاج لحكمة في التعامل معه بما يضمن عدم إنتاج جيل جديد من الإرهاب نتيجة للعزل وتغذيته بالتطرف والإرهاب كردة فعل، وفي نفس الوقت عدم ترك الأمر بحيث تبقى عوائل التنظيم الموالية له فكريًا كحواضن للتنظيم داخل المدينة وأيضًا لمنع حدوث حالات انفلات أمني نتيجة للعمليات الانتقامية لعوائل ضحايا التنظيم التي ترى عوائل داعش هدفًا مشروعًا للثأر لضحاياهم.
فيما تعتبر الورقة الثالثة في الملف الأمني الأخطر وهي الحشود العسكرية ومستقبلها بعد نهاية المعركة، خاصة أن أعدادها الكبيرة وقياداتها المتعددة المرجعيات تجعل التصادم واردًا جدًا وخطيرًا في نفس الوقت خاصة إذا عرفنا أن هناك أكثر من 30 حشدًا من أبناء محافظة نينوى متنوعة المشارب، فهناك حشود عشائرية عربية وحشود تركمانية وأيزيدية وشبكية ومسيحية لا يعترف كل منها بالأخر كمرجعية وتسلسل قيادي ويتنافس على بسط النفوذ والسيطرة.
عودة النازحين
أكثر من ثلاث سنوات على خروج ما يقارب مليون شخص من مدينة الموصل والأقضية والنواحي التابعة لها في حدود محافظة نينوى وحالات عودة ثم نزوح وآخرها موجات النزوح الكبيرة من أيمن الموصل المقدرة بأكثر من 600 ألف نازح، ويعتبر موضوع إعادة النازحين أمرًا شائكًا يتعلق بشكل كبير بمجموعة ملفات متداخلة أبرزها الملف الأمني وإعادة الإعمار والتعويضات والخدمات.
فعودة النازح مرهونة بإمكانية وجود حياة في المنطقة التي يسكنها من ناحية الخدمات الأساسية من شبكة طرق وماء وكهرباء التي تدمر جزء كبير منها خاصة في جانب المدينة الغربي نتيجة للعمليات العسكرية، إضافة لإعادة ترميم الدور المدمرة أو إطلاق مبالغ التعويضات للأهالي للقيام بالإعمار، إضافة للنقطة الأهم وهي ضمان عدم تعرض المناطق لخطر السقوط بيد داعش من جديد، أو عمليات انتقامية.
إعادة الإعمار
فقدت الموصل خلال الثلاث سنوات الماضية إضافة للحرب الأخيرة أبرز ملامح البنى التحتية من طرق وجسور ومبانٍ ومعامل وكان لجانبها الغربي حصة الأسد من الدمار، خاصة في المدينة القديمة، حيث فقدت المدينة كل الجسور الكبيرة الخمس الرابطة بين طرفي المدينة التي يقطعها نهر دجلة، إضافة للمجسرات الصغيرة التي تعرضت جميعها للقصف أو التفجير خلال معركة استعادة الموصل.
شبح الفساد هو الأخطر والأكثر قدرة على تقويض أي جهد حقيقي لإعادة الإعمار
كما تعرضت المستشفيات الكبيرة في المدينة لدمار كامل خاصة مستشفى السلام في الجانب الأيسر والمدينة الطبية في الجانب الأيمن اللذين تعرضا لدمار كامل ويعتبران من أكبر المرفقات الطبية في العراق، إضافة للأبنية الحكومية، ناهيك عن الوحدات السكنية التابعة للمواطنيين والمواقع التراثية والأثرية المدمرة التي لا يمكن إعادتها خاصة من الناحية التاريخية.
كل هذا يجعل مهمة إعادة الإعمار صعبة وتحتاج لوقت وجهد وأموال لتعود المدينة بشكل يسمح لعجلة الحياة بالسير، لكن شبح الفساد هو الأخطر والأكثر قدرة على تقويض أي جهد حقيقي لإعادة الإعمار، وملف الفساد ملف عراقي منتشر في كل مفاصل الدولة وليست نينوى والموصل استثناءً عن الوضع العراقي المتأزم من هذه المشكلة.
التعويضات
ما حدث في الموصل من دمار وخراب أصاب المواطنين الموصليين بشكل أساسي، الأمر الذي يجعل الحكومة ملزمةً أمام مواطنيها بالتعويض عما أصابهم من خسائر مادية وجسدية تتلخص بحقوق الشهداء والجرحى أولاً ثم الحقوق المادية المعلقة بالبيوت المدمرة وغيرها.
لكن هذا الملف سيواجه ثلاث عقبات أساسية، أولها عدم قدرة الدولة العراقية المنهكة اقصاديًا بسبب الحرب وهبوط أسعار النفط، ومشكلة الفساد المستشري الذي سيدخل في هذا الملف، إضافة لمشكلة التأخير نتيجة صعوبة حصر الأضرار وتقيميها ودفع المبالغ للمواطنين بوقت قصير وقد يطول الأمر لأكثر من عقد من الزمن وفق تجارب سابقة في ملف التعويضات اعتمدتها الحكومة العراقية في سنوات سابقة.
الرواتب المدخرة
قطعت الحكومة العراقية عام 2015 الرواتب عن الموظفين القابعين تحت حكم التنظيم وادخارها للتحرير، الأمر الذي جعل عوائل الموظفين تعيش معاناة قاسية يفترض أن تنفرج بعد التحرير، لكن على ما يبدو أن الأمر ليس بالسهولة التي نتوقع، فهناك تأخر واضح بتسليم المدخرات للموظفين المحررين من نصف عام تقريبًا وسط تكهنات بعد وجود أموال في الخزينة العراقية والمدخرات تم صرفها في أمور أخرى.
الذي يعمل في مدينة الموصل يدرك أنها مدينة خدمية بالأساس يعتمد اقتصادها على رواتب الموظفين
الأمر صعب جدًا خاصة أن الذي يعمل في مدينة الموصل يدرك أنها مدينة خدمية بالأساس يعتمد اقتصادها على رواتب الموظفين، حيث تعتبر رواتبهم عمودًا أساسيًا في السيولة المادية بالسوق، وهذا الأمر أيضًا يضعف من مشاركة السكان في حالة إعادة الإعمار لعدم توافر الأموال التي تمكنهم من ترميم متاجرهم ووحداتهم السكنية.
الفيدرالية والأقلمة
قد يقول قائل إن الموصل اليوم أضعف من أن تطالب بإقليم أو شكل من أشكال الاستقلال في الحماية واتخاذ القرار، وأنا مع هذا القول لكن الأقلمة قد تأتي ليست من مدينة الموصل ولكن من أقضيتها ونواحيها التي تطالب بشكل من أشكال الاستقلال أو الحكم الذاتي، مثل سهل نينوى ذي الأغلبية المسيحية الذي يطالب بإقليم منفصل عن المحافظة، وكذلك الحال مع طلبات هنا وهناك في سنجار للأيزيديين، تلعفر للتركمان، جنوب الموصل للقبائل العربية وهكذا.
الأقلمة والفدرلة موضوع صعب متعلق بالتوازنات الإقليمية والدولية التي من ممكن أن تفرض طريقة حكم معينة أو نظام معين، وبالتاكيد هذا الأمر لن يكون بسلاسة وسهولة وسيكون له تداعيات قد تؤثر على الملف الأمني والاجتماعي بشكل كبير.
المناطق المتنازع عليها
بعد اشتراك الأكراد في قتال داعش وتحرير عدد من أقضية ونواحي شمال وشرق محافظة نينوى، فإن الإقليم ما زال مسيطرًا على أراضٍ متنازع عليها، الأمر الذي يعتبر قنبلة موقوتة قد تنفجر بأي وقت بين حكومة بغداد وأربيل خاصة أن الموضوع قديم متجدد بشكل دائم، خاصة مع موضوع الاستفتاء على استقلال الإقليم الأمر الذي يثير توجسات إقليمية خاصة مع تركيا وإيران اللتين قد تقوضان أي خطوة كوردية تجاه الاستقلال بفتح نزاع بخصوص هذا الملف.
التعامل مع المركز “موصل – بغداد”
لا يختلف اثنان في الموصل أن أبرز مشاكل المدينة وأحد أهم أسباب تمكن داعش من دخولها حالة الصراع بين حكومة بغداد وحكومة الموصل، الأمر الذي خلق حالة من التوتر استطاع من خلالها التنظيم أن يستغل الوضع في السيطرة على المدينة منتصف 2014.
لعل التجربة السابقة تلخص لنا درسين الأول لحكومة بغداد أن أي ضرر يصيب أي مدينة عراقية سيدفع ثمن هذا الأمر العراق بشكل عام، والثاني أدرك الموصليون أن بديل بغداد كارثي وبغداد رغم كل ما يمكن أن يحسب عليها تبقى حكومة جامعة ملزمة بكثير من الأمور ولا يجب التفريط فيها.
لذلك فإن شكل التعامل بين الجانبين يجب أن يصل لحالة من الاستقرار والمنفعة المشتركة والتعايش السلمي بعيدًا عن نظرية ضرب الآخر ومحاولة إخضاعه بحيث يكون هناك تعاونًا بعيدًا عن الندية.
هذه الملفات السبع الأبرز التي يجب العمل عليها والتركيز عليها إعلاميًا واجتماعيًا وسياسية إضافة لملف الإنساني المتعلق بإعادة التأهل النفسي والطبي والاجتماعي لتحقيق عبور آمن من حقل الألغام الذي تركته لنا داعش، فقد ينفجر أحدها ويعود بنا للمربع الأول، مربع حمام الدم والمزيد من الخراب والدمار في مدينة لم تعد تتحمل جولة ثانية من الحرب.