أعادت القوة العسكرية الجديدة التي أعلن تشكيلها قادة مجموعة خمس دول إفريقية في باماكو بحضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى الواجهة التحديات المتزايدة لانتشار الجماعات المسلحة في مالي والدور الفرنسي في هذه الدولة الإفريقية التي تعاني من الحرب وانتشار العنف في أكثر من منطقة فيها، رغم توقيع اتفاق سلام عام 2015 كان يفترض أن يؤدي إلى عزل الجماعات المسلحة نهائيًا.
قوة عسكرية جديدة
في ختام القمة التي عقدها، في العاصمة المالية باماكو، رؤساء دول الساحل الخمسة (تشاد ومالي وموريتانيا وبوركينا فاسو والنيجر) إلى جانب رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون، أُعلن تشكيل قوة عسكرية متعددة الجنسيات ستعمل إلى جانب بعثتي فرنسا والأمم المتحدة في حربها ضد الجماعات المسلحة في المنطقة.
وتعهد رؤساء مالي وتشاد وموريتانيا وبوركينا فاسو والنيجر بتقديم مساهمات مالية تضاف إلى خمسين مليون يورو وعد بها الاتحاد الأوروبي، على أن يبلغ حجم القوة التي ستبدأ في الانتشار في حدود سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول المقبلين 5000 جندي من الدول الخمسة التي تطمح إلى مضاعفة العدد في وقت لاحق.
من المخطط أن تنتشر القوة المشتركة في البداية على حدود مالي وبوركينا فاسو والنيجر لتنضم في وقت لاحق إلى قوة “برخان” الفرنسية
ونصّب قادة رؤساء الدول الخمسة قائدًا جديدًا للقوة العسكرية المشتركة، وهو جنرال من مالي يدعى ديدييه داكو، سبق أن كان رئيس أركان الجيش المالي، وأقيل من منصبه خصيصًا لهذه المهمة، إذ عُين في اجتماع عقده وزراء خارجية دول الساحل الشهر الماضي، وينتظر أن تنضم القوة العسكرية الإفريقية المشتركة الجديدة إلى قوة “برخان” الفرنسية وبعثة الأمم المتحدة في مالي، لتوحيد جهود محاربة الإرهاب ووضع حد للانفلات الأمني في المنطقة.
ومن المخطط أن تنتشر القوة المشتركة في البداية على حدود مالي وبوركينا فاسو والنيجر لتنضم في وقت لاحق إلى قوة “برخان” الفرنسية التي تطارد المسلحين في دول الساحل، وإلى بعثة الأمم المتحدة في مالي (مينوسما)، وأكد قائد القوة المشتركة، رئيس أركان الجيش المالي سابقًا، الجنرال ديدييه داكو، أن مركز قيادة هذه القوة سيكون في “سيفاري” بوسط مالي.
تعتبر القوات التشادية عماد القوة العسكرية الجديدة
وكانت دول الساحل المشكّلة من كل من موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد قد قررت في قمتها الأولى المنعقدة في فبراير الماضي تأسيس قوة عسكرية مشتركة قوامها 5000 عنصر لاستعادة المبادرة الأمنية في المنطقة وملاحقة التنظيمات الجهادية والمسلحة، لكن بقيت مسألة توفير مبلغ 50 مليون دولار لتمويلها عائقًا أمامها، لذلك توجهت للاتحادين الإفريقي والأوروبي لطلب الدعم المالي.
تعزيز النفوذ الاستراتيجي الفرنسي في المنطقة
تشكيل هذه القوة العسكرية بمباركة فرنسية يأتي في وقت تسعى فيه باريس إلى المزيد من إحكام السيطرة على مالي بعد طرد المسلحين من المناطق التي كانوا يسيطرون عليها شمال البلاد، وكانت فرنسا في عهد الرئيس السابق فرانسوا هولاند أدت دورًا أساسيًا في دفع الدول الإفريقية الخمسة خلال قمتها الأولى في فبراير الماضي في باماكو إلى إطلاق مبادرة إنشاء قوة حدودية قوامها 5000 رجل.
يأتي هذا الالتزام بدعم القوة العسكرية الجديدة في وقت تشارك فرنسا في عملية “برخان” لمكافحة الإرهاب في منطقة غرب إفريقيا بـ4500 مقاتل
ونجح ماكرون في إقناع الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي بضرورة تمويل القوة العسكرية بعد رفض الولايات المتحدة الأمريكية تمويل الأمم المتحدة لهذه القوة، ووافقت الدول الـ15 الأعضاء في مجلس الأمن بالإجماع على مشروع القانون الذي أعدته فرنسا والذي يرحب بنشر مجموعة دول الساحل الخمسة للقوة المشتركة، لكن من دون إصدار تفويض من الأمم المتحدة يجيز لها التدخل العسكري.
وفي كلمة له أمام الجالية الفرنسية في باماكو أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن خروج الجيش الفرنسي من شمال مالي لن يكون قريبًا، وقال: “أقول ذلك لرجالنا الذين يقاتلون من أجل الحرية، سنفوز بهذه المعركة، وسنضع ما يتطلب من وسائل وإصرار وأعلم أن الأمر سيستغرق وقتًا ولكننا سنتمكن من ذلك”.
جانب من القوات الفرنسية المشاركة في العمليات العسكرية في مالي
ويسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تصحيح الأخطاء التي وقع فيها سلفه فرنسوا هولاند الذي قاد عمليتين عسكريتين في شمال مالي، كُللت بإبعاد المسلحين من مناطق متعددة في الشمال، لكن كلفت الجيش الفرنسي الكثير من الخسائر خاصة في الأرواح، ويعول الإليزيه على ديناميكية ماكرون لتأمين مصالح باريس في القارة السمراء وحماية نفوذها التاريخي من المنافسة، حيث كانت باماكو أول وجهة خارجية لماكرون فور توليه منصب الرئاسة.
يأتي هذا الالتزام بدعم القوة العسكرية الجديدة في وقت تشارك فرنسا في عملية “برخان” لمكافحة الإرهاب في منطقة غرب إفريقيا بـ4500 مقاتل، وأنشأت هذه القوات بالتزامن مع التدخل الفرنسي في مالي لوقف زحف الجماعات المسلحة على باماكو في فبراير 2013.
وسقط شمال مالي الذي تعتبره فرنسا منطقة نفوذ حيوي، باعتبارها مستعمرة سابقة لها، خلال ربيع عام 2012 في قبضة مجموعات مسلحة مرتبطة بتنظيم القاعدة، وطرد القسم الأكبر منها بعد تدخل عسكري دولي في يناير/كانون الثاني 2013 بمبادرة من فرنسا، لكن مناطق بكاملها لا تزال خارجة عن سيطرة القوات المالية والأجنبية التي تتعرض بشكل متواصل لهجمات دامية، رغم توقيع اتفاق سلام عام 2015 كان يفترض أن يؤدي إلى عزل الجماعات المسلحة نهائيًا.
أطماع فرنسية
لئن شرّعت فرنسا تدخلها العسكري في مالي بطلب الحكومة المالية مساعدتها في حربها لاستعادة الشمال ومواجهة المسلحين الإسلاميين، ومنع قيام كيان إرهابي هناك يشكل تهديدًا للمنطقة والعالم بأسره، خاصة بعد زحف مقاتلي حركتي التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا المرتبطة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وحركة أنصار الدين جنوبًا نحو العاصمة باماكو، وما يحمله ذلك من انعكاسات خطيرة في عدة اتجاهات، فإن خبراء قالوا إن هذا التدخل جاء لحماية المصالح الفرنسية والغربية في هذا البلد الإفريقي الغني بالنفط والثروات المعدنية، ومحاولة تعزيز الوجود الفرنسي في منطقة تعتبر تقليديًا مركز نفوذ خاص بفعل سابقة الوجود الاستعماري.
تعتبر فرنسا الدولة الأوربية الأولى من حيث قوة نفوذها وقدرتها على الحركة والفعل في الساحة الإفريقية
وباعتبارها قوة استعمارية سابقة في إفريقيا لم تقبل فرنسا، حسب مراقبين، أن تفقد مناطق نفوذها السابقة لصالح قوى أخرى بدأت تتغلغل إليها، فوجدت في تحركات الجماعات المسلحة ظرفًا مناسبًا لتدخّل بمباركة أممية يحقق لها أهدافها، ففرنسا لا تقبل اقتراب أي كان من مصالحها الاقتصادية والسياسية.
وتزداد أهمية المنطقة بالنسبة لفرنسا، بما يحمله باطنها من ثروات نفطية وغازية ومعدنية كبيرة (الذهب، البوكسيت، اليورانيوم، الحديد، والنحاس، اللتيوم، المنجنيز الفوسفات، الملح..)، تقع على مقربة من حقول النفط الجزائرية التي تشكل مطمعًا كبيرًا للفرنسيين، وعلى مسافة قريبة أيضًا من أماكن التنقيب ذات المؤشرات الإيجابية في موريتانيا، ويعتبر الذهب أهم المصادر المعدنية للاقتصاد المالي، إذ تعد ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا بعد جنوب إفريقيا وغانا، وتظهر زيارة ماكرون لباماكو مرتين في شهر المكانة التي تحظى بها مالي في سياسته الخارجية.
تمتلك مالي كميات كبيرة من النفط
ويدخل السعي المتواصل لفرنسا لتحقيق وجود مستمر في القارة الإفريقية ضمن الحسابات الفرنسية المتعلقة بالحيلولة دون الابتعاد عن إفريقيا، على اعتبار أن العلاقة فيما بينهما إنما هي علاقات مصيرية، بمعنى أنها تتعلق ببقاء واستمرار الدولة الفرنسية كقوة عظمى ذات مكانة عالمية، وفي سبيل ذلك فإنها تبرهن على ذلك بتوظيف آلية التدخلات في مناطق الأزمات والصراعات، بغض النظر عن التكاليف والنتائج المترتبة على ذلك.
تعتبر فرنسا الدولة الأوروبية الأولى من حيث قوة نفوذها وقدرتها على الحركة والفعل في الساحة الإفريقية، حتى إن إفريقيا تمثل أحد ثلاثة عوامل داعمة لمكانة فرنسا الدولية بجانب مقعدها الدائم في مجلس الأمن وقدراتها النووية.