يقع مقر وزارة “الطاقة والبنى التحتية” الإسرائيلية في شارع “بنك إسرائيل” بالقدس، والتي كانت حتى 19 فبراير/شباط الماضي، تسمى وزارة “الطاقة” قبل أن تصادق حكومة الاحتلال الإسرائيلي على تغيير المسمى، حتى يتناسب مع دورها الحيوي وتوسع أنشطتها، في الكهرباء، الوقود، الغاز النفطي المسال، الغاز الطبيعي، المناجم، كفاءة الطاقة، المياه، الصرف الصحي، الكسارات، والأهم التنقيب عن النفط والغاز، في البر وفي المياه الإقليمية والاقتصادية.
وبسبب العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة خلال الـ80 يومًا الأخيرة، وارتفاع حصيلة الضحايا في الأراضي الفلسطينية المحتلة لـ21 ألف شهيد، وأكثر من 54 ألف مصاب، وتهجير وتشريد نحو مليون و800 ألف فلسطيني، تُثار تساؤلات بشأن سقف الموقف التركي تجاه العمليات الدموية التي يقوم بها جيش الاحتلال، وإلى أي مدى يمكن تطوير الإجراءات العقابية، خاصة في قطاع الطاقة، لردع “إسرائيل”، دون الدخول معها في مواجهة مباشرة؟
تبدى خصوصية موقف تركيا من واقع اللهجة الصارمة للرئيس، رجب طيب أردوغان، منذ صعوده لصدارة المشهد السياسي، قبل أكثر من 20 عامًا، خاصة خلال اعتداءات الكيان الصهيوني على الفلسطينيين، وتقديم نفسه للعالم الإسلامي كـ”نصير للمضطهدين”، ما يرفع سقف الرهانات على موقف تركيا، الذي تدرج خلال العدوان الأخير من الحياد النسبي إلى التصعيد الكبير، ثم الهجوم الحاد على “إسرائيل“.
ومع التصعيد في لهجة الخطاب السياسي التركي، وتأثر حركة التجارة البينية، لم تنعكس على التعاون التقليدي في مجال الطاقة، المحرك الرئيسي للأنشطة المدنية والعسكرية في “إسرائيل”، التي تستورد يوميًا نحو 220 ألف برميل نفط خام من أذربيجان وكازاخستان والهند ونيجيريا والبرازيل وغيرهم، معظمها يتقاطع مع ميناء “جيهان” التركي.
وتظهر أهمية قطاع الطاقة من واقع التحديات القديمة والمستجدة التي تواجهها الحكومة الإسرائيلية، والتعقيدات المرتبطة بأنشطتها كمستورد للنفط ومصدّر نسبي للغاز الطبيعي، وأهمية ميناء “جيهان” التركي، سواء فيما يتعلق بنسبة الـ60% من واردات الكيان النفطية القادمة من دولتي أذربيجان وكازاخستان، أم إمدادات النفط الآتية من إقليم كردستان العراق المعطلة مؤقتًا منذ شهر مارس/آذار الماضي.
تجميد أنشطة
على خلفية التطورات الدرامية منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أوقفت حكومة تركيا خطط التعاون المستقبلية مع حكومة الاحتلال في قطاع الطاقة، بداية من التنقيب المشترك عن النفط في البحر المتوسط، وتجميد خط أنابيب تصدير الغاز إلى أوروبا، الذي كان سيربط احتياطيات الغاز الطبيعي في حقل “ليفياثان” الإسرائيلي بخط الأنابيب التركي – الأوروبي، وشدد وزير الطاقة التركي، ألب رسلان بيرقدار، على أن تركيا لن تبحث أي مشروع للطاقة مع “إسرائيل” قبل وقف إطلاق النار في غزة.
ورغم أن تركيا علّقت جميع مبادرات التعاون المستقبلية مع الاحتلال الإسرائيلي في القطاع المذكور، التي كان يعول عليها لإيجاد بديل محتمل للغاز الطبيعي لتغذية الأسواق الأوروبية، بعد العقوبات المفروضة على روسيا، فإن تركيا تحافظ على مرور واردات النفط والغاز عبر أراضيها، حيث تستفيد من العائدات المالية، كرسوم العبور عبر خطوط الأنابيب المحلية وعمليات الشحن، والاحتفاظ بجزء من إمدادات الطاقة للاستهلاك المحلي، قبل تصدير ما تبقى عبر ميناء “جيهان” إلى الكيان المحتل وغيره.
تركيا و”إسرائيل”
يعد ميناء “جيهان” نقطة محورية في خطوط أنابيب النفط والغاز لمنطقة القوقاز وبحر قزوين، تحت مظلة منتدى الدول المنتجة للغاز الطبيعي والنفط، وتستفيد أذربيجان، التي تعد إحدى أهم الدول المصدِّرة للغاز لتركيا وللكيان الصهيوني، من المصالح المشتركة في مجال النفط والغاز وقطاع الطاقة المتجددة، والتمهيد لإمداد أوروبا بالطاقة، وهو ما يتوافق مع الانفراجة في العلاقات الشرق أوسطية، قبل حرب غزة.
زادت أهمية ميناء “جيهان” نتيجة عراقيل جيوسياسية ومالية، تعطل رغبة حكومة الاحتلال في نقل صادرتها ووارداتها من الغاز لأوروبا مباشرة، سواء عبر مشروع خط أنابيب “إيست ميد/شرق المتوسط” الذي كان سيمتد بطول 1250 كيلومترًا تحت مياه البحر المتوسط عبر شراكة إيطالية، فرنسية، يونانية، وقبرصية، قبل أن تتحفظ أمريكا على استكماله، أم خط أنابيب “بوسيدون” الواصل بين اليونان وجنوب إيطاليا، لنقل نحو 10 مليارات متر مكعب سنويًا من غاز دول شرق المتوسط لأوروبا.
ولم يعد ملف التعاون في مجال الطاقة بين تركيا والكيان المحتل مرتبطا بالعلاقات الدبلوماسية “غير المستقرة” منذ وصول حكومة حزب العدالة والتنمية للحكم، في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2002، بل أصبح مرهونًا بأوضاع إقليمية، في ظل طموحات وصراعات بين الدول المتنافسة على موارد الطاقة في منطقة شرق البحر المتوسط، منذ الإعلان عن بداية اكتشافات الغاز الطبيعي قبل عام 2010.
أضرار مباشرة
قبل عملية طوفان الأقصى الملحمية التي نفذتها عناصر المقاومة الفلسطينية ضد قواعد عسكرية ومستوطنات إسرائيلية، شملت اختراق الدفاعات المتمركزة في غلاف غزة، كانت الحكومة الإسرائيلية تتجه لزيادة صادراتها من الغاز الطبيعي إلى أوروبا، لكن العدوان الغاشم على غزة، تسبب في تضرر قطاع الطاقة الإسرائيلي بشكل كبير، حتى إنه يتكبد خسائر شهرية بقيمة 200 مليون دولار، إثر التهديدات البحرية التي تواجه صادرات الغاز الإسرائيلية.
تراجعت صادرت حكومة الاحتلال بنسبة 70%، لتعليق العمل في أهم حقلين إسرائيليين للغاز “تمارا” و”ليفياثان” فضلًا عن ارتفاع تكاليف الشحن نتيجة تغيير مسار شحنات السفن، وتفاقم تكاليف التأمين الدولية، خشية تأثير عمليات المقاومة الفلسطينية وجماعة الحوثي في اليمن، على التجارة البحرية الإسرائيلية وعمليات التصدير والاستيراد من وإلى موانئها التجارية: حيفا وأسدود وإيلات، ومينائي عسقلان والخضيرة المختصين بقطاع الطاقة.
ارتفعت أيضًا تكاليف عوائد أرباح شركات الطاقة الدولية في حقول الغاز الإسرائيلية، خوفًا من مخاطر العمليات العسكرية، وأغلقت حكومة الاحتلال محطة النفط الإسرائيلية بعسقلان، علمًا بأن الطلب على الطاقة في الكيان الإسرائيلي أعلى بكثير من إنتاجه، لذا يلجأ للواردات بهدف تلبية احتياجاته. ويعترف بأنه “جزيرة معزولة” في مجالات الطاقة، لعدم اعتماده على البنية التحتية لدول الجوار، كما هو مُتبع عالميًا.
غازية لا نفطية
رغم أن حكومة الاحتلال غير مُصدّرة للنفط، فإن طموحاتها مع حلفائها الإقليميين والدوليين كانت تحفزها على مواصلة تسويق إنتاجها من الغاز الطبيعي والمسال، بعدما دخلت نادي الدول المنتجة والمصدرة، بين العامين 2009 و2010، إثر سلسلة اكتشافات كبيرة في منطقة شرق البحر المتوسط، مع عدم وجود خطوط أنابيب مباشرة لنقل كميات الغاز المستخرجة إلى الدول المستوردة، كإيطاليا الراغبة في أن تصبح مركزًا للغاز جنوب أوروبا، وهو الحلم نفسه الذي يراود تركيا.
وتوالت اكتشافات الغاز الإسرائيلية، حتى باتت الحقول تنتج 28 مليار متر مكعب سنويًا، تستهلك منهم محليًا 12.71 مليار متر مكعب، ويذهب ثلث الإنتاج إلى مصر والأردن، بموجب عقود تصدير تمتد لـ15 عامًا، وتصل العائدات لما يقارب 265.3 مليون دولار، من تدفقات حقل ليفياثان التي تبلغ طاقته 23 تريليون قدم مكعب، وينتج 11.58 مليار متر مكعب، وحقل تمارا الذي تبلغ طاقته 13 تريليون قدم مكعب، وينتج نحو 10.2 مليار متر مكعب، وحقول أخرى.
وتعد “إسرائيل” ثاني أكبر منتج للغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط، بعد مصر التي تبلغ إجمالي صادراتها من الغاز المسال نحو 7.4 مليون طن، بقيمة 8.4 مليار دولار، بينما تقدر المسوح الجيولوجية احتياطات الغاز الطبيعي في منطقة شرق البحر المتوسط بـ122 تريليون قدم مكعب، ينضوي معظمها تحت مظلة أحد أهم التكتلات الإقليمية في مجال الطاقة “منتدى غاز شرق المتوسط” بعد تأسيسه في مصر عام 2018، بعد سلسلة عمليات ترسيم الحدود البحرية.
ويضم المنتدى دول عدة: فرنسا، إيطاليا، مصر، “إسرائيل”، قبرص، اليونان، الأردن، فلسطين، حيث تحاول تركيا مد الجسور مع دول المنتدى بعد المصالحات الإقليمية، خلال العامين الأخيرين، وتوظيف ملف مرور الغاز الإسرائيلي، المصدر إلى أوروبا، عبر الأراضي التركية، لتعزيز وجودها وسط دول غاز شرق المتوسط، والتقارب مع قبرص واليونان، وهي الإستراتيجية التي تتبناها تركيا، منذ زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، لها، العام الماضي، وتزامنها مع تجميد خط أنابيب “إيست ميد”.
أحلام الطاقة
لم تكن تركيا خلال خلافاتها الشرق أوسطية -2013 حتى 2022- راضية عن مشاريع نقل الطاقة المذكورة، خاصة إيست ميد، ليس فقط لأنها تتجاهل حقوقها في الموارد الطبيعية بمنطقة شرق المتوسط، لكن لأنها ترى أن خط الأنابيب العابر للأناضول، يمكن أن يفي بمهمة نقل الغاز إلى أوروبا، بحكم أنه الأكثر آمانًا، وعدم جدواه الاقتصادية، كون استثمارات إنشاء إيست ميد تتجاوز الـ7 مليارات دولار، بينما تكلفة خط أنابيب الربط بين تركيا و”إسرائيل” تقل عن 2.5 مليار دولار.
وفي أثناء الـ20 عامًا الماضية، لم تتخل تركيا عن أحلامها في مجال الطاقة، كجزء من حماية أمنها القومي، وتعزيز استقلالها الوطني، عبر العمل على أن تصبح مركزًا إقليميًا للطاقة، وليس مجرد دولة عبور لإمدادات النفط والغاز، من خلال تنويع الشراكات، على أرضية المصالح المشتركة، لا التوافق السياسي، للاستفادة من نتائجها وتداعياتها الاقتصادية وجذب استثمارات أجنبية وتوفير وظائف جديدة وتحسين الأجور وخفض التضخم وتقليل العجز التجاري، مع تعزيز تأثيرها السياسي والإستراتيجي.
وأجرت تركيا مباحثات ومفاوضات، ثنائية وجماعية، مع دول عدة، لتفعيل هذه الإستراتيجية، تزامنت مع توجهات إقليمية، شرق أوسطية وأوروبية، للبحث عن مصادر لتنويع إمدادات الطاقة، بعد الخلافات المترتبة على الحرب الروسية الأوكرانية، حيث تعمل تركيا على توظيف موقعها الجغرافي، وشبكة خطوط أنابيب النفط والغاز من روسيا والعراق وأذربيجان وتركمانستان، التي تمر بأراضيها لتعزيز مكانتها في قطاع الطاقة.
وتمتلك تركيا بنية تحتية رئيسية، ممثلة في مرافق التخزين عالية السعة وقنوات توزيع صغيرة، ما يجعلها مقصدًا للباحثين عن بدائل للغاز الروسي، منذ 5 فبراير/شباط الماضي، عبر مبادرة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة بحظر واردات النفط الروسي، المشحونة بحرًا، فضلًا عن دور المصافي التركية بتكرير النفط المستورد وبيع الديزل والبنزين والمنتجات النفطية وإعادة تصديرها إلى دول أوروبية، إسهامًا في حل أزمة الطاقة التي تعانيها دول الاتحاد.
أزمة روسيا والغرب
تتحول تركيا تدريجيًا إلى مصدر لتزويد دول أوروبية بإمدادات الغاز المسال، من خلال الاتفاق طويل الأجل بين تركيا وبلغاريا، ومبادرة رومانيا باستيراد الغاز الأذربيجاني عبر تركيا، دون أن تتخلى عن شراكتها مع روسيا، ومنذ 15 أكتوبر/تشرين الأول 2022، وافقت تركيا على استضافة مركز لتصدير الغاز الروسي، بعد تعرض خط تصدر الغاز الروسي لأوروبا “نورد ستريم” للتخريب، قبل 15 شهرًا، من الآن، ويمثل خط أنابيب السيل التركي (Turkish Stream) شريان حياة.
وخط “السيل التركي” الذي تبلغ تكلفته 3.2 مليار دولار، ينقل الغاز الروسي إلى بعض مناطق أوروبا: صربيا وبلغاريا والمجر، عبر المرور برًا، بطول 180 كيلومترًا، وبحرًا بطول 930 كيلومترًا، حيث يعبر البحر الأسود، بعدما دخل الخدمة في 8 يناير/كانون الثاني عام 2020، وتبلغ الطاقة التصميمية للخطّ نحو 31.5 مليار متر مكعب من الغاز، سنويًا، وإلى جانب استفادة تركيا من بيع النفط الروسي، عبر دولة ثالثة، مقابل محفزات مالية واقتصادية.
وبعد توقف خطوط نورد ستريم “1و2” الروسيين، تعول موسكو على تركيا كطرف ثالث في عمليات التصدير، ودعم تحولها إلى مركز إقليمي للطاقة، وتهيئة خط أنابيب “السيل التركي” لنقل 63 مليار متر مكعب، مستقبلًا، وهو الملف محور التشاور بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأردوغان، منذ 14 شهرًا تقريبًا، ما يعني أن الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات المترتبة عليها، كانت في صالح تركيا التي تحصل على كميات من النفط والغاز الروسيين بأسعار تفضيلية (وفواتير مؤجلة الدفع).
وحتى الآن، تبدو إمدادات الغاز الروسي مهددة بالمزيد من القرارات والتشريعات الغربية (الأوروبية-الأمريكية) التي قد تمنع دخولها للاتحاد عبر خطوط الأنابيب ومحطات الغاز المسال بشكل فردي أو جماعي، أو الاستغناء تمامًا عن الغاز الروسي، مستقبلًا.
وقبل غزوها أوكرانيا، في 27 فبراير/شباط 2021، كانت روسيا تلبي 40% من احتياجات سوق الغاز الأوروبي، قبل سلسلة من العقوبات، والبحث عن بدائل الغاز الأذربيجاني والتركمانستاني والإسرائيلي.
لذا، يتحدث بوتين صراحة خلال العامين الأخيرين عن استعداد بلاده لـ”المساهمة في تحويل تركيا لدولة ممر للغاز الروسي نحو أوروبا، من خلال إنشاء مركز رئيسي للغاز الأوروبي على أراضيها”، خاصة مع تعدد المنشآت المهيأة في تركيا: محطات تخزين وتفريغ وإسالة: عاليا غاز، دورتيول، مرمرة إريغليسي، إتكي ليمان، فيما افتتح، أردوغان في ديسمبر/كانون الأول 2022، توسعة أكبر منشأة لتخزين الغاز في أوروبا (قدرة التخزين 4.6 مليار متر مكعب) بمقاطعة سيلفيري بالقرب من إسطنبول.
وقبل أكثر من عام اجتمع أردوغان مع بوتين، واقترح أن تساعد موسكو أنقرة في أن تصبح مركزًا لتجارة الطاقة إلى أوروبا، قائلًا: “يمكننا تمهيد الطريق الرئيس لوقودنا إلى أوروبا عبر تركيا، ويمكننا إنشاء أكبر مركز للغاز الطبيعي لإمداد أوروبا، في أنقرة”، لكن حتى لا تصبح تركيا ضد العقوبات الصادرة بحق روسيا، فقد طلبت أنقرة من ناقلات النفط الخام التي تمر عبر المضائق التركية تقديم خطابات من مزودي الحماية والتعويض.
دور لوجيستي
تشير التوقعات إلى ارتفاع صادرات الغاز الأذربيجاني لأوروبا عبر تركيا من 16 مليار متر مكعب إلى 32 مليار متر مكعب، سنويًا، عبر العمل على زيادة سعة خط “تاناب” لنقل الغاز، بعد افتتاحه في 2018، فيما تعمل تركيا على تحديد آلية للتعامل مع تركمانستان التي تعد رابع أكبر احتياطي عالمي للغاز الطبيعي، والتوصل إلى هذه الآلية يعزز مكانة تركيا في مجال الطاقة، وإن كانت هذه الخطوة على عكس رغبة روسيا وإيران (التي تعارض تعاون أذربيجان وإسرائيل).
وتعرضت كازاخستان التي يبلغ إنتاجها الحاليّ، 1.38 مليون برميل نفط، يوميًا، لمحاولة استهدفت تعطيل صادراتها للصين وجورجيا وتركيا ودول أخرى، صيف عام 2022، من خط أنابيب بحر قزوين، وفيما تخطط شركة أمريكية حديثة التأسيس لنقل الغاز من تركمانستان إلى أذربيجان، ثم إلى أوروبا، تتعامل تركيا، بحسب مصادر، مع ملف تصدير الغاز من “إسرائيل” إلى أوروبا كوسيلة تعزز مكانتها كقوة إقليمية، وتصر على عدم خسارة أي حصة لها في الأسواق الدولية.
وهو التوجه التركي نفسه بالنسبة لخط أنابيب النفط العراقي – التركي، الذي يمتد بطول 900 كيلومتر، من كركوك شمالي البلاد إلى ميناء جيهان، ورغم الاتفاق على استئناف العمل به في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي بعد توقف دام لأكثر من 7 من أشهر، لنقل نحو نصف مليون برميل إلى الأسواق العالمية عبر الميناء التركي الشهير، فإن تطورات عراقية – تركية، فضلًا عن الحرب الإسرائيلية على غزة، عطلت الخطوة مؤقتًا.
واقع تركي محلي
تعد الطاقة التقليدية والمتجددة إحدى أسلحة أردوغان لتحقيق الاستقلال الاقتصادي وتعزيز الاستقلال السياسي، وهو ما تظهره الاستثمارات التي تقدر بـ32 مليار دولار أمريكي، والتحالفات والشركات الإقليمية والدولية، حيث يعي خلال تحركاته حجم التحديات التي لا ترتبط بتوجهاته بل بطبيعة منطقة الشرق الأوسط وشرق المتوسط نفسها، ويواصل السير في الطريق حتى نهايته، مدركًا خطورة سلاح الطاقة، وكيف سيتم التعامل معه.
وحتى فترة قريبة كانت تركيا تعتمد على استيراد نحو 90% من استهلاكها من النفط والغاز، ثلثه من روسيا، قبل تتابع اكتشافات النفط والغاز التركية في البحر الأسود والمتوسط، واكتشفت تركيا أكبر مخزون للغاز الطبيعي بالبحر الأسود في أغسطس/آب 2020، وبلغت احتياطيات الغاز الطبيعي المكتشفة في البحر الأسود 710 مليارات متر مكعب خلال الفترة بين عامي 2020 و2022.
ويعد أردوغان بتحقيق الاستقلال في مجال الطاقة، والعمل على خفض الاستيراد للنصف، ودعم استثمارات الطاقة ومصادرها المتجددة، استكمالًا للمتغيرات المهمة التي يشهدها قطاع الطاقة التركي منذ عام 2007، بداية من إصدار قانون منظم للقطاع، يشمل إتاحة التمديد لتراخيص التنقيب والتشغيل القائمة، وتقييد سلطة الدولة في مناطق الاستكشاف، وقد مد القانون جسور الثقة بين تركيا وشركات النفط المحلية والدولية، التي شرعت حينها في توقيع عقود استكشاف وتنقيب عن النفط.
الملف الشائك
مع أن ملف الطاقة لا ينفصل عن غيره من الملفات التي تتصدر قائمة أولويات الأمن القومي التركي، فإن حكومة أردوغان تدرس الموازنة بين الإجراءات العقابية، وتداعياتها على إستراتيجية البلاد الراغبة في التحول إلى مركز إقليمي للطاقة – بحكم موقعها الجيوسياسي وشبكة تحالفاتها الدولية، والبنية التحية التي أنجزتها خلال السنوات الأخيرة – وموقف قطع إمدادات الطاقة على موثوقية تركيا، بين مصدري الغاز ومستهلكيه، سواء كانت مركزًا إقليميًا للطاقة، أم دولة ممر.
تدرك تركيا، طبيعة مكانتها اللوجيستية المهمة في مجال الطاقة، وأنها الممر الأنسب والأقل تكلفة بالنسبة لـ”إسرائيل”، رغم وجود بدائل أخرى، كما تدرك في الوقت نفسه أن الصدام في مجال الطاقة معها يعني عرقلة خطط تركيا للتنقيب في شرق المتوسط، وجهودها لترسيم الحدود البحرية في المنطقة نفسها، ومع ذلك بادرت بتجميد مشاريع التعاون المستقبلية في مجال الطاقة، دون أن تقطع العلاقات بشكل كامل في مجال الطاقة، كونها “دولة ممر” لإمدادات إقليمية ودولية.
لكن بسبب الأزمة الإنسانية في قطاع غزة نتيجة العدوان الإسرائيلي “تراجعت التجارة بين تركيا وإسرائيل منذ اندلاع الحرب على غزة، إلى أكثر من 50% مقارنة بالعام الماضي” بحسب وزير التجارة التركي عمر بولات، بعد أن وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى10 مليارات دولار، قبل العدوان الإسرائيلي على غزة، فيما يتواصل التساؤل بشأن حرص تركيا التقليدي على الفصل بين اقتصادها وأي أزمات دبلوماسية، وهل ينطبق ذلك على العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة؟!