قد لا تكون الموضوعات العلمية الطبية بشرحها التفصيلي ومصطلحاتها الطبية أكثر الموضوعات سهولة والتي يمكن للفرد البسيط أن يفهمها بشكل كامل، لكن لا شك أن هناك معلومات طبية وحقائق علمية يعرفها غالبية الناس، وفي كثير من الأحيان تكون هذه المعلومات متضاربة أو متناقضة، فمثلًا قد نقرأ عن دراسة تثبت فائدة كوب القهوة ودراسة أخرى تسرد سلبيات الكافيين ومخاطر هذه المادة على صحة الجسم، فتكون هذه الدراسة مصدرًا للتشويش على الثقافة الطبية العامة، بحيث يقع العالم في حيرة لا حسم لها.
يرى خبراء أن أكبر مشاكل الدراسات الطبية هي نسبة الخطأ المرتفعة في نتائجها، وقد يبدو هذا الرأي متطرفًا، إلا أن بعض مراكز البحوث الطبية تتحيز لجانب من النتائج، لهذا السبب يؤكد الخبراء ضرورة تكرار التجارب مرات عديدة للتوصل إلى نتيجة خالية من التحيزات.
قال عالم النفس الاجتماعي بريان نوسيك: “يجب تكرار البحوث والتجارب العلمية مرارًا وتكرارًا للعثور على نتيجة صحيحة”، ويكرر نوسيك وزملاؤه عمليات البحث في مجالات علم النفس، ووصل عدد البحوث القائمين عليها إلى 98 ورقة، إلا أن 39 من هذه البحوث كانت تحمل نفس النتائج على حد قوله.
3000 من نحو 50000 من المواد الطبية يمكن استخدامها كتوجيه طبي في رعاية الصحة للمرضى.
وصل عدد الأبحاث العلمية إلى ما يقارب 12.8 مليون دراسة بين عامي1980 و2012، ويطلع دكاترة الجامعة على 250 إلى 270 بحثًا علميًا، أما العلماء الآخرون فيطلعون على نصف هذا العدد، أي أن هذه الأبحاث تُقرأ من قبل الباحثين والمؤلفين والمراجعين لهذه الورقة العلمية وهذا يعني أن 90% من الدراسات لا تحصل على تأكيد أو إثبات إضافي من دراسات أخرى.
وبالإضافة إلى ذلك، وجدت خدمة الدراسات الجديدة للأطباء أن 3000 من نحو 50000 من المواد الطبية يمكن استخدامها كتوجيه طبي في رعاية الصحة للمرضى.
مسؤولية المؤسسات الإعلامية
كما قال باحثون في المجلة الصحية “بي إم جي” إن المبالغة في نشر الدراسات الطبية يكون بسبب وسائل الإعلام التي لا تفرق بين النصائح الطبية المباشرة والواضحة والمتعلقة بورقة علمية محددة وحالة مؤقتة.
الأبحاث العلمية عملية تراكمية من المعلومات والبيانات المتجددة والدراسات المستمرة بشكل دوري، وهذا ما قد يجعل نتيجة اليوم تختلف عن الغد.
ووجدت دراسة عام 2012 أن الوكالات والصحف الإخبارية تفرط في نشر بيانات غير دقيقة ونتائج مضللة بشأن الدراسات الطبية، وهذا الأمر يضع الجمهور في ارتباك من تناقض نتائج هذه الدراسات المنتشرة على منصات مواقع الإنترنت بالأخص.
لهذا من المهم معرفة أي نوع من الدراسات التي نقرأ عنه، سواء كانت هذه البحوث نظرية أو تطبيقية أو وصفية أو تجريبية أو فرضية، ومن الأهم معرفة أن الأبحاث العلمية عملية تراكمية من المعلومات والبيانات المتجددة والدراسات المستمرة بشكل دوري، وهذا ما قد يجعل نتيجة اليوم تختلف عن الغد.
الجهات التمويلية
لا ينبغي إنكار دور التمويلات المالية التحفيزية للعلماء والباحثين في المجال الطبي في إحراز التقدم والتطور المطلوب لمعالجة المشكلات والأزمات الصحية في العالم، كما أنه لا يمكن تخطي بعض المصاعب الصحية دون آلات وأدوات طبية عالية التكلفة، وتدخل الاقتصاد إلى هذا الحد يبدو معقولاً جدًا، لكن المثير للقلق انتشار الأخبار عن دعم كامل من منظمات ربحية بهدف ترويج منتجات طبية أو عقاقير معينة على حساب أدوية أخرى.
من المهم أن تُعرف الجهة الممولة لهذا البحث أو الدراسة.
في الولايات المتحدة تُمول معظم البحوث العلمية من قبل الوكالات الحكومية مثل المعاهد الوطنية للصحة أو المؤسسة الوطنية للعلوم، مع ذلك فإن الشركات الخاصة أيضًا تمول الدراسات التي تختبر الأنواع الجديدة من العقاقير الطبية.
ووجدت إحدى الدراسات أن التجارب التي فضلت علاجًا جديدًا على العلاج التقليدي كانت من الدراسات الممولة من الشركات الخاصة، حتى الشركات المتعلقة بالتغذية مثل المشروبات الغازية أو العصائر والتي تكون راعية لهذه الدراسة، فمن المهم أن تُعرف الجهة الممولة لهذا البحث أو الدراسة.
يقول أستاذ الطب في كلية الطب بجامعة ستانفورد، جون إيوانيديس، في مقابلة مع “ذا اتلنتك “عام 2010: “في هذا المجال هناك دومًا إمكانية لتشويه النتائج وتقديم ادعاءات قوية تخدم خاتمة هذه الدراسات، للحصول على التمويل الذي يبحث عنه الباحثون”، كما أنه اقترح معالجة هذه البحوث العلمية من الضغوط الخارجية التي تتدخل بشأنها وجعل البحوث أكثر تنظيمًا وصرامة.
ثقة عمياء في الطب
في تتابع أخير للأخبار في المجال الطبي، صُدم العالم عندما كُشفت وثائق سرية تفصح عن اتفاق مالكي صناعة السكر الذين دفعوا أموالًا للعلماء في جامعة هارفرد عام 1960 لتزوير النتائج التي تشير إلى وجود علاقة بين أمراض القلب والسكر، وبدلًا من هذا اتهام الدهون المشبعة بالتسبب في هذه الأمراض الخطيرة، ومن جانبه قال أستاذ الطب بجامعة كاليفورنيا، ستانتون غلانتز “لقد نجح مالكو صناعة السكر في تحويل مجرى النقاشات بشأن السكر لعقود”، وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.
بالإضافة إلى شركات المشروبات الأمريكية بيبسي كو وغيرها التي تعمل على تمويل أبحاثها الطبية بنفسها، وتقول إنه ليس هناك رابطًا بين البدانة أو زيادة الوزن ومشروب الصودا، بالمقابل توصلت بحوث ليست ممولة من جهات خاصة ولا تملك أهدافًا تجارية إلى أن المشروبات السكرية كالكولا وغيرها تسبب الوفاة والإعاقة، إذ عمم الباحثون أن 184000 حالة وفاة تحدث كل عام في العالم بسبب أمراض السكر والقلب والسرطان، الأمراض التي تتغذى بالأصل على السكريات.
عندما يكون العنوان الرئيسي للموضوع الصحة يجب أن يكون السؤال الأول: من الجهة الرابحة أو على من تعود هذه النتيجة بالفائدة؟
وهذه مشكلة مستمرة ولا يمكن التغاضي عنها أو التهاون بها دون إيجاد حل واضح. من المؤكد أن العلماء بحاجة إلى أموال لتمويل بحوثهم، وشركات المنتجات الغذائية والمستحضرات الصيدلانية الأكثر استعدادًا لتقديم المساعدات المالية – إذا انتهى هذا البحث إلى نتائج تتماشى مع مصالح الشركات الممولة – ونتيجة لذلك يتم الخلط بين القيم الإنسانية والأخلاق المهنية وتتغير المبادئ حسب الجهة الداعمة للدراسة.
والأكثر إحباطًا من ذلك كله فقدان العالم للثقة في أكثر المجالات إنسانية وخدمة للبشرية، ولكن بعد الحوادث الأخيرة يمكن أن يكون هناك متطلبات للكشف عن موارد تمويل الأبحاث العلمية المعروضة، وطلب تأكيد النتائج بعدة دراسات متبناة من جهات مختلفة ومحايدة بلا أي مصالح تجارية.
ويضيف إيوانيديس: “إنجازات العلم مذهلة، إلا أن معظم الجهود البحثية تهدر حاليًا”، ويضيف “التدخلات لجعل العلم أقل إهدارًا وأكثر فعالية يمكن أن تكون مفيدة بشكل كبير لصحتنا وراحتنا وفهمنا للحقيقة، ويمكن أن تساعد البحوث العلمية على تحقيق نجاح أكبر وبأهداف نبيلة”.
لكن يمكن عقد الآمال على أن العالم أصبح مستعدًا لاستيعاب تأثير الصناعات على السلطات، وقوة نفوذ المال على صحتنا، لذلك عندما يكون العنوان الرئيسي للموضوع الصحة يجب أن يكون السؤال الأول: من الجهة الرابحة أو على من تعود هذه النتيجة بالفائدة؟.