سيطرت قوات الدعم السريع التي يُقاتلها الجيش السوداني منذ منتصف أبريل/نيسان هذا العام، على ولاية الجزيرة المجاورة للعاصمة الخرطوم في 18 ديسمبر/كانون الأول الحاليّ، وسط ذهول الشعب السوداني من انسحاب الجيش من الولاية، تاركًا مواطنيها فريسة سهلة لقوات عُرفت بانتهاكاتها الجسمية لحقوق الإنسان حتى غدت عقيدتها العسكرية.
وبعد استيلاء قوات الدعم السريع تعاظمت مخاوف السودانيين من ابتلاع المليشيا باقي مناطق وسط السودان خاصة ولايتي سنار والنيل الأبيض، حيث بات الطريق ممهدًا أمامها للاستيلاء على مزيد من المدن والأرياف المكتظة بالسكان والفارين من العنف.
ويأتي فرض الدعم السريع سيطرتها على ولاية الجزيرة، بعد وضع يدها على أحياء واسعة من العاصمة الخرطوم وأربع من أصل خمس ولايات في إقليم دارفور، إضافة إلى بعض المناطق في إقليم كردفان.
الهدف هو النهب
بررت قوات الدعم السريع هجومها على مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة، بأن الجيش حشد عشرات آلاف المقاتلين في مقر قاعدته بالولاية تمهيدًا لمهاجمتها في العاصمة الخرطوم، حيث قررت تنفيذ عملية استباقية، رغم التحذيرات المحلية والدولية للمليشيا من مغبة هذا الأمر.
ومع أن هذه الذريعة غير مقنعة، ضربت الدعم السريع بهذه التحذيرات عرض الحائط، وفرضت سيطرتها على الولاية بعد انسحاب الجيش وعناصر جهاز المخابرات العامة والشرطة منها، وسرعان ما بدأت عناصر المليشيا في ارتكاب انتهاكات فظيعة بحق السودانيين تضمنت نهب ممتلكاتهم وتقييد حرية حركتهم.
والمتابع للشأن السوداني يدرك بوضوح أن الدعم السريع سيطرت على ولاية الجزيرة من أجل نهبها، فقد أصبحت بعد الحرب مركزًا اقتصاديًا حيويًا واستقرت فيها معظم الأنشطة التجارية بما في ذلك شركات الاستيراد وكذلك الأعمال الإنسانية وعشرات آلاف الفارين من العاصمة الخرطوم.
ونفذت قوات الدعم السريع، بعد أن عززت وجودها في ولاية الجزيرة، عمليات نهب واسعة النطاق لسيارات المدنيين وممتلكاتهم خاصة الذهب والأموال، دون أن تستطيع قيادتها الحد من هذه العمليات رغم تعهداتها بمنع ذلك، وهذا أمر مفهوم، فالحافز الأكبر وراء انضمام عشرات آلاف العناصر إلى الدعم السريع هو أموال المدنيين باعتبارها غنائم حرب، وإن منعت ذلك بجدية سينفضون من حولها.
وتأثرت الحركة التجارية في بقية مناطق السودان تأثرًا بالغًا بسيطرة قوات الدعم السريع على ولاية الجزيرة، فارتفعت أسعار السلع إلى أضعاف بسبب مخاوف توقف سلاسل الإمداد وتخزين التجار في مناطق وسط السودان وولاية القضارف شرق البلاد بضائعهم في منازلهم خوفًا من نهبها حال اجتاحت المليشيا هذه المناطق.
وعلى الرغم من أن السودانيين لم يفيقوا بعد من صدمة سيطرة الدعم السريع على الجزيرة، ازدادت أوضاعهم سوءًا بسرعة البرق خاصة الذين بحاجة إلى مساعدات إنسانية.
ولا تقتصر مخاطر استيلاء قوات الدعم السريع على ولاية الجزيرة على إمداد السلع وفقدان ملايين السودانيين للخدمات الطبية، وإنما تمتد إلى الزراعة أيضًا، حيث نهبت القوات الآليات الزراعية، ما يؤثر على عمليات الفلاحة في أكبر مشروع زراعي مروي في البلاد.
ورغم صب السودانيين غضبهم على قوات الدعم السريع لفرض سيطرتها على ولاية الجزيرة وما صاحب ذلك من انتهاكات، فإن الجيش نال نصيبًا وافرًا من الغضب بخصوص انسحابه من الولاية، وقد تركزت المطالب على ضرورة إنهاء الحرب عبر التفاوض، ما دعا قائده الجنرال عبد الفتاح البرهان إلى تأكيد محاسبة القادة العسكريين على انسحابهم مع إبداء الرغبة في استئناف التفاوض.
وتتحدث تقارير صحفية عن لقاء مرتقب بين قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وغريمه قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي”، اليوم الثلاثاء 26 ديسمبر/كانون الأول في كمبالا عاصمة أوغندا.
وتتعلق آمال السودانيين بهذا اللقاء في توصله إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، لكن لا يبدو أن إبرامه سيكون بسرعة بعد أن عقدت الحرب الأوضاع السياسية والاجتماعية وضاعفت الغبن الاجتماعي والتفرقة القبلية وانتشار التسليح وتعدد مراكز القوى سواء داخل الجيش أم الدعم السريع والجماعات المتحالفة معهما.
تمهيد الطريق للأسوأ
يتمثل الهدف الثاني من استيلاء قوات الدعم السريع على ولاية الجزيرة في إخضاع المزيد من مناطق ولايات سنار والنيل الأبيض والنيل الأزرق لسيطرتها، وسط مخاوف بين السكان من أن يحدث ذلك خلال أيام أو أسابيع قليلة قبل أن يستأنف الطرفان التفاوض بجدية.
وسارعت قوات الدعم السريع في التمدد بولاية النيل الأبيض، حيث بسطت سيطرتها على منطقة القطينة، كما ظلت تشتبك مع الجيش في مناطق تابعة لولاية سنار تبعد عن المدينة ما يقارب 15 كيلومترًا فقط.
والراجح أن القوة التي وصلت إلى مشارف مدينة سنار هي قوة استطلاع لمعرفة نوعية وعتاد الجيش ومدى قوة ارتكازاته ونقاط ضعفها، تمهيدًا لهجوم شامل، في وقت عززت القوات المسلحة من وجودها في ولايات سنار والنيل الأبيض المحاذيتين لولاية الجزيرة، إضافة إلى مضاعفة جنودها في ولاية القضارف التي ترتبط مع الأخيرة بحدود مشتركة.
ولا شك أن الدعم السريع، ورغم أنها قوات شبه عسكرية وباتت في الفترة الأخيرة تعتمد على قادة حرب جُدد، تراجع هذه الفترة خططًا للهجوم على مناطق السودان وولاية القضارف الواقعة شرق البلاد والحدودية مع إثيوبيا، لتضييق الخناق على مركز الحكم الذي انتقل من العاصمة الخرطوم إلى مدينة بورتسودان الواقعة على ساحل البحر الأحمر.
لا تمتلك الدعم السريع، حتى الآن، رؤية تؤسس بناءً عليها سلطة في المناطق التي بسطت عليها سيطرتها، فكل ما ظهر منها هو الانتهاكات فقط، ما يجعل سكان المناطق التي استولت عليها يفرون من عنفها، ليقينهم الراسخ بأنها قوات متفلتة.
لقد ضاق السودان ذو المساحة الجغرافية الواسعة على مواطنيه، في ظل جرائم الدعم السريع المتزايدة ونهم عناصرها البشع لسفك الدماء وارتكاب الفظائع، وليس أمامهم إلا الفرار دون معرفة الوجهة التي يستقرون فيها، ما يجعلهم يعيشون في كرب شديد مع نفاذ مدخراتهم في ظل طول أمد الحرب وتوسع نطاقها.
ومع هذا الضيق، بات سكان المناطق المهددة باحتياج الدعم السريع لها يلجأون إلى التسليح الشخصي خاصة في شرق وشمال السودان، دون أن تصيب هذه العدوى مواطني وسط البلاد، ما يجعلهم فريسة سهلة أمام عناصر المليشيا التي يتوقع أن تلتهم مناطق قريبًا.
وانتقل السودانيون، في ظل تمدد قوات الدعم السريع في مناطق وسط السودان، من مرحلة الكارثة إلى مرحلة الهاوية مع تضاؤل آمال إنهاء الحرب سلميًا، فهم عما قريب لن يكونوا في عداد الجوعى وإنما الموتى بعد انهيار النظام الطبي وتعطل الأنشطة الإنسانية والتجارية والاقتصادية.