في الوقت الذي تتجه فيه الأنظار في عموم منطقة الشرق الأوسط نحو المشكلة الخليجية التي قفزت من الظلام لتتصدر الاهتمام الإعلامي والشعبي، يتساءل البعض، من المستفيد من تأجيج هذه الأزمة؟ ومن سيكون الرابح من إزاحة الغبار عن مشاكل قديمة قد تم طيها قبل سنوات؟ وبنفس الوقت من سيكون الخاسر منها؟
لن نناقش الأسباب المعلنة من قِبل الدول الأربعة التي تشنُّ حملتها على قطر، كونها هشة وغير مقنعة للدرجة التي لا تستحق نقاشها، لكن الأسباب الحقيقية هي التي تبقى طي الكتمان ولا يتم التنويه عنها، فالمشكلة الحقيقية بين الطرف الإماراتي والقطري تكمن في مواقفهما من ثورات الربيع العربي، فكلا البلدين اتخذا مواقف متضادة ومتعاكسة إزاء تلك الثورات، فالأول كان يخيّل له أنه المستهدف من تلك الثورات، ولا محالة ستصل إليهم لتنتزعهم من عروشهم التي نصبهم البريطانيون عليها.
أما الثاني فأدرك أن سُنّة الكون لا تقبل الجمود، وسُنّة التغير نافذة لا يوقف تقدمها شيء، والمصلحة تقتضي دعم تلك الثورات وتطلعات الشعوب، وأن يكون لها الفضل عليها لتتجنب مصير حكام دول الربيع العربي.
محاولة الإمارات لانتزاع النفوذ القطري الدولي
إن التنافس في حقيقة أمره، إماراتي قطري وليس سعوديًا قطريًا، ذلك لأن السعودية رغم حجمها الكبير وعظم مكانتها بالعالم العربي والإسلامي، على ما يبدو قد شاخت مع تقدم سِنّ ملوكها، وأصبحت ألعوبة بيد الصبيان، فقد تمكن صبيان الإمارات أن يجروا ورائهم ابن سلمان ويستخفوا عقله فيطيعهم، ليسخر لهم مقدرات تلك الدولة العظيمة، والزج بها بمغامرات صبيان.
قد أعجبتهم اللعبة أولاد زايد، وهم يرون أنفسهم يحققون انتصارًا تلو انتصار، على شعوب مستضعفة لا تملك للدفاع عن حقوقها سوى صدورها العارية، دعموا الانقلابات المضادة بهدف إرجاع عقارب الساعة للوراء، ليتأكدوا من رجوع المومياءات القديمة من حكام العرب للمشهد السياسي مرة أخرى، ويمكنوهم مرة أخرى من رقاب الشعوب.
فالإمارات تعتبر نفسها في منافسة شديدة مع قطر، وتعتبر الأخيرة حجر عثرة أمام طموحاتها التي تحاول من خلالها صنع حضور عالمي لها، لكن على حساب شعوب المنطقة، فهي تتخذ من خصوم قطر مقربين لها، ومن مقربين قطر خصومًا لها، وتُسخّر إمكانيات دولتها لمحاولة وأد الثورات العربية، بل وتجعل من نفسها رأس الحربة في حربها ضد الشعوب العربية والإسلامية، نيابة عن الأعداء الحقيقيين القابعين على صدور أهلنا في فلسطين.
تستمر الإمارات في سعيها ماضية لمحاربة كل تطلعات الشعوب للحرية، ولم يتبق لديها غير أن تلتفت إلى دولة قطر التي دعمت وتدعم حركات التحرر في العالم العربي والإسلامي
فهي تقاتل في ليبيا داعمة لـ”حفتر” أحد أزلام القذافي، وتقاتل في اليمن لكي تفصله إلى يمنين، وتدعم صالح وابنه ليحكم اليمن الشمالي، وتأسس لها نظامًا مواليًا في الجنوب، وتدعم نظام الأسد الذي أوغل في دماء شعبنا في سوريا وتحارب الثورة السورية، وتشن حملة تشهير وتلفيق التهم لإخوان مصر وتدعم السيسي في انقلابه، ولم ينج من حبائلهم الشعب التونسي ولا الشعب المغربي، بل وحتى الشعب التركي الذي تكشفت حقائق دورهم بدعمهم للانقلاب الفاشل على حكومة العدالة والتنمية، والعراق ليس استثناءً من الجهد الإماراتي الداعم لتفتيت المنطقة، فها هي تعلن وبكل وقاحة دعم وتمويل الاستفتاء الكردي على الاستقلال.
وتدعم أطرافًا سنية لغرض الدخول في العملية السياسية العرجاء في العراق لتضمن لها موطئ قدم فيه، وتستمر الإمارات في سعيها ماضية لمحاربة كل تطلعات الشعوب للحرية، ولم يتبق لديها غير أن تلتفت إلى دولة قطر التي دعمت وتدعم حركات التحرر في العالم العربي والإسلامي، بل وصل الأمر بالإماراتيين إلى التفكير بالاستيلاء عليها أرضًا وشعبًا، كما فعلت في جنوب اليمن، وجرت خلفها السعودية بكل ثقلها لتنفيذ أجندتها هناك مع الأسف.
ما تأثيرات المشكلة على خارطة التحالفات في المنطقة؟
وفي الوقت الذي لا يبدو أن الامارات تنوي التراجع عن مسيرتها التخريبية في المنطقة، وهي ماضية من غير تردد فيها، ذلك لأن الطريق الذي سلكوه طريق باتجاه واحد من الصعب العودة عنه، فتراهم يندفعون بكل قوة لإكماله إلى آخره، ومن المرجح أن تكون نهايتهم السياسية فيه، سوف تؤثر الازمة الخليجية الأخيرة مع قطر على خارطة الاصطفافات والتحالفات وتشكيل المحاور بالمنطقة.
ربما يأتي يومًا على السعودية، تُدار داخليًا وخارجيًا من قبل أولاد زايد وهم لا يعلمون، فينصبون هذا ويُقيلون ذلك، حسب ما يتوافق مع أهوائهم
فالإمارات تدفع بقطر وحماس دفاعًا تجاه إيران، وربما يتشكل محور إيراني تركي قطري عراقي ضد المحور السعودي، وبدلاً من أن تستفيد السعودية من القمة العربية الإسلامية الأمريكية التي عقدت بالرياض لتوسيع دائرة تحالفاتها ضد إيران، نراها وبفضل نصائح أولاد زايد تخسر كل يوم المزيد والمزيد من حلفائها لصالح إيران، والدول التي لا تفكر بالتحالف مع إيران، فهي تنأى بنفسها عن البقاء متحالفةً مع السعودية والإمارات، وربما يأتي يومًا على السعودية، تُدار داخليًا وخارجيًا من قبل أولاد زايد وهم لا يعلمون، فينصبون هذا ويُقيلون ذلك، حسب ما يتوافق مع أهوائهم.
من المستفيد من الأزمة؟
من المؤكد أن أكبر المستفيدين من حالة التشرذم العربية هذه، إيران ومحورها في المنطقة، وسيتنفس التحالف الإيراني – الروسي الصعداء، وهم ينظرون لتصدع الجبهة المضادة لهم وفي أكثر من ساحة، من سوريا إلى العراق واليمن.
ستستفيد كل الأنظمة العربية التي كانت جاثمة على أنفاس الشعوب العربية، وستستعيد الجيوش العربية حكمها للشعوب العربية، لتجرب عليهم أنواع أسلحتها بدلاً من توجيهها للأعداء، سوف تستفيد “إسرائيل” وهي ترى كيف أن الإماراتيين يحاربون الفصائل الفلسطينية نيابة عنهم، ويتهمونهم بالإرهاب، وستستفيد أيضًا وهي ترى نفسها وقد أصبحت دولة صديقة للعرب في صراعهم مع أنفسهم، وسوف يستفيد المدعو “دحلان” وهو يُفرض من قِبل الإماراتيين على غزة الصمود رغمًا عن إرادة أهلها، ليكون عين “إسرائيل” الحارسة على غزة، ولسوف تستفيد الدولة العميقة في ليبيا حينما يرجع إليها ابن القذافي “سيف الإسلام” ليحكمها رغم نهر الدماء الذي جرى بسببه وبسبب أبيه.
يتم صياغة إسلام على الهوى الأمريكي كبديل عن الإسلام الحقيقي الذي تنادي به الحركات الإسلامية الوسطية
سوف يستفيد الساسة القوميون الأكراد في العراق، عندما يؤسسون دولة خادمة لـ”إسرائيل” في شمال العراق، ليجعلوهم شوكة في خاصرة تركيا، ستستفيد كل الجماعات الإرهابية في المنطقة وتزيد وتيرة تجنيدها للشباب المسلم الناقم على تصرفات حكوماتهم العربية، وتقنعهم تلك الجماعات الإرهابية أن الحلول السلمية مع هذه الأنظمة لا جدوى منها، والسبيل الوحيد لنيل الحقوق هو بحمل السلاح ضدهم.
ولسوف يتم صياغة إسلام على الهوى الأمريكي كبديل عن الإسلام الحقيقي الذي تنادي به الحركات الإسلامية الوسطية وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين، فالإسلام الذي تبتغيه الإمارات ومن خلفها الغرب والشرق، هو إسلام مؤتمر كروزني الذي أخرج معظم أهل السنة من دائرة الإسلام، يريدون إسلام التكايا الذي ليس له شأنٌ في مستقبل الأمة ونهضتها.
من الخاسر من الأزمة الخليجية؟
الخاسر الوحيد جرّاء تلك الأزمة، الشعوب العربية والإسلامية، فسيخسر الشعب الفلسطيني وهم يرون التحشيد ضدهم من كل حدب وصوب لوأد مقاومتهم الشريفة، سيخسر الشعب العراقي أمله بمساعدة العرب لتحقيق العدالة فيه وطرد الاحتلال الإيراني منه، سيخسر اليمنيون في التخلص من إرهاب الحوثي وتحرير بلدهم وتوحيده، سيخسر الشعب الليبي الذي انتفض ضد الديكتاتورية، ليراها ترجع إليه مرة أخرى على يد حفتر ومن يشابهه، سيخسر السوريون ثورتهم بعد كل التضحيات التي دفعها ليرجع “حماة الديار” ليحكموهم مرة أخرى بالحديد والنار، وستُجبر الشعوب العربية على لانتظار طويلاً لترى ربيعًا قادمًا إليها لينتشلها مما هي فيه.