يبدو أن الفريق المهيمن على قيادة “هيئة تحرير الشام” في طريقه إلى تعزيز قبضته على التنظيم، بعد نجاحه حتى الآن بحسم الصراع مع المنافسين، إثر خلافات استمرت لعدة أشهر وانتهت باعتقال وفرار المهزومين.
ومنذ منتصف العام الحاليّ بدأت تطفو على السطح بوادر هذه الخلافات بين فريقين: الأول مدعوم من قائد الهيئة، أبو محمد الجولاني، وعماده الرئيسي “كتلة إدلب”، والثاني يمثل كل من العراقي أبو ماريا القحطاني المحسوب على كتلة “الشرقية” وجهاد عيسى الشيخ المعروف بـ”أبو أحمد زكور” المحسوب على “كتلة حلب”.
أسباب الصراع
لا يمكن الجزم بالطرف الذي بدأ هذا الصراع، إذ يؤكد بعض المطلعين أن المسؤولية في تفجر الأزمة يتحملها قادة كتلة إدلب، ومعظمهم من بلدة بنش، وهم حاليًّا المسؤولون الأمنيون في الهيئة، وأبرزهم قتيبة البدوي، وشقيقه أبو حفص بنش المسؤول عن معبر باب الهوى، والشرعي العام عبد الرحيم عطون الذي ينحدر من بلدة طعوم المجاورة، بالإضافة إلى حليفهم الأساسي أبو أحمد حدود، وهو من منطقة القلمون، بينما يحمل البعض الآخر المسؤولية للقحطاني وأبو أحمد زكور، لكن ما يتفق عليه الجميع أن دافع الفريقين هو الرغبة في السيطرة على مقاليد الأمور في التنظيم.
ورغم أن الكثيرين يضعون الصراع في سياق التنافس المناطقي، حيث تسيطر كتلة إدلب، فإن زكور، وهو من أبناء قبيلة البكارة، لطالما اعتبر الشخص الأول في كتلة حلب، بينما حظي العراقي أبو ماريا بمكانة مميزة لدى العناصر والكوادر المنحدرين من محافظات المنطقة الشرقية (دير الزور والحسكة والرقة).
لكن الواضح، ومن خلال دراسة مجريات الحدث، إن كلًا من القحطاني وزكور كانا يعتمدان أيضًا على تاريخهما (الجهادي) ودورهما التأسيسي للتنظيم، ما جعلهما يمتعضان طيلة الأشهر الماضية من تراجع مكانتهما في الهيئة، على الرغم من تكليفهما بمهمة في غاية الأهمية وهي توسيع نفوذ وانتشار الهيئة في الشمال.
ولعل النجاح الذي حققه كل منهما على هذا الصعيد زاد من شعورهما بالأحقية في مكانة أكبر، خاصة أنهما تمكنا بالفعل من استقطاب أعداد كبيرة من المجموعات والفصائل التابعة لفيالق الجيش الوطني المتحالف مع تركيا إلى صف الهيئة.
وكردة فعل على ذلك، ومع إقصائهما عن الأدوار العسكرية والأمنية والاقتصادية أيضًا، لصالح كتلة إدلب وحليفيهما القلموني أبو أحمد حدود، والحموي أبو الحسن و600 من أتباعهما، تكشف مصادر مطلعة على مجريات التحقيق في قضية الخلايا الاستخباراتية، التي تم الإعلان عنها رسميًا في أكتوبر/تشرين الأول 2023، أن القحطاني وزكور بدآ العمل على خطة انقلابية بالتعاون مع قوى داخلية وخارجية.
الملاحقة
عندما أقرت “تحرير الشام” بالاختراق الأمني قبل 3 أشهر، جرى الحديث عن اعتقال أو ملاحقة ما لا يقل عن 400 من العناصر والكوادر، بعضهم يعملون في مواقع أمنية وعسكرية حساسة، ومنهم مرافقون لشخصيات مهمة جدًا، وهؤلاء كانوا موزعين على خلايا، بعضهم مرتبط بالروس ونظام الأسد، وبعضهم على تواصل سري مع قوات التحالف الدولي.
لكن المفاجأة المدوية كانت مع ورود اسم العراقي أبو ماريا القحطاني في ملف العمالة للتحالف، حيث أظهرت التحقيقات تواصله مع غرفة عمليات التحالف الدولي.
من حيث المبدأ لم يكن تواصل القحطاني مع التحالف سيسبب مشكلة، فهو مكلف من قيادة التنظيم رسميًا بهذه المهمة، لكن الأزمة تفجرت عندما حصلت هذه القيادة على سجلات تواصل “خاص” قدم فيها أبو ماريا نفسه مع فريقه، كبديل عن قيادة الهيئة الحاليّة، كما تقول مصادر متقاطعة.
تفاصيل التحقيقات
عند هذه النقطة ظهر اسم أبو أحمد زكور في التحقيقات، حيث تردد ذكره من القحطاني كشريك وحليف، الأمر الذي جعل زكور يغرد وقتها على حسابه في منصة “إكس” دفاعًا عن القيادي العراقي، الذي أحيل للمعتقل قبل أن يتدخل قياديون من كتلة الشرقية ووجهاء عشائر من دير الزور، لينقل إلى مزرعة تحت الإقامة الجبرية.
استدعي أبو أحمد زكور للتحقيق أو لمواجهته بمعلومات جديدة بشأن نيته الانقلاب، حيث كانت التفاصيل تتكشف بمرور الوقت مع اعتقال المزيد من العناصر والمتهمين، لكن دون اعتقاله، قبل أن يفر فجأة في 11 ديسمبر/كانون الأول الحاليّ إلى شمال حلب رفقة عدد من أشقائه ومرافيقيه والموظفين في مكتبه.
لم تمهل قيادة التنظيم زكور وأتباعه أكثر من أسبوع، حيث اقتحمت مجموعات من جهاز الأمن العام التابع لها مدينة أعزاز الخاضعة للجيش الوطني، مساء الثلاثاء 19 من الشهر الحاليّ، وحاصرت مقر إقامته شرق المدينة، لتجري اشتباكات استمرت أقل من ساعة، اضطر بعدها للاستسلام، وخلال نقله إلى إدلب، تدخلت قوات من الجيش الوطني والمخابرات التركية لإطلاق سراحه، ونقله إلى المربع الأمني في بلدة حوار كليس الحدودية، كما قالت جهات إعلامية محلية.
اتهامات متبادلة
لم تعلق أي جهة رسمية على ما حصل في تلك الليلة، لكن بعد نشر أبو أحمد زكور تسجيلات صوتية اتهم فيها هيئة تحرير الشام بالوقوف خلف تفجيرين استهدفا الجيش الحر عام 2016، وارتكاب جرائم أخرى من هذا النوع، مهددًا بالكشف عن المزيد لاحقًا، نشر الشرعي العام للهيئة على قناته في موقع “تليغرام” تعليقًا مطولًا نفى فيه هذه الاتهامات، وشرح أسباب ملاحقة زكور.
عطون ادعى أن الهيئة قررت عزل وتجميد صلاحيات أبو أحمد زكور بعد تحقيقات كشفت عن ضلوعه في عمليات ابتزاز وفساد مالي، بالشراكة مع أبو ماريا القحطاني، كما ورد اسمه في سياق التحقيقات الأمنية، وأنه بسبب ذلك فر إلى شمال حلب، فوجهت له دعوة من أجل الحضور واستكمال التحقيق، لكنه رفض، فتقرر اعتقاله.
وفيما يتعلق بالاتهامات التي وجهها زكور للهيئة بتفجير تجمعات للجيش الوطني وارتكاب جرائم أخرى من هذا النوع، قال عطون: “لو صح ما ذكره أبو أحمد زكور من الجرائم التي نسبها لنا – زورًا وكذبًا – فهذا حجةٌ عليه لا له، وإلا فلو كنّا قد نفذنا عمليات انتحارية بالعربات المفخخة على فصائل الجيش الحر المسلمة، فكيف يرى ذلك ويعلمه ثم يستمر في البقاء معنا، لا جنديًا فحسب، بل قياديًا!!”، معتبرًا أن “استمراره معنا يؤكد مدى افترائه فيما ذكره”.
تحت السيطرة
الواقع أن زكور كان يعبر عن ردة فعل غاضبة بعد الإهانة التي لحقت به رغم نجاته من الاعتقال، كما أنه في التسجيلات التي نشرها لاحقًا، هاجم قادة في الجيش الوطني واتهمهم بالعمالة للهيئة.
وسواء صحت ادعاءاته أم لا، إلا أن عدم مؤازرة أي من قوى الشمال لزكور خلال الهجوم عليه، وإصرار قيادة الهيئة على الانتقام منه، كشف هشاشة وضعه، وأكدت أنه أصبح خارج الحسابات بشكل كامل، تمامًا كما هو حال شريكه القحطاني.
خلاصة يؤكدها الباحث في مركز “كاندل” للدراسات عباس شريقة، الذي يؤكد أن الصراع الحاليّ داخل هيئة تحرير الشام مرتبط بصراع اللوبيات ودوائر النفوذ التي تحاول تحسين موقعها داخل التنظيم، وبشكل أساسي بين تكتل بنش وتكتل أبو ماريا القحطاني وأبو أحمد زكور.
ويقول في حديث مع “نون بوست” عن ذلك: “منذ بدء الهيئة تمددها بالشمال عبر استتباع أذرع من فصائل المنطقة، دون أن يكون لها ظهور مباشر ورسمي فيها، وتولي كل من القحطاني وجهاد عيسى الشيخ (أبو أحمد زكور) لهذا الملف، تولد طموح لديهما بالاستقلال في الشمال، إضافة إلى التفكير بالانقلاب على أبو محمد الجولاني والقيادة المهيمنة، ما ورط الاثنين بجملة من التواصلات الداخلية والخارجية، والسعي لبناء ثروة من أجل توظيفها في تجنيد قوى عسكرية تسهم في تحقيق طموحاتهما.
ويضيف: “ما زال الجولاني ومجموعته القيادية بوضع متماسك، صحيح أنهم تعرضوا لهزة بسبب ما حصل، لكن بالنهاية استطاعوا أن يمسكوا بزمام الأمور وضبطها لصالحهم، وبالتأكيد فإن عدم وجود ردة فعل مهمة من كتلتي حلب والشرقية تجاه اعتقال القحطاني وملاحقة زكور، أسهم في الوصول لهذه النتيجة.
شريفة يؤكد أن ما حصل “أظهر أن أبو ماريا ليس له نفوذ عملي داخل كتلة الشرقية التي يتصدرها زيد العطار وأبو البراء الأموي بالإضافة إلى مظهر الويس، الذين اقتنعوا على ما يبدو بالأدلة التي قدمت ضد القحطاني، وبالتالي لا أعتقد أن هذه الكتلة يمكن أن تضحي بمكاسبها ووضعها من أجل شخص له طموحه ومشروعه الخاص”.
أمر يوافقه عليه الباحث باسل حفار، مدير مركز “إدراك للدراسات”، الذي يعتقد في الوقت نفسه أن ما حصل “سيفرض على الهيئة إدخال تعديلات في سلوكها يكون لها انعكاسات على علاقاتها بمحيطها الداخلي والخارجي”.
ويضيف في مداخلة مع “نون بوست”: “ما أعنيه أن ما حصل لن يشكل تهديدًا وجوديًا للهيئة التي اعتادت تجاوز مثل هذه الأمور، لكن بالتأكيد سيؤدي إلى تغيير في تعاملها، سواء مع المجتمع المحلي الذي تحكمه، أم مع الفصائل بالشمال، وكذلك علاقاتها الخارجية مع الدول التي تتواصل معها، لأن هذه الاختراقات والانشقاقات ستدفع القيادة لإجراء الكثير من التغييرات الأمنية والإدارية والاقتصادية بشكل يؤثر على سلوكها تجاه المحيط القريب والبعيد.
سبق لهيئة تحرير الشام التي تأسست تحت مسمى “جبهة النصرة” عام 2011 أن مرت بأزمات داخلية عديدة، بعضها كان أخطر بكثير وشكل تهديدًا وجوديًا لها بالفعل، مثل انشقاقها عن تنظيم الدولة عام 2013، وفك ارتباطها بتنظيم القاعدة عام 2016، وانشقاق العديد من الفصائل عنها عام 2017، لكن في كل مرة كان الجولاني ومن معه يظهرون مرونةً وتكيفًا وبراغماتيةً تمكنهم من تجاوز هذه الأزمات.
وعليه، وبالنظر إلى محدودية تأثير القادة المنشقين أو المفصولين مؤخرًا من جهة، وتمكنها من بسط نفوذ مباشر وواسع في مناطق الجيش الوطني من جهة ثانية، فإن الغالبية يتوقعون أن يتمكن التنظيم من معالجة الملف بسرعة دون تبعات على المدى القصير، وإن كان تأثير ما حصل سيبقى علامة قد تظهر في أي وقت بالمستقبل، إلا إذا حدث طارئ كبير ليس في الحسابات خلال وقت قصير.