في أثناء حركة الحقوق المدنية في ستينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة، حين كانت غمامات التمييز العنصري تحجب الشمس عن الأمريكيين السود، ورواسب المفاهيم العنصرية تكسو عقول الأمريكيين البيض، وجد الرياضيون السود أنفسهم على نقطة تقاطع بين المسعيين الأساسيين اللذين مثلا التجرية الأمريكية منذ نشأتها وحتى ذلك الحين.
المسعى الأول الرأسمالية، فأمريكا أرض الفرص، والشركات الإعلامية الرياضية بحاجة للرياضيين الأعظم موهبة لتحقيق أعلى المكاسب، والمسعى الثاني أن أمريكا بلد أوتي نفيرًا كثيرًا في القرن التاسع عشر على أكتاف العبيد الأفارقة، لكن ميزان الرياضيين السود لم تكن به شائبة، فقد كان لأكثرهم مواقف مشرفة وثورية تستفز الحكومة والمجتمع وتنقص من فرحتهم عند كل فوز يحققه رياضي أسود لأمريكا، بالطبع لم يكن نضالهم دون ثمن، فقد صودرت أوسمتهم وأموالهم وشوهت سمعتهم وسُلِط عليهم كل المنافذ الإعلامية.
في هذه الأثناء، قررت شركة شيفروليه استهداف سوق الأمريكيين السود، فقصدوا البحث عن رمز من رموزهم الرياضيين، بالتأكيد لم يكن لهم أن يتعاقدوا مع أمثال محمد علي، فهؤلاء يمثلون صورة الرجل الأسود الغاضب والثوري ووجوده يذكر المجتمع بالجرائم التي ترتكب في حق ذويه، فمن حسن حظهم أن أحد أشهر الرياضين السود وأعظم الرياضيين موهبة وسرعة في كرة القدم الأمريكية كان قد تجنب حركة الحقوق المدنية طيلة مسيرته، أورينثيال سيمبسون، الذي لم يشارك في أي من المقاطعات التي نظمها الرياضيون السود، ولم يتكلم في قضياهم.
سيمبسون كان يمثل صورة الرجل الأسود الجيد والسعيد المبتسم والممتن للتجربة الأمريكية، كان يمثل صورة الرجل الأسود القابل للتسويق والذي اكتسب محبة السود لأنه رجل أسود ناجح، ومودة البيض لأنه لم يعبأ كثيرًا بقضايا السود.
بعد التعاقد مع شيفروليه، كثر تهافت الشركات من كل حدب وصوب على التعاقد مع سيمبسون، وسرعان ما أصبح الصورة التقليدية للمستهلك الأمريكي الأسود، بالطبع، ليس لأحد أن يلوم سيمبسون حينها على اعتزاله قضايا السود، فالإنسان ضعيف، ولا يدري أيٌ منا ظروف نشأته ولا ما يفعل أحدنا إذا عرضت عليه كل يوم عقود تقدر بالملايين مقابل التبسم أمام الكاميرات خلف سيارة أو حذاء رياضي، لكن ما يجعل سيمبسون إنسانًا دنيئًا أنه كان يتاجر بقضايا السود إذا استلزم الأمر.
باسم يوسف ذهب لأمريكا ليلعب دور سيمبسون نفسه، درو العربي الجيد والقابل للتسويق، العربي الذي يذم الإسلاميين (داعش والإخوان على السواء) ويذم الديكتاتوريات العربية، ويخرج على قناة DW ليقول إن على المسلمين في أمريكا أن يتوقفوا عن النفاق وأن يعترفوا بممارسة أساليب ترامب في بلدانهم، ومقولته في الحقيقة تستحق الاستيقاف والتأمل في مدى جهله، فهو يساوي بين ما تتعرض له الأقلية المسلمة في بلد ديموقراطي حر وما تتعرض له الأقليات غير المسلمة تحت حكم ديكتاتوريات لا تمثل شعوبها.
لكن لعله بدا لباسم أن مقولة كهذه ستجد صداها في عقول بعض الجماهير اليمينية الذين يؤمنون بأن المسلمين في أمريكا يجب أن يعاقبوا بآثام الديكتاتوريات التي هربوا منها.
فيلم “دغدغة العمالقة” يستهدف المشاهد الأمريكي بشكل أساسي، فيحكي له قصة الثورة بشكل تم تبسيطه ليتوافق مع مقاسات قوالب الأفلام الأمريكية
أما ليرضي الجماهير اليسارية فقد ظهر مع مجموعة من أكبر الإعلاميين الأمريكيين المحسوبين على اليسار مثل ستيفن كولبيرت ولاري كينغ وغيرهم ليحكي لهم قصة نضاله ومحاربته لكل الديكتاتوريات التي مرت على مصر بداية من مبارك ومرورًا بالإخوان وانتهاءً بالسيسي، وأنه أول من سخر من السلطات في تاريخ مصر وأضحك المصريين وأبكاهم، ثم ينهي لقاءه بالتسويق لفيلمه الوثائقي الإنجليزي “دغدغة العمالقة” (Tickling Giants) وكتابه الإنجليزي أيضًا “الثورة للمبتدئين” (Revolution for Dummies)، فكانت مشاهدتي لفيلمه ما دفعني لكتابة هذا المقال.
فيلم “دغدغة العمالقة” يستهدف المشاهد الأمريكي بشكل أساسي، فيحكي له قصة الثورة بشكل تم تبسيطه ليتوافق مع مقاسات قوالب الأفلام الأمريكية الرخيصة التي تحكي قصة المناضل الذي حارب الإسلاميين المتطرفين والديكتاتوريات العسكرية في الشرق الأوسط، ثم أُخرج بالقوة من وطنه وتم نفيه، ثم ينتهي الفيلم بكادر درامي للبطل يمشي على الجليد وحيدًا في أرض المنفى.
الحقيقة أن استهداف المشاهد الأمريكي خلال الفيلم كان فجًا بشكل مهين لأي شخص مصري كانت الثورة بالنسبة له تجربة عميقة ومنبع دروس مؤلمة وكاشفة، ولعل أكثر ما تمثلت به هذه الإهانة هي استسهال الكذب، الكذب الساذج والفج، والكاذب الذي لا يبالي بما تمثله أكاذيبه لجيل شهد على أهوال لا قبل لهم بها، لذا فقد وجب سرد بعض الحقائق التي شهدنا عليها خلال سنوات الثورة وما تلاها بخصوص ثلاث كذبات محورية في الفيلم.
الكذبة الأولى: نضال باسم يوسف
باسم كان مناضلاً حين كان النضال رخيصًا وعواقبه تكاد لا تذكر وأرباحه تكاد لا تحصى، واعتزل النضال عندما أصبح ثمن النضال غاليًا وعواقبه مميتة ونهائية، وكما ذكرت سابقًا، ليس لنا أن نلوم أحدًا على اعتزاله النضال، فلكل إنسان ظروفه وطاقته، ولا يدري أي منا ما تعرض له باسم من ضغوطات أو تهديدات بعد الانقلاب، لكن الدناءة أن يدعي باسم أنه قام بأكثر من ذلك، والأدنى أن يتربح بادعاء أنه قام بأكثر من ذلك.
الادعاء خطورة أعمق عندما يرسخه باسم في الإعلام الأمريكي، فهو يدعم رأي اليمين المتطرف بأنه لا أمل للديموقراطية في الشرق الأوسط
باسم يدعي بأن مرسي كان ديكتاتورًا مثله مثل السيسي، وبغض النظر عن غباء هذا الادعاء على المستوى الباثولوجي، فهو ادعاء يعمل تمامًا في صالح كذبة نضاله، فإذا ادعى أنهما يستويان مثلًا، فكأنه يدعي أن ما يتعرض له الإعلاميون في مصر اليوم نفس ما تعرض له هو في أثناء رئاسة مرسي.
ولهذا الادعاء خطورة أعمق عندما يرسخه باسم في الإعلام الأمريكي، فهو يدعم رأي اليمين المتطرف بأنه لا أمل للديموقراطية في الشرق الأوسط لأنها ستجلب إسلاميين متطرفين، فخيرٌ للولايات المتحدة دعم الديكتاتوريين العسكرين الذين يضمنون مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، ولهذه الرسالة صدى عظيم في عقل المشاهد الأمريكي والذي لا يدرك الفرق بين التيارات الإسلامية المختلفة ولا يكترث كفاية لدراسة هذه الفروق.
الكذبة الثانية: ثورة 30 يونيو
خرج علينا باسم يوم الثالث من يوليو عام 2013 ليخبرنا أن ما حدث “ليس انقلابًا عسكريًا”، وأتذكر ذلك اليوم الارتباك والحيرة التي واجهها مذيع CNN أندرسون كوبر في مقابلة له مع “ثائر” 30 يونيو الجهبذ أحمد الهواري وهو يعلنها عالية أن العلاقات العامة للإعلام الأمريكي تقدم صورة سيئة للشعب الأمريكي عن الشعب المصري عندما يستخدمون كلمة انقلاب، وأنهم بذلك يصطفون في جانب الإسلاميين.
ورغم توجس الإعلاميين الأمريكيين من اتخاذ مواقف قد تضعهم في قالب واحد مع تيار إسلامي، فإن المهنية الصحافية والقدرة البدائية عند الإنسان على إدراك الأشياء وتسميتها جعلت أندرسون كوبر يرد قائلاً: “عفوًا سيدي، وظيفتي ليست القيام بدور العلاقات العامة لك أو لغيرك، نحن هنا نتحدث عن استخدام كلمة انقلاب، إذا كنت لا تريد أن تستخدمها فهذا شأنك، ولكن هذا لا يمنع أن نستخدمها نحن، فهذه ديموقراطيتنا وهكذا تعمل”، ثم أنهى المقابلة.
باسم يوسف يدرك جيدًا عدم قدرة الإعلاميين الأمريكيين على تقبل فكرة أن ما حدث ليس انقلابًا، وأن المقولة تجعل من قائلها أبلهًا لم يرث عن آدم القدرة على تسمية الأشياء، لذلك غير مقولته لتتوافق أكثر مع البيئة الأمريكية للمقولة: “بعض الناس يقولون إن ما حدث ليس انقلابًا”، وهنا يدعونا باسم للتأمل في قدرة الإنسان على تحرير نفسه من مسؤوليه كلامه وإلقائها على مجموعة أناس آخرين مجهولين يتميزون بأنهم دائمًا وبالصدفة البحتة يتفقون مع القائل 100%، فقط باستخدام عبارة “بعض الناس يقولون” قبل أي جملة.
والحجة التي يكررها باسم خلال فيلمه ليفسر لنا وجهة نظر بعض الناس الذين يقولون إن ما حدث ليس انقلابًا، أن شعبية السيسي تفوق التصورات، وأنه أصبح إلهًا عند المصريين، والشعب المصري كره الإسلاميين لدرجة أنه لا يمانع حكم الدولة العسكرية.
مبارك وجب سقوطه ليس لأن شعبيته كانت متدنية ولكن لأنه رئيس بانتخابات مزورة
وهنا نضطر مرة أخرى لمراجعة مبادئ مبدأية عامة لتسمية الأشياء، إن شعبية أي حزب أو طرف سياسي قيمة رقمية يتم حسابها عن طريق انتخابات ديموقراطية نزيهة أو استفتاءات ديموقراطية نزيهة، وأضعف الإيمان حسابها عن طريق مراكز أكاديمية بحثية محايدة مثل جالوب أو بيو.
فعلى أي أساس تمت حسبة شعبية السيسي؟ أعرف أن البعض قد يرتبك بمشاهدة “الملايين” محتشدين في الشوارع يعبرون علنًا عن مُحنهم تجاه الرجل، لكن ولحسن الحظ، اتفقت البروتوكولات الأكاديمية خلال الخمسة القرون الماضية منذ تأسيس الطريقة العلمية أن المُحن على قارعة الطريق ليس طريقة مناسبة لجمع المعلومات وتعريف الأشياء.
وتجنبًا للسؤال الأحمق المحتمل: فماذا عن مبارك الذي سقط لأن الملايين نزلوا الشارع؟ فوجب التذكير بأن مبارك وجب سقوطه ليس لأن شعبيته كانت متدنية ولكن لأنه رئيس بانتخابات مزورة.
الكذبة الثالثة: جون ستيوارت المصري
لقد قالها باسم يوسف في كل مناسبة يُعرِّفُ فيها نفسه “أنا جون ستيوارت المصري”، ويبدو أنه أكثر لقب يفتخر به، فيقولها للمشاهد المصري الذي لا يعرف من هو جون ستيوارت فيصدقه، ويقولها للمشاهد الغربي الذي لا يعرف باسم ولا مصر فيصدقه، ولذا وجب التنبيه أن هذا اللقب من أكبر الإهانات الممكن توجيهها لجون ستيوارت.
فجون ستيوارت ليس مجرد كوميديان، جون ستيوارت أولاً وآخرًا صحافي، صحافي يتحرى طرق الصحافة المهنية في البحث والتدقيق والتحقق من مصداقية المصادر والترابط المنطقي للقصة الصحافية، جون ستيوارت أسس جيلاً من الصحافيين الساخرين مثل جون أوليفر وستيفين كولبيرت وتريفير نوح والذين ورثوا طريقته وأصبحوا مصدر أخبار موثوق من الأمريكيين أكثر من القنوات الإخبارية خصوصًا في هذه الفترة من رئاسة ترامب.
وكونهم صحافيين فالديموقراطية وحرية التعبير بالنسبة لهم مبادئ مقدسة لا يمكن المساومة فيها، أما باسم فكان مجرد كوميديان ولا يمانع كثيرًا سقوط الديموقراطية في بلده إذا اقتضى الأمر معاقبة خصومه، ولعل باسم يمثل ظاهرة مصرية أعمق، وهي أن كل محاولة مصرية لتقليد عمل أمريكي يكون نتاجها أسوأ تقليد ممكن في الأكوان الكمية المحتملة، تمامًا كما هي السينما المصرية بالنسبة للسينما الأمريكية، لكن الفارق الأهم والأشد إهانة لجون ستيوارت أن جون ستيوارت إنسان يحترم قدسية النفس البشرية، فعندما تَمَّتْ تبرئة شرطي قَتَل رجلاً أسود في أثناء اعتقاله، عجز جون ستيوارت عن المزاح وقال: “إذا كانت الكوميديا تساوي المأساة زائد الوقت، فأنا بحاجة للمزيد من الوقت، ولكنني لن أمانع بمأساوية أقل”.
عَجْزُ جون ستيوارت عن المزاح هو أمر جلل يترأس عناوين الأخبار في الولايات المتحدة “الجريمة التي أعجزت جون ستيوارت عن المزاح”، وهكذا كان موقفه لمقتل رجل واحد بريء، أما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر فقد ظهر باكيًا من تأثره بشجاعة أهل نيويورك وهم يضحون بأنفسهم لإنقاذ الناجين، وقال إن أمريكا لم تنهزم بهذا الاعتداء لأنها لا تزال دولة ديموقراطية حرة ولأنهم (المعتدين) سيعيشون في فوضى دومًا والفوضى لا تستمر.
جون ستيوارت يعرف أن ذبح آلاف الأبرياء المدنيين وسقوط الديموقراطية ليس أمرًا مضحكًا، على عكس باسم بالطبع، فبالنسبة له مقتل آلاف المصريين على يد جيش بلدهم وسقوط الديموقراطية كان شيئًا مضحكًا للغاية.
لعنَ الله كل من ظن أن الديموقراطية رفاهية لا تستحقها الشعوب العربية
باسم يوسف ليس جون ستيوارت المصري، باسم يوسف هو سيمبسون المصري، وقد يرى بعض القراء الذين يعرفون قصة سيمبسون الكاملة أن المقارنة مجحفة، وفي هذا الرأي شيء من الصحة، فالمقارنة مجحفة لكن في حق سيمبسون، لأن سيمبسون لم يتاجر بقضايا السود إلا عندما كان بحاجة لها للتهرب من أزمته القانونية (بغض النظر عن طبيعة الأزمة نفسها)، لكن باسم يوسف لا يحتاج للكذب ولا يحتاج للمتاجرة بالثورة لحل أي أزمة مالية أو قانونية، باسم يمكنه العودة لإكمال برنامجه على اليوتيوب كما بدأ، فهذا ما وعد به في أغنية كتبها عندما كانت الثورة سهلة في استوديوهات ON TV.
“الثورة هتفضل حية حتى لو بميت شخص، وأنا هفضل ساخر حتى لو رجعت B+” باسم يوسف
باسم غالبًا لن يعود لـB+، باسم وجد جمهوره المفضل، جمهور يسهل إبهاره والكذب عليه وتسويق ما يشاء من كتب وأفلام تمجد شخصه، ولو كان ذلك على حساب ترسيخ مفاهيم اليمين المتطرف عن الشرق الأوسط.
ولعل البلية الشريرة المضحكة في الفيلم والتي تجعل منه فيلم كوميديا سوداء عن تراجيديا الرجل الذي بدأ مسيرته بالاستهزاء من المنظموة الإعلامية الكاذبة، ثم انتهى بالانضمام إليها وأصبح ينقل أكاذيبها لكن بطريقة “أشيك”، هذا، ولعنَ الله كل من ظن أن الديموقراطية رفاهية لا تستحقها الشعوب العربية.