في عصر الثروات والأرقام، حان الوقت لمعرفة ما مدى مصداقية الاقتصاديين في خطاباتهم التعريفية والتسويقية للمنتجات، وفهم تأثير السلطة الاقتصادية على ميول العالم الشرائية والاستهلاكية، وما الخلفية الاجتماعية والنفسية لهذا السلوك؟ كما من الضروري ملاحظة التغيرات التي تحدث داخل السوق العالمية وما يصاحبها من تلاعب في نفسية المشتري وترويضه على أفكار معينة تخدم أهداف هذه الشركات التجارية.
لا شك أن الاقتصاد نجح نجاحًا ساحقًا في تلقين هذه الأفكار للعالم وتعوديه على تصرفات ومفاهيم جوهرية ليحافظ على نموه، مثال على الخطة الاقتصادية الناجحة، أنها جعلت الفرد لا يفرق بين الاحتياجات والرغبات وعودته على الربط بين مفهوم السعادة والاكتفاء وعدد الأشياء التي يمكنه تملكها، بجانب هذا، عودت العالم على استبدال الأشياء القديمة أو التخلص منها، لشراء الجديد منها، كما أنها دمجت التسوق بالأنشطة الاجتماعية وتعدها هواية مفضلة عند العديد، وخاصة النساء.
الأشياء عادة تأخذ ما يقرب سنة لتصنيعها وإنتاجها، بالمقابل يتم استهلاكها في غضون شهور وهذا مؤشر على العلاقة المضطربة التي تجمع بين الناس والممتلكات المادية.
على الرغم من انعدام الحقائق التي تشير إلى أن معدلات الراحة النفسية ارتفعت مقابل زيادة نسبة المشتريات، فليس من الصعب ملاحظة عدد الساعات المنهكة التي يعملها الناس للتخفيف من ضغوط الديون عليهم ولاستيعاب متطلبات الحياة “الضرورية” كما يعتقدون.
إلا أنها حلقة مفرغة يدور فيها العالم، فدراسة جديدة تقول إن الأشياء عادة تأخذ ما يقرب سنة لتصنيعها وإنتاجها، بالمقابل يتم استهلاكها في غضون شهور وهذا مؤشر على العلاقة المضطربة التي تجمع بين الناس والممتلكات المادية، كما أنها بلا شك دليل على عدم انسجام معتقدات العالم عن البساطة والرفاهية وبين الراحة النفسية والإسراف.
ولختام هذا الجدال، قال عالم النفس الأمريكي تيم كاسر: “الرغبة الشديدة في الاستهلاك، تجعلنا أكثر بؤسًا”.
عصر الوفرة
لم يكن العالم مدمنًا على اقتناء الأشياء، فلقد اعتاد الناس توفير أموالهم للحالات الضرورية أو للأشياء التي يحتاجونها بالفعل، لكن في عصر الوفرة الذي أعقب الحرب العالمية الأولى، واجهت الشركات خطر الإفراط في الإنتاج، ولهذا قرر الاقتصاديون تغيير ميول الناس من ثقافة الاحتياجات والضروريات إلى ثقافة الرغبات، ويقول بول مازور من ليمان براذرز: “يجب تدريب الناس على الرغبة، بحيث تطغي رغباتهم على الاحتياجات وزيادة هوسهم في امتلاك أشياء جديدة، حتى قبل أن تُستهلك الأشياء القديمة تمامًا”.
وظيفة الاقتصاديين خلق الرغبة في الناس، لتحويلهم إلى آلات تتحرك باستمرار بحثًا عن السعادة بالمعنى الذي تروج له هذه المؤسسات الاقتصادية.
في جانب آخر يقول خبراء الاقتصاد، إن حب المادة لدى الإنسان ولد معه وأنه مفطور على النزعة الاستهلاكية منذ بدء الزمن وحتى اليوم الحاضر، لكن هذا لا يخفي دور الأنظمة الاقتصادية والشركات التجارية التي ساهمت في تطور هذه الرغبة لتصبح إدمانًا وعادةً صعب التخلص منها عند البعض.
تقول الكاتبة مولي هاسكل: “هناك طريقة واحدة للبدء في فهم الدافع الكبير والممتع والمؤلم والمدمر في نفس الوقت، هو أن نفهم أن لدينا رغبة، وكل الأشياء تدور حول الرغبات فليس هناك شيء يمنح الشعور بالاهتمام، تمامًا كما يفعل الاستهلاك”.
لهذا كانت وظيفة الاقتصاديين خلق الرغبة في الناس، لتحويلهم إلى آلات تتحرك باستمرار بحثًا عن السعادة بالمعنى الذي تروج له هذه المؤسسات الاقتصادية.
الفقراء أكثر إنفاقًا من الأغنياء
الفقير ليس فقيرًا لأنه لا يملك المال فقط، بل أيضًا لأنه لا يملك الأفكار والرؤية المناسبة لخلق حرية مادية في حياته، بل تنطوي حياته على صرف ما بالجيب ليأتي ما في الغيب دون تخطيط أو تقدير أو تدبير لصعوباته المالية، ويعتبر أن هذا نمط حياته المفروض عليه ولا مفر من هذه الضوائق المالية، بل ينفق أحيانًا تهربًا من الضغوط النفسية التي يواجها بسبب النفقات العالية والديون المتراكمة عليه.
أما الغني وهو غني المال والفكر ويملك من بعد النظر ما جعله حريصًا على إدارة أمواله بشكل يفيد دوام هذه الثروة ويزيد من استثماراته ودخله السنوي.
رغم أن متعة هذه الأشياء تختفي عند ظهور منتج جديد أو عندما تتراكم الديون ومع ساعات العمل المنهكة، لا يعود هناك وقتًا متبقيًا للاستمتاع بهذه الممتلكات.
ومؤخرًا، أصبح الاستهلاك ليس مجرد حركة شراء للسلع والخدمات، بل أصبح طريقة تُحدد بها هوياتنا ومكاناتنا الاجتماعية على حسب قدرتنا الشرائية، وهذا الفخ الاجتماعي الذي يقع فيه الكثير من الناس خوفًا من الأحكام الاجتماعية السطحية. حتى أصبحت المجتمعات تعاني من أزمة في الهوية، بما أن قيمة المنتج أصبحت امتداد لقيمة الفرد نفسه.
فمنذ عشرينيات القرن الماضي، بدأت شركات الأعمال التجارية بالقلق حيال حالة الاكتفاء العام التي أصابت العالم وزادت هواجسها بالإفراط في الإنتاج، وزادت التوقعات بانهيارات اقتصادية إذا زادت ميول العالم بالاستمتاع بما يملكونه، بدلاً من أن يعملوا أكثر ويشتروا أكثر، ولهذا اجتمع الاقتصاديون وعلماء النفس وخبراء الدعاية والإعلان لتوجيه رغبات العالم وربط مفاهيم السعادة والراحة النفسية والوضع الاجتماعي واحترام الذات “بالشراهة الاستهلاكية”، رغم أن متعة هذه الأشياء تختفي عند ظهور منتج جديد أو عندما تتراكم الديون ومع ساعات العمل المنهكة، لا يعود هناك وقتًا متبقيًا للاستمتاع بهذه الممتلكات.
يقول الباحث الإعلامي جورج حيرنير: “من يحكي القصص هو من يتحكم في السلوك، والآن تم الاستحواذ على منابر الحديث عن السعادة والاكتفاء من قبل صُناع الإعلانات الذي يصنعون عقلية وثقافة المستهلك في المجتمعات”.
علاقات اجتماعية استهلاكية
قد لا يستطيع الإنسان أن يسير ضد التيارات الاقتصادية، ولكن يمكنه أن يعي تأثير هذه السياسات الاقتصادية التي تمارس عليه، لأن هذا لا يؤثر فقط على سلوكه ورغباته وأمواله، بل يتدخل في تشكيل العلاقات التي يعيشها يوميًا مع الآخرين.
فمنذ أن أصبحت النزعة الاستهلاكية هي السمة السائدة والطابع الغالب على الحياة المعاصرة، لم تجد العلاقات الشخصية الإنسانية مفرًا من هذه الثقافة السائدة، وبالتالي تحول الاقتصاد لمصباح سحري له القدرة على صنع ما نريد بأشكال وألون وأحجام مختلفة، وأصبحت العلاقة بين الفرد والسوق علاقة شبه يومية ومليئة بالخيارات الواسعة والمتجددة، الأمر الذي أثر على العلاقات الاجتماعية وحولها من علاقات قوية يمكن أن تواجها الصعوبات والمشاكل بالحلول المناسبة أو بالمحاولات المتكررة، إلى علاقات مؤقتة وهشة، وأصبح الشركاء في بحث دائم عن شريك متجدد وممتع يشبه علاقتهم بالمنتجات المادية.
وبهذا تكون العلاقة تحولت إلى مجموعة من “الأشياء” التي يمكن التخلص منها أو استبدالها في حالة الشعور بالضجر وهي صفة من صفات الفرد الاستهلاكي الذي دائمًا ما يتملكه شعور بالملل السريع.