مع خروج طيف كبير من شعب تونس إلى الشوارع والميادين، بداية من الـ 17 من ديسمبر 2010، هاتفا بأعلى صوته، فاتحًا صدره للرصاص غير آبه بنظام قمعي جثم على القلوب والأرواح ردحًا من السنين، “الشعب يريد إسقاط النظام”، كانت بعض الأنظمة الرسمية العربية والغربية تضع الخطط لوقف هذا الخطر الداهم من تونس وإن كلفها ذلك إدخال البلاد في أتون حرب أهلية لا تبقي ولا تذر.
أنظمة عارضت الثورة التونسية في البداية وغيّرت موقفها بعد ذلك، وأخرى ضلت على موقفها الأول المعارض للثورة، ووصل بها الأمر إلى تجنيد عملاء لها في تونس لتنفيذ أجنداتها التخريبية وارباك الانتقال الديمقراطي عبر اغتيالات سياسية كادت أن تجهض ربيع تونس لولا ألطاف الله ثم يقظة الشعب الحالم بغد أفضل.
اغتيالات سياسية استهدفت الاسلامي والعلماني واليساري، وإن كان أخرها اغتيال القائد القسامي الطيار التونسي محمد الزواري أمام منزله في مدينة صفاقس (جنوب) في الـ 15 من ديسمبر 2016، فإن شبحها لم يفارق التونسيين، فكثيرا ما تحذّر مخابرات دول أجنبية ومخابرات تونس المحلية شخصيات سياسية بضرورة توخي الحذر والحيطة تحسبا لأي عمل ارهابي يستهدفهم. فمن يقف وراء هذه الاغتيالات؟ وما الهدف منها؟
عودة الملف قبل أشهر قليلة من الانتخابات
أول أمس الخميس أصدرت حركة النهضة التونسية، بيانًا جاء فيه “أعلمت مصالح الفرقة الوطنية لمكافحة الارهاب السيد فوزي كمون مدير مكتب رئيس حركة النهضة بأن لديها معلومات تفيد بكونه محل استهداف ارهابي محتمل وطلبت منه أخذ الاحتياطات اللازمة وتوفير حماية أمنية له”. بلاغ أعاد مسألة الاغتيالات السياسية إلى الواجهة، بعد غياب دام أشهر.
ولئن لم تقدّم حركة النهضة تفاصيل أخرى حول التهديدات الإرهابية التي وصلت مدير مكتب زعيمها راشد الغنوشي، فإن مصادر مقرّبة من الحركة أكّدت لنون بوست أن هذه التهديدات جدية، وقد وصلت فوزي كمون منذ حوالي أسبوعين تحذيرات من عمل إرهابي جدي وخطير، خطّط له خارج البلاد يستهدفه ويستهدف الحركة.
يأتي هذا التهديد الإرهابي لاستهداف أحد قيادات حركة النهضة التونسية في وقت تستعدّ فيه البلاد لإجراء انتخابات بلدية هي الأولى من نوعها في البلاد
ذات المصادر أكّدت أنّ مخابرات دولة أجنبية هي من حذّرت المصالح الأمنية التونسية بوجود هذا المخطط الإرهابي الذي يستهدف مدير مكتب الغنوشي قصد تصفيته، الأمر الذي استدعى توفير الحماية الأمنية اللازمة له. ويأتي هذا التهديد الإرهابي لاستهداف أحد قيادات حركة النهضة التونسية في وقت تستعدّ فيه البلاد لإجراء انتخابات بلدية هي الأولى من نوعها في البلاد بعد ثورة يناير 2011 وهروب زين العابدين بن علي إلى السعودية، حيث بقيت تونس منذ ذلك الوقت دون مجالس محلية وجهوية منتخبة وهو ما عطّل العمل البلدي في أكثر من جهة في البلاد.
قبل كل محطة انتخابية تحاول بعض الدول زعزعة أمن تونس
انتخابات محلية، تعدّ حسب متابعين للشأن التونسي، امتحان حقيقي ستخوضه الأحزاب نحو تحقيق الحكم المحلي وتخفيف الضغط على السلطة المركزية، وكانت الهيئة قد أكدت سابقًا أن تجاوز سنة 2017 لتنظيم الانتخابات سيكون له تداعيات سلبية على مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد، حيث قال صرصار في تصريحات إعلامية: “عدم تنظيم الانتخابات هذا العام يسيء لتونس لأنه بذلك تمر 4 سنوات على إصدار دستور الجمهورية الثانية دون تطبيق الباب السابع منه والمتعلق بالسلطة المحلية، مما يترجم عجزًا عن التقدم في مسار الانتقال الديموقراطي”.
اجهاض التجربة الديمقراطية
بداية الاغتيالات السياسية في تونس كانت صباح الـ 6 من فبراير 2013، حيث اغتيل المعارض اليساري شكري بلعيد أثناء خروجه من بيته في اليوم الذي كان يفترض أن تتمّ فيه مناقشة قانون العزل السياسي الذي كان سيؤدي لإبعاد عدد كبير من الوجوه السياسية التي شاركت بشكل فعّال في تأسيس ورعاية وممارسة الديكتاتورية في أيام زين العابدين بن علي.
وبمقتله دخلت البلاد في حالة اضطراب سياسي وأمني شديدة أطاحت بأول حكومة منتخبة في تاريخ الجمهورية التونسية، وكادت أن تتحول إلى انقلاب “عسكري أمني سياسي” يطيح بكل المؤسسات المنبثقة عن انتخابات 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2001، وذلك حسب ما صرح به المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية وأبرز مستشاري الرئيس، حينها، “المنصف المرزوقي”، حيث تحدث عن يوم جنازة شكري بلعيد وشبّهه بيوم 30 يونيو 2013 في مصر.
ارباك الانتقال الديمقراطي سيتبعه وجوبا، حسب خطط المتربّصين بتونس، اجهاض التجربة الديمقراطية التونسية
اغتيال سياسي أول تبعه ثان فثالث، وتخللهم محاولات اغتيالات أخرى لشخصيات سياسية فاعلة في البلاد، كان الهدف منها بث الفوضى والعنف في البلاد في مرحلة أولى وارباك الانتقال الديمقراطي الذي تتباهى به تونس بين الدول في مرحلة ثانية، والقضاء عليه في مرحلة ثالثة.
بثّ الفوضى والعنف في البلاد كان الهدف الأول لهذه الاغتيالات السياسية، فبعد كل اغتيال تدخل البلاد في حالة فوضى واستقطاب ثنائي، يتعزّز بالخطاب المتطرّف الذي يروجه حلفاء منفذي الاغتيال مباشرة بعد وقوعه، واتهام الطرف المقابل فكريا بتنفيذ العملية عملا بالمقولة اليسارية “أقتل رفيقك واتهمت عدوّك”. فوضى وعنف بين أبناء الشعب الواحد ستؤدّي حتما، حسب القائمين على الاغتيال، إلى انقسام اجتماعي وحرب أهلية تربك الانتقال الديمقراطي الذي تسير تونس على نهجه منذ سقوط نظام بن علي وهربه إلى المملكة العربية السعودية عشية الـ 14 من يناير 2011، وباركته معظم الدول إلا التي تكن البغض والعداء لتونس وشعبها وإن كانت جول نحسبها “شقيقة”.
الفوضى والعنف سبيل لاجهاض حلم تونس
ارباك الانتقال الديمقراطي سيتبعه وجوبا، حسب خطط المتربّصين بتونس، اجهاض التجربة الديمقراطية التونسية، حتى لا تكون مُحفزة لباقي شعوب المنطقة التي تطوق إلى الانعتاق من سجون وأنظمة كبّلت إرادتها وسرقت أحلامها وتحكّمت في مصيرها لعقود طويلة من الزمن، إلا أن خططها باءت بالفشل وإن نجحت في بعض الوقت، بسبب فطنة شعب تونس ونهج التوافق الذي اتبعه كبار سياسييها ومجتمعها المدني، فبدل الفوضى تحصّلت على جائزة نوبل للسلام لسنة 2015.
ويرى مراقبون أن تحركات الإمارات في تونس واتباعها لأسلوب الهجوم خير وسيلة للدفاع، نابع من تخوفها من نجاح مشاريع الانتقال الديمقراطي في الدول التي حدثت فيها الثورات، وبالتالي قد تكون هذه الدول مثلا يحتذى به لباقي الشعوب العربية، ما ينعكس سلبا على الداخل الإماراتي، وهذا ما يفسر كلام السبسي في زيارته الأخيرة للبحرين الذي حاول أن يطمئن الطرف الإماراتي بأن الثورة التونسية لا تتعدى بوتقة تونس الجغرافية قائلا: الثورة التونسية داخلية ولم تكن معدَّة للتصدير.
الإمارات في قفص الاتهام
كثيرة هي الدول التي تكّن العداء لتونس ولا ترضى لها الخير وتسعى إلى اجهاض حلمها ومسيرتها نحو تحقيق ديمقراطية تحفظ بها كرامة شعبها، منها من بقي يتفرّج ينتظر فرصة الانقضاض على البلاد لتنفيذ أجندته المشبوهة، ومنها من دخل مباشرة مستعينا بكل طاقاته الدنيئة، وعلى رأسها من نحسبها “شقيقة” دولة الإمارات العربية المتّحدة.
فقد أثبتت تقارير عديدة أن الإمارات التي ارتبط اسمها بالثورة المضادة وأجندتها التخريبية ومعاداتها للتجربة الديمقراطية التونسية وسعيها إلى إفشال الانتقال الديمقراطي الذي تشهده البلاد منذ سقوط نظام ابن علي في يناير 2011، أشرفت على عديد الاغتيالات السياسية والمحاولات.
يتمثّل برنامج الأكاديمية في عملية تدريب نظري وتطبيقي متعدّد الاختصاصات لتشكيل قوات خاصّة غير نظامية تتولّى إنجاز عمليات أمنية وعسكرية نوعية في الخارج
وأثبت فيلم وثائقي بثته قناة الجزيرة الفضائية بعد أشهر من اغتيال شكري بلعيد أن سائق بلعيد تلقى بعد وقوع عملية الاغتيال بدقائق معدودة مكالمتين هاتفيتين وردتا من دولة الإمارات العربية المتحدة، وقبيل هذا الفيلم كان التونسيون يتداولون روايات مختلفة عن جريمة الاغتيال، ومن ضمن هذه الروايات”: اتهام دولة الإمارات بالضلوع في جريمة الاغتيال، سواء بتدبيرها أو بالوقوف وراءها مباشرة، وذلك بهدف تأليب الشارع والرأي العام والقوى السياسية ضد حركة النهضة الإسلامية التي كانت في الحكم آنذاك.”
ويؤكّد المتابعون للشأن التونسي، وضع الإمارات خطة لإرباك الوضع في تونس، بالاستعانة بأطراف داخلية وخارجية عدة، وصلت حدّ توجيه رسائل واضحة للسبسي بعد امتناعه أو عدم قدرته المضي قدما في عملية استئصال النهضة، ربما كان أهم هذه الرسائل استهداف حافلة الأمن الرئاسي، في رسالة مفادها أن شبح الإرهاب والتفجيرات ليس ببعيد عن شخصك.
تسعى الإمارات إلى بث الفوضى والعنف لإرباك التجربة الديمقراطية التونسية
ومؤخّرا، أكّد موقع اخباري تونسي، نجاح الأجهزة الإماراتية في تجنيد 40 عنصرا تونسيا تمّ استقطابهم من طرف الأجهزة الليبية وتسليمهم للقوات العسكرية المصرية التي تشرف على تدريبهم منذ أشهر في قاعدة “العباسية” بمصر ضمن ما يطلق عليه برنامج “الأكاديمية” العسكري الذي يقوده مستشار ترامب الخاص إيريك برانس
ويتمثّل برنامج الأكاديمية في عملية تدريب نظري وتطبيقي متعدّد الاختصاصات لتشكيل قوات خاصّة غير نظامية تتولّى إنجاز عمليات أمنية وعسكرية نوعية في الخارج وفقا لما ترسمه إدارة وزارة الدفاع الأمريكي البنتاغون أو غيرها من الدول التي تدفع الأموال مقابل مهمات محدّدة على غرار الاغتيالات السياسية والعمليات الإرهابية النوعية دون تدخّل عسكري مباشر. وقد ذاع صيت هذه الأكاديمية تحت اسم “البلاك واترBlack Water” من خلال ما ارتكبته من جرائم تقتيل بشعة عرفتها خصوصا العراق.
محاولة ابعاد الشبهات
في محاولة لإبعاد الشبهات عنها، عملت دولة الإمارات العربية من خلال وسائلها الإعلامية على خلق روايات خيالية لاتهام حركة النهضة التونسية بالوقوف وراء الاغتيالات السياسية في تونس، وإن كانت قياداتها مهدّدة هي الأخرى.
وفي التاسع من يونيو الماضي، بثّت قناة “سكاي نيوز” الإماراتية تقريرا بعنوان “تورط قطر في المغرب العربي“، وذكر التقرير أنّ المدعو أبو أنس الليبي بعد تمّ إلقاء القبض عليه من قبل الأميركيين قدم معلومات تفيد بأنّ عبد الحكيم بلحاج متورط في الاغتيالات السياسية في تونس وذلك بالتنسيق مع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي وبعلم من القطريين، تقرير وجّهت فيه القناة الإماراتية تهم “تنسيق” اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد في سنة 2013 إلى زعيم حركة النهضة قصد تغيير وجهة الاتهامات المصوبة إلى الإمارات، الأمر الذي دفع براشد الغنوشي إلى رفع دعوى قضائية ضد القناة “سكاي نيوز عربية”.