كثيرا ما كانت سحرتني الخطابات الرنانة التي تحمل في طياتها كلمات كنت أعتبرها عظيمة كـ صمود وثبات وتصدي ونصر وتمكين, أما أكثرها سحرا بالنسبة لي كانت كلمة ( مبادئ ).
ما أن تلقى من فم ذلك الواقف يخاطب الناس وهدير صوته يملأ أركان المكان حتى أشعر بالحماس الشديد وبنشوة صارخة توّلد في كياني رغبة شديدة بالفعل , حتى أنه يخيل لي للحظة أنني أملك قوة يمكنني بها تحرير هذا العالم من التسلط والاستبداد و كل أمراضه التي أصابته بالسقم كما كنت أشعر أنه بإمكاني استعادة مجد قومي اللامع كالذهب في كتب الروايات التاريخية .
ما إن ينتهي الخطاب حتى يعود كل شيء إلى ما كان عليه عدا عن أنني أفقد أكثر في كل مرة شحنات الغضب و الإرادة بداخلي و التي ربما كان من شأنها يوما أن تدفعني نحو العمل والإنجاز .
عندما إجتزت عقدي الثاني بدأ صورة العالم تتزعزع و تتسم بالضبابية في مخيلتي بعد أن كانت الأكثر وضوحا لسنوات طوال مضت بحلوها و مرها .
بعد زمن و بنظرة الباحث عن النجاة عدت لأرى حال المبادئ التي حفظتها صغيرا عن ظهر قلب ما حالها و كيف أصبحت , لأجدها أصحبت حديث القاصي و الداني وجدتها وقد أصبحت عنوان جميع الفرقاء المتصارعة الكل يبدأ حديثه عنها وبتيجح بقيمه ويأكد كما في الماضي ثبات موقفه عليها حتى منهم ذلك الذي يفخر أن في سجله الكثير من صور القتل والدمار .
هنا أصحبت الصورة قاتمة أقرب للسواد ..
أثناء حيرتي قررت العودة إلى من كنت أنتمي إليهم لأرى ما حالهم وماذا أنتجوا و إلى شيء وصلوا , فوجدت أنهم قد حولوا واقعهم إلى خطب رنانه وشعارات ساحره و إبر تخدير مشينة لم أجد لديهم إلا قليلا من فعل وكثيرا من كلام ولغو , وجدت أقنعة و أوجه وجدت نفاقا بغير نيه .
فكرت كثيرا وسألت قرأت و حاورت صرخت بصوت عال تعلوه بحة متعب مضنى يا رب يا رب أين الطريق .. حتى إهتديت إلى فكرة ربما تريحني من عناء صراع أرقني و آخرين طويلا , قررت أن أعلن أقامة سوق عام للمبادء أتيح فيه للجميع أن يأتي ويعرض ما لديه حتى يتسنى للناس المقارنة ومنهم أنا و الأختيار .. وفعلا بدأ العمل .
(يوم قبل بداية المعرض)
تجولت سريعا في صالة العرض لأتأكد من جاهزية المكان وإتمام إستعداد الأجنحة ، بدأت بجناح الإسلامين ثم انتقلت إلى اليساريين ومن ثم القومين توقفت قليلا عن جناح اللبيرالين الذي كان يسخر من الجناح المقابل له اللبرالين الجدد توقفت وأشرت له أن ذلك يخالف قوانين المعرض , فجمالني بابتسامة صفراء و أكلمت طريقي نحو جناج اليمينين و بجانبه الشيوعيون وأخيرا كان جناح الاشتراكين .
أنهيت الجولة و تأكدت من جاهزية المكان وتوجهت إلى مسؤول الأمن لأتأكد من سير الأمور على ما يرام طمأنني قائلا : اقتصرت المشاجرات بين الفرقاء اليوم على العراك اللفظي لا تقلق كل الأمور تحت السيطرة الآن . أممممم أومأت براسي مع نظرة حيرة و تخوف وقلت له الحمد لله في الحقيقة لا أخفيك لقد أرعبتني نظرات العراك التي تبادلها الفرقاء للتو في جولتي تلك ، أرجو أن تسير الأمور على ما يرام غدا .
داخل السوق (الافتتاح)
ازدحم المكان بالكثير من الرموز والقادات السياسية والدينية الممثلة لتلك التيارت وبدأو بأخذ الصور التذكارية سويا وهم يرسمون على وجوهم ابتسامة صفراء لا تخلو من مجاملة الظروف و المكان ,قبل قص الشريط و إعلان الإفتتاح بدأت مكبرات الصوت بالعمل معلنة عن القواعد والشروط التي يسير عليها المعرض من إحترام الأطراف المخالفة الأخرى و عرض القيم والمبادئ لكل فريق بشفافية وصدق وواقعيه وعدم إكراه الناس على الاتباع .. إلخ
قصصت شريط الافتتاح وسط تصفيق حار من المشاركين والحضور وبدأ المعرض بالعمل وبدأت فعاليات كل فريق أمام جناحه بالإنطلاق.
كنت متشوقا للبدء في جولتي المنتظرة وكلي أمل أن أجيب على التساؤل الكبير الذي يشغل فكري وكياني . كانت البداية من جناح الإسلاميين بطبيعة الحال والذي كان يحظى بالعدد الأكبر من الجماهير المتواجده وقفت أمام الجناح وبدأت إستمع مع البقية .. بدأ الحديث عن تاريخ مشرق وحافل حكموا فيه العالم واستشهد بسرد القصص التاريخية وصور البطولات التي خاضها أبناءه وأكد أن ما يمرون به اليوم هو اختبار ونكسه سيقومون منها أقوياء كما أشارت الوعود الألهية و أكد في كلامه أن طريق الجنة وطريق الحق هو عبر تطبيق مبادء وقيم الإسلامين وأكد على أنه هدفهم حماية الإنسان المسلم و إنقاذ الهالكين من طريق الضلال تحدث طويلا عن نظرية المؤامرة التي تحاك ضدهم و أن العالم بأسره يستهدف إفشال نجاحهم .
سألته ما الذي تريدون الوصول إليه أجاب :سيادة العالم و أقامة الخلافة فأشار له من بجانبه بالصمت قائلا لا نحن نريد دولة إسلامية يطبق فيها شرع الله وقاطعهما ثالث من ذات الجناح لا نحن نريد دولة إسلامية ذات مرجعية مدنية توقف الحديث وبدأو بالصراع تركت الجناح والذي كان جدرانه تمتلئ بصور القتلى الذي ضحوا في هذا السيبل , تركت هذا الجناح وكان أكثر حديثه عن ما تحت الأرض و ما فوق السماء وقلما يتطرق إلى الواقع الذي فيه أصل المشكلة أردت أن أسألهم عن البرامج الحقيقة العملية التي في جعبتهم ولكنني وجدت أنهم ما زالوا غير متفقين على العنوان بعد !!
إنتقلت بعدها إلى جناح اليساريين والذي كان يتحدث صاحبه عن أنهم هم أهل الثوارت والتحرر لبني البشر و يأكد على سعيهم لتحقيق الديمقراطية في جميع مناحي الحياة تحدث طويلا عن رموزه ناجي جورج واسامة خليل واحمد رجب والفنان مخلص البحيري و غيرهم و اق القصص والشواهد كيف أنهم عملوا من أجل العدل والقيم والإنسان .
سألته أين أنتم لا أراكم ما الذي أحدثتموه من تغير على مستوى الفعل نحو الأحسن وأين الواقع مما أعلنتموه من مبادء ما ذا حققتم ؟؟!! أجاب : نحن نسير وفق قواعد الصدق والشفافية والعدل وحينما أراد أن يبدأ الحديث عن فساد الأخرين وسرد نظرية المؤامرة ذاتها قلت له هي نفس المبادء التي ذكرها من قبلك هل لديك من جديد قال لكنهم كاذبون.
!! أممممم !! تركته وانطلقت إلى جناح القومين : الذي تحدثوا فيه عن العروبة كعقيدة ناتجة عن تراث مشترك من اللغة والثقافة والتاريخ والدين الإسلامي إضافة إلى مبدأ حرية الأديان. تحدث كثيرا عن حلم الوحدة العربية و عن وطن موحد يكون فيه العربي عزيزا مصان الحقوق قلت له و ما ذا حققتم منذ البداية مما ذكرت ونحن نرى كل يوم العالم العربي في شتات وضياع أكبر أجاب إنها كبوة وسسننهض من جديد و أكد على وجود مؤامرة امبريالاية ضد العروبة وأنا أهم بالإنصراف تذكرت كلام صديقنا الإسلامي .
توجهت إلى جناح اللبرالين كان قائلهم يقول : أن الفرد هو المعبر الحقيقي عن الإنسان، ومن هذا الفرد وحوله تدور فلسفة الحياة برمتها فالإنسان يخرج إلى هذه الحياة فرداً حراً له الحق في الحياةو الحرية وحق الفكر والمعتقد والضمير، بمعنى حق الحياة كما يشاء الفرد ووفق قناعاته و و و انصرفت قبل أن يكمل كان حال هذا الجناح كما نظيره ( الجدد) لا يحظى بالمتابعين و هيئ لي و كأنه يصرخ في واد لا قرار له .
مررت على جناح اليمينين وبجانبه الشيوعيون مرورا بصور ماركس التي تملأ الجدارن , توقفت أخير لدى جناح الإشتراكين ، وجدت صورة ضخمة جدا في صدر الجناح لعبد الناصر والذي كان يتحدث صاحب الجناح عن عظمته (كما يراه )وتحدث عن ما قدمه للبشرية من تضحيات ،تحدث مطولا عن ما أسماه التصدي للمشروع الصهيوني من قبله و عن والانتصار العظيم كما أسماه في عام الـ 73 قاطتعه قائلا ما هو سبب هزيمة عام الـ 67 ؟ فأستشاط غضبا وصرخ في وجهي (لم يكن يدري أني صاحب المعرض) أنت بالتأكد عميل صاحب فكر غربي أنت بالتأكيد ممن يريد أن يهدم صورة الرمز في مخيلة الجماهير . أممممم !! قلت له على رسلك : لم أقل شيئا فقط أردت أن أعرف منك الحقيقة ، ثم أتبعت: دعك من هذا و حدثني عن ما أنجزتم أنتم ؟ قال لقد حققنا العدل في المجتمع وقمنا بتأميم الأراضي ووزعناها على الغلابه والفقراء ، قلت له لكنه أخذ بغير وجه حق لم أكمل كلامي حتى قام بطردي من الجناح متهما أياي بأني صاحب فكر ملوث و أني أحد أفراد نظرية المؤامرة !!
مررت على بقية الأجنحه لم أجد فيها المختلف أبدا حتى من أطلقوا على أنفسهم جناح المستقلين فقد وجدته أبعد ما يكون عن الإستقلال و وجدت جل من فيه من هم إلا انعكاس لصور الأجنحة الأخرى تحت عنوانين أكثر جاذبية . وجدت الجميع يتحدث حول حبرةعلى السطور من زوايا مختلفه متجاهلا الفعل المؤثر لأنهم الأفقر إليه و الجميع ما زال حبيسا في أقفاص أسلافه و أصنامه, وجدت الجميع قد اتفقوا على تعليق أسباب الفشل على نظرية المؤامرة (السبب الخارجي) و أسباب خياليه مع الابتعاد تماما عن مراجعة داخلهم بشكل حقيقي أو نقد الأخطاء بشكل جريئ مع قدرة على التغيير .
وجدت أن من يسعى منهم نحو التغيير لا يستطيع فعلا سوى تغيير قشرته من الخارج مغطيا كل الأخطاء الجسام تاركا إياها تنمو بازدياد مع طول الزمن وانعدام الفعل المؤثر .
وجدت الكذب والنفاق والمجاملة هم أساس تعامل الفرقاء مع بضعهم وأن الجميع يرى أنه الصواب وأن ما سواه عدو يجب تحطميه والصعود على أقاضه حتى يصل إلى المجد إلى تحقيق مبادئة و إن كان بنسب مختلفه بالرغم من أظهار صورة مختلفه في الإعلام عن ذلك .
أكتشفت أن ما جئت لأبحث عن حل بداخله كان هو المشكلة بذاته خاصة حينما قرأت عن محاولات الإصلاح المتكررة والفاشله التي حاول البعض من المتحررين أن يقوموا بها , أدركت أن لا بد من تغير كل هذا الواقع والبدأ من جديد .
نداء من قلب صادق يحترق ألما وهمة و نشاطا .. نداء إلى الشباب الذي ما زال منغمسا في أتون تيارات الماضي وركامه و أدرانه .. لقد آن لك أن تكسر قيودك وتتحرر وتصنع أنت واقعا جديدا متجاوزا كل الأخطاء السابقة التي لم تستطيع تلك الإجسام الهزيلة المريضة أن تتجازوها فكانت الجزء الأكبر من مشكلة الواقع الذي نعيشه .
يا شباب الفكر يا ملح البلد ** من يصلح الملح إذا الملح فسد