يمكننا قلب العنوان ليكون “العالم على طاولة غزة”، وهي تشرحه وتظهر للشمس أمراضه، عالم تجار السلاح الذين لا يعرفون الرحمة ولا يقدرون الإنسان حيًا أو ميتًا.
هذا العالم المريض يضع الآن غزة على طاولة الحلول السياسية، محاولًا مرة أخرى (أو كالعادة) تجاهل غزة والتصرف بدلًا منها في مستقبلها. بين ما فعلت غزة بالعالم وما فعل بها العالم وما يريد أن يفعل يمكننا العثور على الإنسان وتمجيده، تمامًا مثلما يكشف نور النهار الأجسام المظلمة فتنكشف فنعرفها.
في هذا العالم قالت غزة توجد قيمة اسمها الشجاعة وهي قيمة فعالة ومؤثرة وتغير العالم، وقال بعض العالم لغزة: أنت على حق بينما قال جزء آخر: موتوا بسرعة في غزة لنعود إلى تجارة النفط والسلاح أي تجارة الموت.
غزة ذكرت العالم بالإنسان
كان العالم تائهًا عن نفسه، فجاءت غزة فأيقظت مواته. هذه الشوارع التي تموج بالإنسان عاشق الحرية والواقف في العمق مع الحق كان مغيبًا ملحوس العقل بفعل قوة السوق الاستهلاكية التي حولته إلى سائمة شبعانة ولكن غبية أو ميتة الروح، فقالت غزة يوجد ظلم وقهر وعنصرية في مكان صغير على الأرض ويوجد بشر مغلوب على أمره، فثارت الأرواح ولا نراها تهدأ بعد، فبعد 80 يومًا ما زال الإنسان (حيث ما يوجد إنسان) يخرج طلبًا للحق والعدل.
ذكرى نفعت مؤمنين وغفل عنها كثيرون، خاصة ما يمكن أن يصنف ضمن الإنسان العربي صاحب القضية الأصلي وسنعرج على هذا. قوى الاستكبار (وما أجمل اللفظ يوم نطق ودخل قاموس السياسة) تراقب حائرة ولا نراها إلا تحتال لطمس هذه الروح من جديد، ولكن نظن يقينًا أن التذكرة الغزاوية لن تذهب سدى وسيكون لها أثر بالغ على العقول والأرواح.
لقد ظهر بسرعة أثر المقاطعة على شركات طالما مولت الظلم والعدوان فانهارت أسهمها، وكلما تبين الأثر سيزداد الفعل الثوري السلمي في طرقات العالم.
يصعب علينا اللحظة توقّع المدى، لكننا نرى البدايات القوية لإنسان آخر يعالج عقله الملحوس ويعيد ترتيب مبادئه ونشاطه على ضوء معركة الحرية التي أطلقتها غزة في العالم، وليس في فقط في المربع الصغير المنسي قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول.
سيفرض علينا السؤال نفسه ونحن من العرب أصحاب القضية، إلى أيّ مدى ستوقظ غزة موات العرب؟ إننا نعاين القهر الصامت ونقول مثل شاعر قديم: أرى خلل الرماد وميض نار .. ويوشك أن يكون له ضرام.
ويظل هناك (رغم الأمل أو حسن الظن بالعرب) سؤال قاهر، كم من غزة ليستفيق العرب من كونهم محتلون جميعهم، وأن غزة أطلقت معركة تحرر قومي عربي مسلم أو إسلامي هي جزء أصيل من حريات العالم، وأن العرب أول المعنيين بها؟
غزة ذكرت العالم بعيوبه
المعركة السياسية حول غزة وكواليس المناورات في الأمم المتحدة والفيتوهات المتكررة التي تفرضها الشركات الأمريكية المتحدة في وجه الحق والعدل أعادت وضع السؤال الأهم في صدارة الفعل السياسي الكوني، هذه المنظمات استنفدت أغراضها وتجاوزها الزمن. نسمع الآن أصوات المراجعين الكبار في مواقع قرار كثيرة لقد ولدت هذه المنظمات مشلولة بحق الفيتو الذي تملّك به الكبار مصير المنظمات.
ولا نخال إلا أن دولًا كثيرة وشعوبًا ستقف منها موقف الريبة في انتظار فرج ما، تتخلص فيه من هيمنة مالكي قرار الفيتو الكريه الذي استعمل دومًا للظلم والاعتداء وتبريره.
نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية انتهى في تقديرنا في معركة الطوفان، إن منظر الجثث المتكدسة في الطرقات ولم تحظ حتى بدفن لائق بالإنسان، لا يمكن أن يمر بسهولة في عقل العالم الحر وعلى ضمير كل إنسان يملك في قلبه بذرة إنسانية، وهو يرى الأمم المتحدة خاضعة خانعة لإرادة الأمريكي، لقد ذبحت “إسرائيل” منظمة الأمم المتحدة قبل أطفال غزة، وربما كتب رجل حر في زمن قريب لقد دفعت غزة من لحم أطفالها وحرائرها ثمن تحرير العالم.
العار الأمريكي سيلازم ضمير العالم إلى أن يثور عليه ولا نراه إلا متمردًا في وقت قريب. إنها ليست المرة الأولى التي يساء فيها استعمال القانون ويتم قهر الناس بقوة القرار الأممي الجائر، لكن دمار غزة فاق قدرة كل ذي ضمير على الاحتمال وبقدر الثمن ستكون الحرية.
كيف سيخرجون من غزة؟
إننا نراهم يناورون، مستعلمين في مناوراتهم أصحاب النفوس الميتة من أهل فلسطين نفسها وبالطبع باستعمال أنظمة عربية مرعوبة من الاحتمال الغزاوي، لكن لغزة قول فصل في مستقبلها ومستقبل الحرية في العالم، فحتى اليوم الـ77 نرى العدو يخسر ويندحر ويجمع أشلاء جنده ويبحث عن مهرب ويكابر أن يعترف وما كان يظن أن غزوته الخاطفة (أو النزهة المعتادة) ستغرفه في حرب تدمر وجوده، لذلك فإننا نتوقع بيقين ثابت أن تحت الطاولة ما تحتها وأن المقاومة ستضع شروطها على الطاولة.
ستغيب عنا تفاصيل الكواليس والمحادثات، لكن النتيجة منظورة، من انتصر على الأرض فرض دومًا شروطه على المهزوم، خاصة إذا كان الثمن بحجم ما دفعت غزة، لن يذهب ذلك الدم سدى وهذا فوق اليقين الرباني بنصر العدل والحق في كل المعارك التي خاضها المظلومون.
يتجهون إلى حرب المئة يوم؟ نعم نراهم يفعلون، لكن كل يوم هو هزيمة إضافية في الجنود والعتاد، بينما المقاوم يضرب بنفس القوة التي كانت له في اليوم الأول من المعركة التي لم يرغب فيها، لكنه استعد لها.
سيخرجون من غزة مهزومين وسيكون إعلان وقف إطلاق النار من قبلهم ولو غطوه بجمل عن انتصار وهي لملء طاحونة الإعلام بنصر زائف، لا بأس، لقد صار اسمهم مرادفًا للكذب على العالم ولن تضيرهم كذبة كبيرة على شعبهم المذهول الخائف والهارب عبر مطارات العالم.
غزة تنتصر وتفرض شروطها وقد دفعت الثمن، لقد حررت نفسها وحررت العالم في انتظار أن يكون لها بلدها وشعبها الحر في وقت نراه قريبًا، وسيحق لها أن تمن نصرها على العالم، فقد تحولت إلى أيقونة في التاريخ، لقد أعادت كرامة الإنسان.