وينفريد كونرادي رجل في منتصف الستينيات من عمره، يعمل مدرس موسيقى في إحدى المدارس ويملك حسًا فكاهيًا مميزًا ومختلفًا عن مجتمعه الألماني المحيط به الذي يغلب عليه طابع الجدية والصرامة.
تزوره ابنته إيناس زيارةً خاطفة، تقضي أغلب وقت الزيارة في مكالمات متعلقة بعملها بدلًا من التواصل مع أبيها، إيناس تعمل في إحدى الشركات الاستشارية في بوخارست برومانيا.
يلاحظ وينفريد الضغط النفسي الذي تتعرض له إيناس جراء عملها، ويحاول الترويح عنها بنكاته وحسه الفكاهي، إلا أن ذلك يثير مزيدًا من سخط إيناس تجاهه ويبعدها عنه.
بعد وفاة كلبه ورفيقه ويلي، يقوم وينفريد بزيارة مفاجئة لابنته إيناس، من أجل قضاء الوقت معها، إلا أنه يجدها منشغلة بإتمام صفقة تعاقد خارجي لصالح إحدى شركات النفط الألمانية، فيجدها تفرض نفسها في كل مناسبة على رئيس شركة النفط هينبيرج الذي لا يتوانى بدوره عن إحراجها أمام الجميع كلما سنحت بذلك الفرصة.
“أه نتاليا! هذه المتخصصة التي كلمتك عنها! أنا متأكد من أن الأنسة كونرادي ستستطيع مساعدتك، نتاليا تحتاج للتسوق غدًا، تستطيعين الاستفسار من الأنسة كونرادي عن كل شيء متعلق بالتسوق”، هينبيرج معرفًا زوجته نتاليا على إيناس.
يقرر وينفريد البقاء مع ابنته ودعمها بطريقة غريبة للغاية، وهي أن يتقمص شخصية خيالية تحت اسم تونى إيردمان، هذه الشخصية تعمل في مجال التدريب المهني ولها علاقات بشركات ضخمة في روسيا وأوروبا، فهل سينجح وينفريد في التقرب من ابنته بتلك الحيلة، أم سيزداد الجفاء اتساعًا بينهما؟
السيناريو
كتبت المخرجة مارين أدي السيناريو خصيصًا للسينما، وهو نص درامي معتمد على الشخصيات واللحظات الدرامية الصغيرة، بمعنى أن هذا نص تقوده الشخصيات وليس الحبكة الدرامية التقليدية.
بناء الفيلم شبيه بأفلام المخرج الفرنسي التونسي عبد اللطيف كشيش مثل الأزرق أدفأ الألوان والكسكسى والسمك، هذا البناء قائم على أن تكون مدة الفيلم الزمنية طويلة بحيث لا تقل عن ساعتين ونصف، وخلال هذه المدة يعرف المشاهد شخصيات الفيلم وتفاصيل حياتهم الصغيرة، بحيث عندما يحدث ما يهز حياة الشخصيات يتفاعل المشاهد بقوة معهم.
توني أيردمان لا توجد به أحداث ضخمة ملحمية، فقط أب يحاول استخدام الحيل كافة من أجل التواصل مع ابنته وإحياء ثقتها بنفسها من جديد، بينما إيناس طول الوقت تحاول أن تصد محاولته بشكل مباشر أو غير مباشر.
هذه القصة كان من الممكن أن تكون نصًا هزليًا سخيفًا لولا أن أدي أخذت الوقت الكافي لتأسيس العلاقات بين الشخصيات وفهم خلفياتهم.
الوقت الكافي هنا هو ساعتان ونصف، فاستطاعت أدي في خلال هذا الوقت إبراز تعقيدات العلاقة بين وينفريد وإيناس، وحجم المسؤولية الواقعة على عاتق إيناس في منصبها الإداري، كل هذا منع النص من أن يكون مجرد قصة أب سخيف يحاول حشر نفسه في حياة ابنته، لتتحول لقصة معقدة غنية بالمشاعر عن علاقة الآباء بالأبناء، بعيدًا عن أجواء الرتابة والملل.
الشخصيات والتمثيل
قام بدور وينفريد الممثل النمساوي بيتر سيمونتشيك، سيمونتشيك خلق شخصية مسالمة تعشق المقالب ولها روح دعابة مميزة، مدفوعًا بشعوره بالذنب تجاه ابنته ليساعدها على الخروج من دوامة عملها.
سيناريو أدي لم يتضمن أي شرح أو استعراض لتاريخ الشخصيات، واعتمد فقط على أداء الممثلين لإعطاء نبذة للمشاهد عن ماضيهم.
مثلًا في أول مشهد يقابل فيه وينفريد إيناس، يقابلها في منزل أمها وزوجته السابقة رينيت، تجسيد سيمونتشيك في هذا المشهد بالأخص مع الطريقة التي يتعامل بها مع زوج رينيت تخبرك أن انفصاله عن رينيت أحدث شرخًا عميقًا داخل إيناس، وأن رينيت قد تكون انفصلت عنه بسبب مزاحه الذي تراه طفوليًا وزائدًا عن الحد.
وينفريد يعلم أن إيناس تعيسة في حياتها منذ ذلك الانفصال، ويعلم أنها تدفن نفسها بالعمل لتخفي ذلك، ورغم اتهامات إيناس له بالفشل وغياب الطموح، فإنه يبدي إصرارًا في إثبات أنه موجود ولن يتخلى عنها كما حدث في الماضي، كل هذه المشاعر جسدها سيمونتشيك بصدق، أيضًا تميز سيمونتشيك في تجسيده لشخصية توني إيردمان، فقد استطاع سيمونتشيك تجسيد الشخصية كما يؤديها وينفريد ليس كما يؤديها سيمونتشيك، وهي نقطة تحسب له كممثل ولأدي كمخرجة.
قامت بدور إيناس الممثلة الألمانية هيلين مولر التي اشتهرت بأدائها القوي في فيلم جنازة والذي جسدت فيه شخصية فتاة جامعية مصابة بالصرع وتشتبه الكنيسة الكاثوليكية في كونها ممسوسة.
إيناس لا تحترم في أبيها فقدانه الطموح العملي واكتفائه بالعمل كمدرس موسيقى، وتحمله مسؤولية أشياء سيئة حدثت لها في الماضي، وفي البدء ترى في تقمصه شخصية توني إيردمان محاولة لتدمير مستقبلها المهني، إلا أنها بعد ذلك تدرك أنه الشخص الوحيد في عالمها الذي يخلص لها بالفعل، فأغلب مجتمعها المحيط بها يتعامل معها إما كأداة مهنية أو كعشيقة أو كشخص يُقضى معه وقت الفراغ.
أروع مشهد في قرب النهاية الفيلم، وفيه تقوم إيناس بغناء أغنية يعزفها أبيها وينفريد، نقلت مولر في هذا المشهد المعنى الشخصي لهذه الأغنية لشخصية إيناس ولتُنسي المتفرج تمامًا أنه أمام ممثلة، بل أمام ابنة تغني مع أبيها.
الإخراج والتصوير
اتخذت مارين أدي الأسلوب الوثائقي والكاميرا المحمولة كشكل إخراجي للفيلم، فابتعدت عن التكوينات والإضاءة التعبيرية، وسخرت أدواتها الإخراجية من أجل التركيز على أداء وتجسيد الممثلين.
تفادت أيضًا استخدام الموسيقى التصويرية التقليدية واعتمدت فقط على الموسيقى الصادرة من داخل الحدث.
أخذت مارين أدي وقتًا طويلًا في اختيار الممثلين والتدريبات والبروفات، إلا أن ذلك لم يمنعها من إعادة اللقطة الواحدة في التصوير من ثلاثين لأربعين مرة، حتى يتسنى لها اختيار الأداء الأفضل في المونتاج.
استغرق المونتاج أكثر من عام لأن المواد المصورة تعدت الـ120ساعة، وهناك العديد من المنظرين السينمائيين الذين قد يجدون طريقة أدي معبرة عن ضعف إخراجي وعدم وجود رؤية مسبقة لديها، إلا أن النتيجة النهائية على الشاشة تقول غير ذلك.
عرض الفيلم في مهرجان كان العام الماضي، وأدخلته إدارة المهرجان المسابقة الرسمية قبيل المؤتمر الصحفي للإعلان عن الأفلام المشاركة بعدما كان من المفترض أن يشارك في قسم نظرة ما.
أجمع النقاد آنذاك أن الفيلم سيفوز بالسعفة الذهبية، وحصد جائزة الفيبريزي (الاتحاد الدولي للنقاد) كأحسن فيلم في المسابقة الرسمية، إلا أنه خرج من المهرجان خالي الوفاض، فلم يفز بأي جائزة.
اكتسح الفيلم جوائز الفيلم الأوروبي الرئيسية، ففاز في فئة أحسن فيلم، أحسن سيناريو، أحسن مخرجة، أحسن ممثل، أحسن ممثلة.
رشحته ألمانيا ليمثلها في الأوسكار العام الماضي، وأشارت التوقعات حينها إلى احتمالات فوزه بالجائزة، إلا أن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بحظر رعايا الدول المسلمة الستة من دخول الولايات المتحدة والتي كان من ضمنها إيران، أثر بالسلب على حظوظه وجعل الجائزة من نصيب الفيلم الإيراني البائع لأصغر فرهادي.
بعد النجاح النقدي والجماهيري للفيلم، أعلنت ستوديوهات باراماونت الأمريكية إنتاجها نسخة أمريكية من الفيلم من بطولة جاك نيكلسون وكريستين ويج.
التقييم: (X) فيلم عبقري ( ) جيد جدًا () يستحق المشاهدة ( ) ممل ( ) بشع.