حتى ما بعد اليوم العاشر من انطلاقها لم يكن هناك قلقًا كبيرًا من المسيرات التي بدأها زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض كليجدارأوغلو من أنقرة قبل أسبوعين والتي سيتجه منها إلى إسطنبول حيث يقوم بقطع مسافة 20 كيلومترًا تقريبا بشكل يومي بدعوى المطالبة بتحقيق العدالة في تركيا بعد اعتقال أحد النواب من حزب الشعب والذي قد اتهم بقضية أمنية، ومن المقرر أن تنتهي المسيرات أمام السجن الذي يعتقل فيه هذا النائب وقد حكمت عليه المحكمة بالحبس 25 عامًا بتهمة التجسس.
وكان النائب أنيس بربر أوغلو قد اعتقل لدوره في توقيف شاحنات إغاثة كانت متجهة لسوريا على أنها محملة بالسلاح وتبين فيما بعد عدم صحة ذلك، وقد أشارت الصحافة التركية أن المعلومة عن وجود أسلحة في الشاحنات حصل عليها النائب بربر أوغلو من أكرم دومانلي وهو إمام مشهور في جماعة غولن، وهو الأمر الذي أدى إلى اتهامات من أنصار الحكومة للمعارضة بالدفاع عن شخص متورط في قضية أمنية.
مع الوقت بدأ القلق يتزايد لدى البعض في حزب العدالة والتنمية مع تزايد المشاركين في المسيرات وحصولها على زخم وتغطية إعلامية، وتوقع زيادة العدد في ظل التحريض والحث المتواصل للمشاركة بها
أما فيما يتعلق بتعامل حزب العدالة والتنمية وحكومته مع هذه المسيرات فقد تم في البداية التقليل من شأن وأهمية هذه المسيرات من قِبل مسؤولين في حزب العدالة ووزراء في الحكومة مثل وزير العدل والمدير العام لحزب العدالة بالقول إن كليجدار أوغلو الذي يريد أن يسير 450 كيلومترًا وهي المسافة بين أنقرة وإسطنبول إنما يتعب نفسه ولا معنى لما يقوم به، والرجل يحاول عبثًا التشبه بأسلوب غاندي، مؤكدين أن هناك فوارق كبيرة بينه وبين غاندي، وقد جمع الكاتب التركي أحمد هاكان في مقال قصير له في صحيفة حرييت بعضًا مما قيل للتهوين من شأن هذه المسيرات وعلى سبيل المثال أطرح هنا عينة منها: “هذه ليست مسيرات وطنية وليست مخلصة”، “العدالة لا تتحقق بالمشي في الطرقات”، “الإرهابيون يسيرون على الطرق التي بناها حزب العدالة والتنمية”، “لماذا يطالبون بالعدالة وهي متحققة بشكل جيد في البلد؟” وما شابه من هذه المقولات.
لكن مع الوقت بدأ القلق يتزايد لدى البعض في حزب العدالة والتنمية مع تزايد المشاركين في المسيرات وحصولها على زخم وتغطية إعلامية، وتوقع زيادة العدد في ظل التحريض والحث المتواصل للمشاركة بها، وقد بدأ رد الفعل يتطور إلى التهديد بالتوجه للقضاء ضد هذه المسيرات حتى إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه ألمح إلى شيء من هذا القبيل.
وإن كان ما زال هناك قسم يرى أن هذه المسيرات لن تتسبب في شيء ولكن هناك مبررات للقلق، فالمسيرات تأتي بعد فشل الحزب في التغيير السلمي والوصول إلى الحكم من خلال المسار الديمقراطي وبعد الاستفتاء على الدستور في 16 من أبريل الذي خلخل وسيخلخل أركان المؤسسات التي دعمت الدولة العميقة في السابق والتي كان حزب الشعب الجمهوري منسجمًا مع أدائها، وقد رفض حزب الشعب الجمهوري رواية الحكومة لمحاولة الانقلاب في 15 تموز مدعيًا أنها محاولة مدبرة كما رفض الالتزام بنتائج استفتاء 16 من أبريل، مدعيًا أنها باطلة بسبب عدم وجود أختام اللجنة الانتخابية على قسم منها.
ومن الملاحظات المهمة أن مسير الديمقراطية يشير لنا أن كليجدار أوغلو رسخ قيادته للحزب من جديد بعد صمود أمام المجموعة المعارضة له بعد فشله في الاستفتاء، حيث حاولت مجموعة من قيادات الحزب إرغام كليجدار أوغلو على عقد انتخابات مبكرة للحزب وقد استقال بعضهم بعد رفض ذلك، ويمكننا القول إن كليجدار أوغلو رتب الأمور أو بعبارة أخرى تم ترتيب الأمور له داخل الحزب.
ويأتي في هذا السياق تأييد بعض المخالفين له في هذه الخطوة حيث قام بعض المعارضين الأقوياء له في الحزب مثل الرئيس السابق للحزب النائب دينيز بايكال (الذي نشط بقوة مؤخرًا في ترتيب مرشح ينافس أردوغان في الانتخابات الرئاسية القادمة) بتأييد خطوة كليجدار أوغلو مما بدا أنه محاولة لتوحيد الأطراف المختلفة خلف جبهة واحدة وهذا آثار شكوك في أوساط حزب العدالة بشأن تدبير أمر ما ودعم أطراف خارجية لهذا المخطط.
الأصوات العاقلة من المثقفين والباحثين تدعو للتجهز لكل السيناريوهات في ظل تربص أطراف دولية وإقليمية عديدة بتركيا وفي ظل التحولات السريعة في الإقليم الذي يبدو أنه يتجهز لتغييرات دراماتيكية
وفي هذا السياق يمكن أن نضيف لقاءات كليجدار أوغلو في شهر رمضان مع ميرال أكشينار التي تسعى لتكوين حزب جديد بعد خروجها من الحركة القومية.
ولعل الأمر الذي يزيد مستويات القلق اقتراب المسيرات من إسطنبول كما هو متوقع في الأيام من 10-15 من يوليو، وكذلك أضيف إلى ذلك عقد مهرجان وتجمع كبير في نهاية المسيرة ويتوافق ذلك مع الذكرى الأولى للانقلاب، حيث ستخرج جماهير العدالة والتنمية والحركة القومية للاحتفال في الشوارع في الذكرى الأولى لفشل الانقلاب ويخشى البعض من استغلال ذلك في إحداث فوضى في البلد ومواجهات أهلية في الشوارع.
والذي يزيد القلق أكثر أنه يوجد تأكيدات من صحفيين أتراك أن ما يجري من مسيرات مرتب لها للقيام بانقلاب بدعم من الناتو وأطراف غربية، كما أن هناك دعوات من باحثين ومثقفين للدولة لأخذ أقصى درجات الحذر وعدم الاستهانة بذلك.
وفيما كان كل ما سبق شأنًا داخليًا فإن ثمة من يربط بين ما يجري في تركيا من تحركات داخلية والدعوات لإعادة تظاهرات جيزي بارك بما يجري في الإقليم وتحديدًا ما يجري ضد قطر الذي بدا أن تركيا تساندها بوضوح في أزمتها مع السعودية والإمارات خاصة مع وجود اشتباه بدور إماراتي في أحداث غيزي بارك في 2013، وأحداث الانقلاب في 2016.
ما زال الأمر لا يشكل خطورة كبيرة على الدولة وحكومة حزب العدالة والتنمية، لكن الأصوات العاقلة من المثقفين والباحثين تدعو للتجهز لكل السيناريوهات في ظل تربص أطراف دولية وإقليمية عديدة بتركيا وفي ظل التحولات السريعة في الإقليم الذي يبدو أنه يتجهز لتغييرات دراماتيكية.