“هناك شعورٌ عام بأن الحكومة لا تستهدف الفقر، بل تستهدف الفقراء” الكلام هنا عن الهند وصاحبته هي الاقتصادية بجامعة “جوهرلال نيهرو” في مدينة دلهي، جاياتي جوش، أما مناسبة هذا الكلام فهو أكبر إضراب كامل عن العمل عد أكبر إضراب عمالي في التاريخ شارك فيه أكثر من 150 مليون عامل في القطاع العام في الهند في شهر سبتمبر/أيول العالم الماضي، حيث يشكل هذا الرقم أكثر من عُشر التعداد السكاني البالغ نحو 1.311 مليار نسمة. كلّف الإضراب الاقتصاد الهندي ما يقرب من 180 مليار روبية (2.7 مليار دولار) وجاء للضغط من أجل تحقيق 12 مطلب رفعتهم النقابات العمالية، أبرزهم الضمان الاجتماعي الشامل وحظر الاستثمار الأجنبي في السكك الحديدية وزيادة الحد الأدنى للأجر اليومي إلى 692 روبية.
أبهرت الهند العالم في السنوات الماضية بفعل معدلات النمو العالية والسياسات الاقتصادية الناجحة، التي ساهمت في نقل الاقتصاد الهندي إلى سابع أكبر اقتصاد في العالم وتمكنت من تقليل أعداد الفقراء في البلاد بشكل كبير مع العلم أنها لم تقضي على الفقر حيث لا يزال يشكل نحو ثلث السكان بحسب الأرقام المحلية. فما هو النموذج الاقتصادي الذي اتبعته الهند وكيف وصل إلى ما هو عليه الآن ولمن يعود الفضل في هذه النقلة؟.
يتمتع القضاء في الهند باستقلالية مشهودة في الهند وتعرف المحكمة العليا باسم المحكمة الدستورية العليا وتراقب هذه المحكمة أي انتهاك للدستور حتى ولو من قبل المؤسسات التنفيذية
من جهة أخرى، فإن صعود الهند في العقود الماضية أثار تساؤلات كبيرة بشأن عدم نجاح اقتصادات الدول العربية التي يتكلم شعوبها لغة واحدة، وتدين بدين واحد وتتوفر فيها ثروات طبيعية كبيرة، أما الهند فتتألف من أعراق وأديان ولغات كثيرة، ففي الهند يتحدثون نحو 14 لغة أساسية وما يقارب من 1000 لغة ولهجة تقليدية وشعبية، ويُشكل السكان الذين ينتمون إلى الدّيانة الهندوسيّة نسبة 82.6%، أما السكان المسلمون فيشكلون نسبة 11.4%، ويشكل المسيحيون نسبة 3%، ومع كل ذلك التنوع والتمايز تمكنوا من الصعود والنهوض باقتصادهم، في حين أن البلدان العربية التي تمتلك لغة واحدة ويدين الأغلبية بدين الإسلام، لم تتمكن من بناء اقتصادات فعالة ومنتجة ولم يتطوروا سوى في النهوض بالقطاعات الريعية من إنتاج النفط والغاز.
النموذج الاقتصادي الهندي
لكل اقتصاد عراب، فكما لكل برج عالٍ مهندس صمم وخطط وحول المرسوم على الورق إلى واقع، كذلك الاقتصاد له مهندس فنقل الاقتصاد من وضع سيء ومتردٍ إلى وضع أفضل يحتاج لتخطيط وتصميم سياسات مالية واقتصادية دقيقة تراعي المشاكل التي يقع فيها الاقتصاد والظروف المحيطة به، فعراب النهضة الماليزية هو محمد مهاتير محمد، وفي سنغافورة لي كوان يو، وفي اليابان الإمبراطور موتسوهيتو، وفي تركيا علي بابا جان.
أما في الهند فعراب نهضتها ومهندس عملية الإصلاح الاقتصادي فيها هو “مانموهان سينغ”، وزير المالية الهندي في حكومة ناراسيما راو (1991 – 1996) والذي له جملة مشهورة يقول فيها: “لو أنك في عام 1960 سألت أي شخص في العالم عن الدولة التي يتوقع أن تكون على قمة رابطة دول العالم الثالث في عام 1996 أو 1997، فإن الهند كانت ستوضع في مقدمة هذه التوقعات”.
الهند المحررة لن تكون نمرًا – إشارة إلى النمور الآسيوية – إنها الفيل الذي بدا يتحرك في تثاقل إلى الأمام، لن يسرع، ولكن لديه دائمًا قدرة على الاحتمال
بعد استقلال الهند عن بريطانيا في العام 1947، اعتمدت حكومة “جواهر لال نهرو” الاشتراكي المذهب على التخطيط وإدارة الدولة للقطاعات الاقتصادية العامة مع اهتمام ضئيل بالقطاع الخاص بالإضافة إلى سياستي الانكماش والانعزال الاقتصاديين ، كما كان متبعًا في عهد “المهاتما غاندي”.
مانموهان سينغ وزير المالية الهندي في الفترة بين 1991 و 1996
يذكر باحثون اقتصاديون أن مسار التنمية الاقتصادية متمايز في الهند بين مسارين مختلفين، الأول يقوم على مركزية الدولة والاقتصاد الموجه والسعي إلى الاكتفاء الذاتي ووضع قيود حمائية، وهذه الفترة ممتدة منذ ما بعد الاستقلال إلى حدود التسعينيات، حيث فرضت الدولة ضوابط هائلة على الاقتصاد المحلي والأوضاع المالية، ولكن في نفس الوقت ضمنت تكوين بيروقراطية ذات تدريب جيد مكنت النظام الحاكم من إدارة العمليات الصناعية والتحديثية والتنموية.
تمكنت الهند من بناء نموذج ديمقراطي أصيل، استطاع عبره تقليل حجم التداعيات التي تولدت من التعددات، والتعصبات والاختلافات الموجودة في المجتمع الهندي.
إلا أن السياسة المركزية الاحترازية المتبعة من الحكومة الهندية آنذاك بقيادة “نهرو”، لم تستطع من تحقيق تنمية حقيقية للبلاد، بل على العكس من ذلك كانت نتائجها عكسية تمامًا، ففي العام 1991 وجدت الهند نفسها مفلسة تمامًا، حيث وجد ما يناهز 120 مليون هندي، أنفسهم في دائرة الفقر، وأدى التضخم، الذي تجاوز 17% إلى تآكل الدخول المنخفضة، وانهارت الموارد المالية للحكومة، وبحلول العام 1991، أصبح 330 مليون نسمة أو اثنان من كل خمسة هنود يعيشون تحت خط الفقر.
عجزت الهند بعد العام 1991 عن الاستجابة السريعة للتطورات الاقتصادية الدولية وبخاصة ذات الصلة بتغير طبيعة رأسمال الأجنبي والشركات المتعددة الجنسيات، وهو ما قاد لثورة كبيرة في التجارة العالمية حيث تضاعفت نسبة الإنتاج العالمي. لم تستجب الهند لتلك التحولات الاقتصادية العالمية، بل زادت من تشديد إجراءات القبضة الحكومية على نواحي الاقتصاد المختلفة بكل ما حمله من عمليات تأميم وتوسيع للقطاع العام ليشمل إنتاج السلع الأساسية وغير الأساسية.
فالثغرة الأساسية في هذا النموذج أنه لم يكن مصممًا على أساس التصدير للأسواق الخارجية، بينما ركز على السوق الداخلية الهندية والوفاء باحتياجاتها من السلع والخدمات، فانصبت بؤرة تركيزه على تحقيق طفرة إنتاجية كمية وليست نوعية عالية للصناعة الهندية، وهو ما أدى إلى ضعف قدرتها التنافسية في الأسواق الخارجية.
ظهر في تلك الآونة شخص تخرج من جامعة أكسفورد وذو توجه ليبرالي رأسمالي براغماتي وهو “مانهومان سينغ”، في فترة رئيس الوزراء “ناراسيما راو”، حيث بدأ المسار الثاني للهند والذي يعتمد على الاقتصاد المتحرر وسياسات الليبرالية والانفتاح نحو العالم والاستثمارات الأجنبية لتحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة. فسينغ كان سببًا في تحرير الاقتصاد الهندي والتحول إلى الاقتصاد الحر بشكل متدرج وحَذِر بعد جدل كبير في الأوساط الشعبية والسياسية عن التوظيف السياسي لهذه القضية، إذ لم يتم تحرير سعر صرف الروبية الهندية إلا عام 1993 كما أن قطاع التأمين لم يتم تحريره أمام المستثمرين الأجانب إلا في أوائل العام 2000.
يحتضن الخليج نحو 10 من كبار المليارديريات الهنود في العالم ويوصف رجال الأعمال الهنود بأن لهم يد في المشاريع العملاقة بالخليج كما الصغيرة والمتوسطة
وفي عهد “سينغ” تم فتح المجال للمستثمرين في قطاعات الصناعة الطيران والنفط التي كانت مملوكة للدولة، وإلغاء أحكام التراخيص في وجه الشركات الأجنبية وخفض الضرائب، ولم يكن لجميع تلك الإجراءات الجديدة آثارًا اقتصادية وحسب، بل أثرت على الصعيد الاجتماعي والنفسي في المجتمع الهندي، إذ عززت ثقة المواطنين في حكومتهم وبدأ المستثمرون يثقون بمؤهلات السوق الهندية، وبدأت الشركات “في تشغيل العاطلين وانخفض حجم التضخم من أكثر من عشرة إلى ما دون العشرة، وانخفض الدين العام، كما تم استرداد احتياطي الصرف الأجنبي النفيس، وتجنبت الهند أزمة كانت لتكون محققة.
مقارنة بين الاقتصاد الصيني والهندي والعالمي من حيث الناتج المحلي الإجمالي
سينغ اعتبر أن إعادة هيكلة الاقتصاد الهندي ضرورة ماسة بعد فشل القطاع العام في القيام باستحقاقاته تجاه الشعب، فمنذ تسلمه لم يقتنع بدور القطاع العام كقاطرة للاقتصاد بعدما أثبت فشلة الذريع في تحقيق أهداف التصنيع والنمو وتخفيف حدة الفقر. ويرى باحثون في اقتصادات الدول الصاعدة، أن الإجرءات التاريخية التي قام بها “سينغ” عملت على إخراج البلاد من الكساد التي كانت تعاني منه، والأكثر من ذلك عملت على إحداث ثورة في التوجه الاقتصادي والسياسي للبلاد، من دولة اشتراكية تقوم على المركزية المفرطة، إلى دولة ليبرالية تقوم على الانفتاح الاقتصادي.
أبقت الحكومات المتعاقبة على سياسة “سينغ” الاقتصادية وعملت على تطويرها، فبعد العام 1996 تم إعطاء المزيد من الحرية والحوافز للاستثمار الأجنبي من قبيل حق التملك الكامل للأجانب في مشروعات الطرق والسياحة والصناعات البترولية وتوليد الطاقة، أو الحق في تملك 49% من قطاع الاتصالات و51% في الصناعات الدوائية، فضلاً عن كثير من القطاعات الأخرى التي أصبحت الموافقة عليها بصفة آلية مثل الكيماويات والتعدين والنقل والغزل والنسيج.
تشكل العمالة الهندية المنتشرة في دول الخليج العربي ذراعًا قوية للهند لا يستهان بها حيث بلغت أعدادها نحو 4 مليون عامل.
وتم في شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام 1999 إلغاء جميع المعوقات البيرواقراطية أمام رأس المال الأجنبي، بما يضمن منح الموافقة على الاستثمارات الأجنبية بصورة آلية، وفي عام 2000 فتحت الحكومة قطاعات الطاقة والفحم والاتصالات والخدمات البريدية والنقل أمام الاستثمار المحلي والأجنبي، كما أعلنت في مايو/ أيار من ذلك العام الخصخصة الجزئية لشركة الطيران الهندية، وسُمح للأجانب بتملك 26% من إجمالي نسبة الـ60% التي تم طرحها للشركات الخاصة.
وتمكنت البلاد في السنوات الأخيرة من استقطاب عدد كبير من الشركات العالمية التي تنتمي إلى مختلف القطاعات والصناعات بدءًا من الإنتاج الدوائي، وصولاً إلى صناعات التعدين وتكنولوجيا الفضاء، وهو ما قاد لتحقيق هذه الثورة الاقتصادية الكبيرة في البلاد.
انطلاقة الاقتصاد الهندي
هناك جملة مشهورة للكاتب الاقتصادي الباكستاني الأصل “غورشاران داس” يقول فيها: ” الهند المحررة لن تكون نمرًا – إشارة إلى النمور الآسيوية – إنها الفيل الذي بدا يتحرك في تثاقل إلى الأمام، لن يسرع، ولكن لديه دائمًا قدرة على الاحتمال”.
مع سريان سياسات الخصخصة في قطاعات الدولة المختلفة ودخول الاستثمارات الأجنبية، باتت الهند مع مرور السنوات واحدة من القوى الاقتصادية الكبرى التي تشكل تهديدًا للقوى التقليدية في العالم بعد أن تمكنت من التفوق على الصين في النمو الاقتصادي، لتتربع بذلك على عرش أكبر نسبة نمو اقتصادي في العالم وتتجه سريعًا لتستحوذ على حصة أكبر من الاقتصاد العالمي.
وبات الاقتصاد الهندي ضمن أكبر 20 اقتصادًا في العالم حسب منظمة التجارة الدولية واحتل المرتبة السابعة عالميًا من حيث الناتج المحلي الإجمالي، بالإضافة أنها عضو في مجموعة دول البريكس التي تضم بالإضافة للهند الصين والبرازيل وروسيا وجنوب إفريقيا.
وقد بلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي 2025 ترليون دولار بحسب البيانات الرسمية عام 2016 عن موقع انفستوبيديا الاقتصادي عن بيانات صندوق النقد الدولي في أكتوبر/تشرين الأول 2016 وعن الموقع نفسه في 7 تموز/يونو الجاري وبحسب توقعات البنك الدولي المستندة إلى أبريل/نيسان الماضي، فاحتل الاقتصاد الهندي المرتبة السادسة على مستوى العالم بناتج محلي قدره 2.45 تريلون دولار. وقدر الموقع أن حصة الخدمات من الاقتصاد الهندي تقدر بـ57% والزارعة بنسبة 17% فيما تقدر الصناعة بنسبة 26% من الناتج المحلي الهندي، وبلغ حصة الفرد من الناتج المحلي 1850 دولار في السنة، ويتوقع البنك الدولي أن تقفز الهند إلى المرتبة الرابعة على مستوى العالم في العام 2022. ويُذكر أن الهند تمكنت من إخراج 137 مليون فقير بحلول العالم 2014، إذ بلغ عدد الفقراء 270 مليون فقير متراجعًا من نحو 400 مليون في العام 2005.
تمكنت الهند من صنع علامة تجارية كبيرة في صناعة السينما نافست الأمريكية، والمعروفة بـ “بوليوود” ففي العام 2014 كان أمام شباك التذاكر بقاعات السينما في أمريكا عشرة أفلام أجنبية خمسة منهم كانت هندية
وتعد الخدمات التكنولوجية والمعلوماتية واجهة الاقتصاد الهندي وصاحبة أعلى مشاركة في الاقتصاد، حيث بلغت صادرات الهند 465 مليار دولار منها 155 مليار في البرمجيات، وتشارك قطاعات أخرى في الناتج مثل التعدين والبترول وصقل الألماس وصناعة الأفلام والمنسوجات والحرف اليدوية.
وتعد الولايات المتحدة أكبر الأسواق للمنتجات الهندية حيث تبلغ صادرات الهند إلى الولايات المتحدة 42 مليار دولار ومن ثم الإمارات بقيمة 33 مليار وهونغ كونغ والصين بقيمتي 13 و12 مليار دولار على الترتيب، وتعد الصين أكبر المصدرين للهند بقرابة 60 مليار دولار ومن ثم السعودية بقرابة 28 مليار دولار معظمها نفط خام ومشتقات نفطية، حيث بلغت واردات الهند من الخام 116 مليار دولار من إجمالي واردات الصين البالغة 527 مليار دولار في العام 2015، كما تبلغ احتياطيات الهند من النقد الأجنبي نحو 400 مليار دولار.
الشعب الهندي شعب فتي أكثر من الصين التي يعاني مجتمعها من شيخوخة مزمنة، كما أن الهنود أكثر إجادة للغة الإنجليزية من الصينيين وهذا يسهل عملية الاندماج بالاقتصاد العالمي
وبعد هذا الصعود الاقتصادي، أخرج البنك الدولي الهند من برنامج المؤسسة الدولية للتنمية التي تدعم الدول الفقيرة من خلال منح قروض منخفضة الفوائد وطويلة الأجل للحكومات الوطنية ويقدم الدعم لـ77 دولة من أفقر بلدان العالم نصفها في إفريقيا، وفي نهاية العام 2014 أقر برنامج المؤسسة الدولية للتنمية أن الهند لم تعد دولة فقيرة بما فيه الكفاية لتكون مستحقة للحصول على قروض من البنك الدولي.
حيث حدد البنك الدولي العتبة المسموح بها لتلقي المساعدات على أساس نصيب الفرد من الدخل الإجمالي، إذ تقف العتبة عند حدود 1215 دولارًا بينما تجاوز نصيب الفرد الإجمالي في الهند الحد المسموح به لدى البنك الدولي بعد بلوغه في العام 2014 نحو 1570 دولارًا.
تجاوزت الهند حد الاكتفاء الذاتي من الغذاء
يجدر الملاحظة، أن التطور الزراعي ساهم بشكل كبير في نهضة الاقتصاد الهندي، إذ تجاوزت حد الاكتفاء الذاتي من الغذاء وأوجدت مخزونًا احتياطيًا من الحبوب وصل عام 1979 إلى 20 مليون طن، وارتفع عام 1995 ليصل إلى 30 مليون طن، وهو الأمر الذي كان من نتائجه زيادة قدرة الدولة على التعامل مع الجفاف مثلما حدث عامي 1979 و1987.
كما زادت مساحة الأراضي المزروعة من 118.7 مليون هكتار عام 1951 إلى 140.2 مليون عام 1970، ثم إلى 142.2 مليون عام 1990، وزاد إنتاج الهند من الحبوب الغذائية من 50.8 مليون طن عام 1951 إلى 179.1 مليونا عام 1994.
الإجرءات التاريخية التي قام بها “سينغ” عملت على إخراج البلاد من الكساد التي كانت تعاني منه، والأكثر من ذلك عملت على إحداث ثورة في التوجه الاقتصادي والسياسي للبلاد، من دولة اشتراكية تقوم على المركزية المفرطة، إلى دولة ليبرالية تقوم على الانفتاح الاقتصادي.
كما تمكن القطاع الصناعي بفضل الحماية الكبيرة التي قامت به الحكومة الهندية في إطار سياسة الإحلال محل الواردات، من تحقيق طفرات إنتاجية كبيرة، وإن كانت ذات جودة منخفضة وقدرة تنافسية محدودة في الأسواق الخارجية، ومع التحول لسياسات الاقتصاد الحر برزت بعض الصناعات ذات التقنية العالية، أهمها صناعة البرمجيات التي قدرت قيمة صادراتها عام 2000 بنحو 3.9 مليار دولار بعد أن كانت لا تتجاوز 100 مليون دولار في أوائل التسعينيات، وارتفعت إلى 155 مليار دولار في العام 2015.
كما استغلت الهند ميزة توفر العامل البشري، في تحسين قدرتها على المنافسة في الأسواق الخارجية، عبر تصنيع سلع وخدمات بأسعار رخيصة الثمن وبجودة عالية، وهو ما جذب الشركات العالمية إلى الهند للاستثمار فيها وتصدير السلع للخارج.
منافسة شرسة مع الصين
إذا كانت الصين توصف بأنها “تنين” كبير بدأ في العقود الأربعة الماضية عملية تنموية كبيرة تمكن عبرها من الانتقال إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم وأصبح محرك النمو في العالم، فإن الهند وصفت بأنها “الفيل” الذي بدأ عملية تنموية تعد من أهم التجارب المثيرة للجدل في العالم المعاصر، لأنه استطاع في السنوات الأخيرة أن يحقق تطورًا كبيرًا في مقدراته التنموية، وأن يصبح قوة اقتصادية عالمية.
وقد دار كلام كثير في الأفق طيلة الفترة الماضية إزاء قدرة الهند على إزاحة الصين، وأنها أي الهند، أصبحت منافسًا مستقبليًا للصين على الرغم من الفارق الكبير بين البلدين من حيث الناتج المحلي لصالح الصين، إذ تمكنت الهند من تجاوز معدلات النمو الصينية منذ منتصف العام 2014 بتحقيقها نموًا اقتصاديًا قدره 7.6% في حين أن الصين حققت معدلات نمو قدره 6.9%.
تعد الولايات المتحدة أكبر الأسواق للمنتجات الهندية حيث تبلغ صادرات الهند إلى الولايات المتحدة 42 مليار دولار ومن ثم الإمارات بقيمة 33 مليار وهونغ كونغ والصين بقيمتي 13 و12 مليار دولار على الترتيب
ويعتقد خبراء اقتصاديون، أن الهند ستواصل تفوقها على الصين في السنوات القادمة، بمعدل نمو سنوي يناهز 7% حتى عام 2024 وفي حال بقاء معدلات النمو مرتفعة على هذا النحو فإن الاقتصاد الهندي سيصبح ثالث أكبر اقتصاد في العالم بقيمة تعادل 5 ترليونات دولار بحلول العام 2025، وتوقعت أبحاث اقتصادية العام الماضي أن يحتل الاقتصاد الهندي المرتبة الثانية في العالم في العام 2050 بحجم يبلغ 44.128 ترليون دولار بعد الصين التي ستزيح الولايات المتحدة من هذه المرتبة وسيبلغ حجم الناتج المحلي للصين حوالي 58.499 ترليون دولار.
استكمل “مانموهان سينغ” الإصلاحات الاقتصادية في الفترة التي استلم فيها رئاسة الوزراء بين 2004 وحتى 2014 وجاءت حكومة مودي لتكمل الطريق بعده وتطبق إصلاحات هيكلية عديدة أبرزها التخلي عن القطاع المصرفي بعدما تعثرت في إدارته مما رفع القروض غير المدفوعة.
كما عملت على تسهيل إجراءات إنجاز الأعمال وتشجيع الأعمال والاستثمار وتوظيف الأموال في مشاريع بالبنية التحتية والمرافق لتعزيز النشاطات الاقتصادية وخفض معدل الضريبة على الشركات من 30 إلى 25% وتسهيل متطلبات الترخيص ورفع أجور القطاع الخاص، بالإضافة إلى تخفيض دعم الوقود إلى 14%، واجتذاب استثمارات ضخمة في قطاعات الإلكترونيات والطاقة الشمسية والصناعة العسكرية والسكك الحديدية والسيارات.
تعد الهند أكبر منتج أفلام في العالم بواقع 1200 فيلم في العام
كل هذه الإصلاحات أسهمت في تحريك الاقتصاد الهندي نحو الأمام، حتى جاء العام 2014 وبدأت الصين تعاني من مشاكل اقتصادية على إثرها تراجعت معدلات النمو الاقتصادية هناك، وهددت اقتصاديات العالم كون الصين تعد محرك النمو في العالم، فجاءت الهند لتحل محل الصين لتتجاوز معدلات النمو الهندية معدلات النمو الصينية.
وما يزيد من احتدام المنافسة بين البلدين لصالح الهند، أن الشعب الهندي شعب فتي أكثر من الصين التي يعاني مجتمعها من شيخوخة مزمنة، كما أن الهنود أكثر إجادة للغة الإنجليزية من الصينيين وهذا يسهل عملية الاندماج بالاقتصاد العالمي الذي يعتمد على اللغة الإنجليزية بشكل كبير، إلى جانب الانفتاح على العالم الغربي وتلقي مختلف العلوم من هناك.
ويشير باحثون اقتصاديون أن الهند استفادت من فترة الاستعمار الإنكليزي حيث مكنت النخب العلمية الهندية عبر الإلمام باللغة الإنجليزية من تملك ناصية العلوم المختلفة، ولهذا “تشير الدراسات إلى أن المهندسين في الهند أكثر كفاءة من الناحية التدريبية من نظرائهم في الصين”.
التطور الزراعي ساهم بشكل كبير في نهضة الاقتصاد الهندي، إذ تجاوزت حد الاكتفاء الذاتي من الغذاء وأوجدت مخزونًا احتياطيًا من الحبوب وصل عام 1979 إلى 20 مليون طن، وارتفع عام 1995 ليصل إلى 30 مليون طن
هناك 500 مؤسسة أمريكية تعين مديرين تنفيذيين أجانب معظمهم هنود، إلى جانب هذا فإن الهند تتفوق على الصين في القطاع الزراعي فمساحة الأراضي الصالحة للزراعة أكبر بكثير من الصين، ويُذكر أيضًا أن الهند تمكنت من صنع علامة تجارية كبيرة في صناعة السينما نافست الأمريكية، والمعروفة بـ “بوليوود” ففي العام 2014 كان أمام شباك التذاكر بقاعات السينما في أمريكا عشرة أفلام أجنبية خمسة منهم كانت هندية دون وجود أي فيلم صيني. إذ تعد الهند أكبر منتج أفلام في العالم بواقع 1200 فيلم في العام، بلغت مبيعات التذاكر نحو 3 مليارات دولار وبإيرادات سنوية تصل إلى 8.1 مليارات دولار.
إضافة أن الهند استثمرت في مجال البحث العلمي كما فعلت جميع الدول المتقدمة، ويعكس الترتيب العالمي لمراكز الأبحاث مستوى التطور العلمي بهذا البلد، حيث يشير التقرير السنوي لإحصاء مراكز التفكير الذي تقوم به جامعة بنسيلفانيا الأمريكية، عام 2010، أن الهند احتلت الترتيب الرابع على المستوى الدولي بـ261 مركزًا بعد كل من بريطانيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية. ويعكس هذا الترتيب مؤشر قوي ودلالة على خطط الهند في وضع قدمها في دائرة المنافسة العالمية وقرع أبواب التنمية الاقتصادية بكل ثقة، ومن جانب آخر يدل هذا أنه لا تنمية بدون بحث علمي وأن الرهان على الاستثمارات البعيدة المدى، يعد جزءًا من التفكير الاستراتيجي.
سلبيات التنمية الهندية
لم يكتمل نموذج الهند الاقتصادي، فالحكومة اتهمت برفع معدلات النمو لخلق فرص عمل، لكنها بنفس الوقت لم تركز على إيلاء مستوى التنمية المستدامة أهمية أكبر، لهذا ظهر ضعف في مستويات التعليم والصحة على الرغم من معدلات النمو العالية، وفي هذا السياق يُذكر أن أكثر من ربع السكان البالغ عددهم مليار وربع الميار نسمة ما زالوا يعانون من الفقر.
وما زال أكثر من 250 مليون هندي محرومين من الكهرباء، وينخفض معدل الأعمار (مؤشر الرعاية الصحية والمرض) فيها عن المتوسط العالمي، وما زالت الطبقية وعدم المساواة والإقطاع تشكل حالة انقسام اجتماعي اقتصادي، ومصدرًا للصراعات والأزمات الداخلية في الهند، وما زال معظم المزارعين لا يملكون الأراضي التي يعملون فيها، مما يجعلهم في حالةٍ من الهشاشة وعدم الأمان وضعف الإنتاجية.
في نهاية العام 2014 أقر برنامج المؤسسة الدولية للتنمية أن الهند لم تعد دولة فقيرة بما فيه الكفاية لتكون مستحقة للحصول على قروض من البنك الدولي.
وبالنظر إلى مؤشرات التنمية الإنسانية ومقارنتها بالدول المجاورة والمشابهة للهند، يلُاحظ أنها تحتل مكانةً متأخرةً في مواجهة الفقر وسوء التغذية وعدم القراءة والكتابة، ثم إن حقوق العمال باتت تحت رحمة الشركات فيما تبذل المنظمات الاجتماعية والنقابات العمالية جهودًا للتأثير في السياسة الاقتصادية الهندية، على النحو الذي يحقق للعمال الضمان الاجتماعي وزيادة الحد الأدنى من الأجور، وقد نظمت إضرابات كبرى لأجل ذلك، إذ لا يتمتع بحماية قانون العمل أكثر من 5% من العمال.
أضف أن الفساد مستشرٍ بشكل كبير في الهند لدرجة أن الغالبية من الهنود يعتبرون الفساد المزمن سببًا كبيرًا في تحجيم اقتصاد بلدهم والأداء الاقتصادي العام فضلاً عن تأثير سلبي على كفاءة الحكومة، ومن هنا كان اهتمام الحكومة الجديدة بدعم استقلال السلطة القضائية ومعالجة افتقار المحاكم الهندية إلى التكنولوجيا اللازمة لمراجعة 30 مليون قضية عالقة حسب تقديرات الأمم المتحدة. وعلى الرغم من هذا تبقى الهند بنظر آخرين “أمة المهندسين اللامعين”، والمديرين الكبار في الشركات العالمية، أو “أمة العباقرة”، كما تقول الكاتبة البريطانية من أصل هندي، أنجيلا سايني.
الجدير بالذكر هنا أنه على الرغم من معدلات النمو المتسارعة التي حققتها الهند، فإن معدلات الفقر لا تزال مرتفعة، وهذا الأمر يكشف عن ثغرة كبيرة في النموذج التنموي المعتمد، في حال إذا كان يرتكز على تحقيق معدل نمو عال أم لتحقيق التنمية!. والفارق بين المفهومين شاسع. وهذا بحد ذاته يعد تحد كبير أمام الحكومات الهندية المستقبلية وهو جدير بالاهتمام والدراسة من قبل المسؤولين الهنود حيث يمكن أن يشكل تهديدًا لاستمرار تجربتها التنموية في المستقبل.
فالواقع يقول أن الفقر في الهند ينخفض بوتيرة بطيئة، مقارنة مع السرعة الرهيبة في النمو الاقتصادي، وتعاظم التفاوت بين الأغنياء والفقراء، فالأرقام الرسمية تشير، إلى أن نسبة الفقراء في الهند تعدت 55%، في حين تشير أرقام الحكومة الهنية أن نسبتهم 29.7% من السكان يقبعون تحت مستوى الفقر وسواءًا كان هذا أو ذاك فإن النسبة تعد مرتفعة للغاية.
العمالة والأثرياء الهنود والقوة الناعمة للهند في الخليج العربي
تشكل العمالة الهندية المنتشرة في دول الخليج العربي ذراعًا قوية للهند لا يستهان بها، ليس من جانب مساهمتهم في الاقتصاد فحسب، بل لأنهم باتوا يشكلون الغالبية العظمى من العمالة الوافدة هناك، إذ باتت تلك العمالة عبارة عن قوة ناعمة ونفوذ خارجي لها تسعى الهند من خلالها بالضغط على دول الخليج في قضايا عدة.
إذ يشير بحث في مركز الجزيرة للدراسات بعنوان “العمالة الوافدة في دول الخليج: واقعها ومستقبلها” فمن أصل نحو 22 مليون هندي يعملون ويعيشون في الخارج بمن في ذلك الهنود غير المقيمين بحسب بيانات العام 2012، يعمل نحو 7 ملايين منهم في دول مجلس التعاون الخليجي، وقد يصل العدد الفعلي إلى 8 ملايين نظرًا إلى بقاء بعضهم بصورة غير قانونية، وعدم تسجيل أسمائهم لدى البعثات الدبلوماسية الهندية.
ويتوزع العمال الهنود في دول الخليج كما هو مبين في الشكل أدناه، ففي السعودية التي تحتوي على أعلى رقم منهم بواقع 1.8 مليون عامل وتتشابه الإمارات بنفس الرقم تقريبًا بواقع 1.750 مليون، ومن ثم تأتي عُمان بواقع 718 ألف عامل، وفي الكويت يوجد حوالي 580 ألف وفي قطر قرابة 500 ألف عامل، أما في البحرين فيبلغ عددهم 350 ألف. يُذكر أن أرقام العمالة الهندية في تلك الدول زادت في الأعوام القليلة الماضية عن تلك الأرقام، ففي الكويت مثلا بلغت العمالة الهندية في العام 2014 نحو 786 ألف عامل، وفي السعودية وصل عددهم إلى نحو 2.8 مليون عامل. هذه القوة العاملة لا يستهان بها إطلاقًا وقد تشكل عامل ضغط للحكومة الهندية على حكومات الخليج لأنها أي العمالة الهندية باتت تمثل نسبة 85% من مجموع العمالة الوافدة في الخليج.
وقد ذكرت تقارير إعلامية أن الهنود شكلوا لوبيات في بعض الدول للتأثير على الوظائف ومجال الأعمال في الخليج، كما أن هناك اجتماعات سنوية تقوم للجاليات الهندية في تلك الدول بغرض تذليل الصعوبات أمام العمالة الهندية وعلاج مشاكلها والتواصل مع الحكومات في حال كانت هناك أي مشاكل، ومن ثم تدريب العمالة وتطويرها، وقد لوحظ أن الجالية الهندية تعد من أكثر الجاليات المتميزة بروح التعاون والتكافل فيما بينها دونًا عن الجاليات الأخرى.
بلغت واردات الهند من الخام 116 مليار دولار من إجمالي واردات الصين البالغة 527 مليار دولار في العام 2015، كما تبلغ احتياطيات الهند من النقد الأجنبي نحو 400 مليار دولار.
يُذكر أن العمالة الهندية تعمل في كافة المجالات والتخصصات، إلا أن قطاع المقاولات له النصيب الأكبر، إلى جانب البرمجة والخدمات المنزلية والقطاع الطبي والصحي والأعمال الهندية الأخرى مثل قيادة السيارات وما شابه ذلك.
كما تغير سلوك الحكومة الهندية مع عمالتها في دول الخليج مع مرور الوقت، حيث باتت تهتم لأمرها وتطالب بحقوقها في الدول المستقبلة لها كلما أصابها مكروه، وكانت الأزمة المالية التي مرت بكبرى شركات التطوير العقاري في السعودية العامين الماضيين والتي أدت بالإطاحة بشركة “سعودي أوجيه” من السوق بسبب إفلاسها، إذ عجزت الشركة عن سداد أجور نحو 56 ألف موظف لديها وأصدرت تأشيرات مغادرة من البلاد ويُذكر أن عدد العمال الأجانب في الشركة يبلغ نحو 173 ألفًا توقفوا عن العمل بسبب تأخر تسليم رواتبهم.
وبينما عمدت الحكومة السعودية إلى مساعدة الموظفين السعوديين في الشركة وتأمين رواتبهم ونقلهم إلى وظائف في شركات أخرى، لم تقدم اهتمام كبير للموظفين الأجانب ومن بينهم الهنود، فحدثت أعمال شغب وأحرقت حافلات للشركة.
%29.7 من سكان الهند يقبعون تحت مستوى الفقر
فتحركت عندها وزارة الخارجية الهندية في يوليو/تموز من العام الماضي، لمساعدة آلاف العمال الذين يعيشون ظروف معيشية صعبة بعد قطع الغذاء عنهم بسبب عدم تسليم رواتبهم، وذكرت وزيرة الخارجية الهندية أن عدد العمال الذين يعيشيون ظروفًا معيشية صعبة في جدة يتجاوز الـ10 آلاف عامل، فتم إرسال غذاء لهم في مساكنهم بجدة، وتم فتح قنوات تواصل مع الحكومة السعودية لمعالجة أزمتهم بأسرع وقت.
كما أن أثر الأغنياء الهنود وأصحاب الأعمال في الخليج لا يقل أهمية عن العمالة الهندية، فالأغنياء لهم أهمية حساسة في كل دولة فسحب أموالهم وأعمالهم واستثماراتهم قد يؤدي في بعض الأحيان إلى تهديد دول برمتها، ويحظى رجال الأعمال والمستثمرين الهنود بأهمية كبيرة لدى الحكومات الخليجية بسبب مساهماتهم في رفع مستوى الاقتصاد والاستثمارات فيه.
على الرغم من معدلات النمو المتسارعة التي حققتها الهند، فإن معدلات الفقر لا تزال مرتفعة، وهذا الأمر يكشف عن ثغرة كبيرة في النموذج التنموي المعتمد، في حال إذا كان يرتكز على تحقيق معدل نمو عال أم لتحقيق التنمية
إذ يحتضن الخليج نحو 10 من كبار المليارديريات الهنود في العالم ويوصف رجال الأعمال الهنود بأن لهم يد في المشاريع العملاقة بالخليج كما الصغيرة والمتوسطة، ففي قطاع التجزئة يضم 46% من إجمالي أعمال أغنى 50 هنديًا في الخليج، وكذلك قطاعا البناء والصناعة بنسبة 28% بالإضافة إلى استثمارتهم في قطاعات الرعاية الصحية والمصارف والتكنولوجيا وغيرها. وقد رصدت مجلة أربيان بزنز العام الماضي 50 هنديًا من أغنى الهنود في الخليج العربي، وقد بلغ حاجز الدخول إلى القائمة 270 مليون دولار ومن المتوقع أن يرتفع هذا الحاجز في الأعوام المقبلة، وتبلغ ثروة أغنى 50 هندي في الخليج حسب المجلة قرابة 40 مليار دولار، ويتقدمهم عملاق تجارة التجزئة “ميكي جاجتياني” الذي جمع قرابة 4 مليارات دولار من عمليات مجموعته “لاندمارك” في دول الخليج.
تجربة ديمقراطية رائدة
من المفارقات في هذه القوة الصاعدة والواعدة في المسقبل، أن يجد الشخص تعددًا في العرقيات واللغات لدرجة تصل إلى التعقيد، فهناك أكثر من 33 لغة مستعملة في البلاد إلى جانب المئات من اللهجات المحلية، وهناك التعدد الديني، بين الهندوسية والإسلام والبوذية والسيخ والمسيحية وغيرها، بالإضافة إلى التفاوت كبير في طبقات المجتمع بين الفقراء والأغنياء فأكثر من ربع السكان يعانون من الفقر، فضلا عن النزاع الموجود بين الهند وباكستان، والسباق النووي بينهما. ومع كل ذلك استطاعت الهند من بناء نموذج ديمقراطي ينعكس إيجابًا على الاقتصاد القومي ويكون لهم عونًا في التقدم نحو الأمام والمنافسة بين القوى الكبرى في العالم.
وبرأي باحثون فقد تمكنت الهند من بناء نموذج ديمقراطي أصيل، استطاع عبره تقليل حجم التداعيات التي تولدت من التعددات، والتعصبات والاختلافات الموجودة في المجتمع الهندي. فنموذجها الديمقراطي ركز على ترسيخ القيم الديمقراطية في المجتمع لمواجهة التحديات التي تواجهها، فالدستور يعتبر أن الشعب هو مصدر السيادة والشرعية وبالتالي فإقرار القوانين يختص بها البرلمان.
مسار التنمية الاقتصادية متمايز في الهند بين مسارين مختلفين، الأول يقوم على مركزية الدولة والاقتصاد الموجه والسعي إلى الاكتفاء الذاتي ووضع قيود حمائية والثاني يقوم على الاقتصاد الحر وسياسات الليبرالية والانفتاح على العالم واستقبال الاستثمارات الأجنبية.
كما يتمتع القضاء في الهند باستقلالية مشهودة في الهند وتعرف المحكمة العليا باسم المحكمة الدستورية العليا وتراقب هذه المحكمة أي انتهاك للدستور حتى ولو من قبل المؤسسات التنفيذية، كما تتمتع كل ولاية محكمتها العليا التي يرأسها كبير القضاة.
رئيس الوزراء الهندي الحالي ناريندرا مودي
من جانب آخر يعكس الإعلام القوي الذي تتمتع به الهند سواءًا المكتوب أو المسموع أو المرئي، مختلف الآراء السياسية المعارضة والمؤيدة. وعلى العموم فإن مرتكزات التجربة الهندية من حيث المؤسسات السياسية والقضائية والإعلامية كانت ناجحة وفعالة وساهمت في تكوين نظام برلماني مستقر ونظام اقتراع حر ونزيه، وهناك تداول سلمي للسلطة وتتمع البلاد بصحافة حرة ونزيهة، جميع ما سبق يشكل دلالة مهمة ولا غنى عنها في أي تجربة اقتصادية صاعدة.
الأجدر بدول العالم العربي الذي لا تحوي بلدانه تعقيدات كثيرة كالموجودة في الهند، كالتعدد في الأعراق والأديان واللغات وغيرها، بناء نموذج تنموي مستدام يمكّن اقتصادات العالم العربي من الصعود وبناء قدراتها بشكل ذاتي بعيدًا عن الاعتماد على الخارج والتحرر من الاعتماد على النفط والغاز والاستثمارات الريعية إلى الاستثمار في الصناعة والخدمات المتنوعة وفتح المجال أمام مراكز البحث العلمية في كافة التخصصات وكذا تمكين الإنسان من خلال توفير تعليم وفق المواصفات العالمية لأنه السبيل لارتقاء أي أمة.