رفضت المقاومة الفلسطينية ممثلة في حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” ما جاء في المبادرة المصرية المقدمة لبحث وقف حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال ضد قطاع غزة منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وخلفت وراءها أكثر من 20 ألف شهيد ونزوح ما يزيد على مليون ونصف فلسطيني، فضلًا عن تدمير ما يقرب من ثلثي القطاع، حسبما نقلت وكالة “رويترز” عن مصدرين أمنيين مصريين.
وأشارت الوكالة نقلًا عن المصدرين أن الحركتين رفضتا تقديم أي تنازلات بخلاف إطلاق سراح مزيد من الأسرى والرهائن، فيما أكد قادتهما أنه “لا يمكن أن تكون هناك مفاوضات دون وقف كامل للعدوان” كما جاء على لسان عضو المكتب السياسي لحركة حماس، عزت الرشق.
ليست هذه المرة الأولى التي ترفض فيها المقاومة مقترحًا لإبرام هدنة مؤقتة، فعلى مدار الأيام الماضية طرق الاحتلال أبواب الوسطاء من أجل إقناع حماس ورفاقها بقبول أي صفقة تتضمن تبادلًا للأسرى والمحتجزين، فيما تتشبث المقاومة بشرط الوقف الكامل لإطلاق النار وإنهاء العمليات العسكرية في القطاع كخطوة أولى للتفاوض.. فلماذا ترفض حماس الهدن المؤقتة رغم الوضعية الكارثية للقطاع وسكانه؟
Hamas, Islamic Jihad reject Gaza gov. overhaul for permanent ceasefire, Egyptian sources say https://t.co/L6XYxDFfu6
— Parisa Hafezi (@PHREUTERS) December 25, 2023
وقف إطلاق النار أولًا.. ترتيب الأولويات
ترى المقاومة أن هناك خللًا واضحًا في تحديد أولويات التعامل مع الوضع في غزة بما يخدم أهداف الاحتلال وسرديته المضللة، حيث تقزيم المشهد في صورة تبادل الأسرى والرهائن وتصدير هذا الأمر كأنه لب الأزمة، دون النظر مطلقًا إلى مسألة وقف الحرب والعمليات العسكرية الهمجية التي حولت قطاع غزة بأكمله إلى أرض غير قابلة للحياة.
ويسابق الاحتلال وحلفاؤه الزمن لتحقيق أي إنجاز في ملف الأسرى بعد فشله على مدار أكثر من 80 يومًا من الحرب في تحرير أسير واحد حي، فكل ما تحرر منهم كان عبر مسار المفاوضات ووفق شروط المقاومة وليس نجاحًا من استخبارات الاحتلال، لتسقط حكومة الحرب في اختبار تحرير الأسرى كما سقطت في اختباري القضاء على حماس وضمان ألا تكون غزة منطقة تهديد للداخل الإسرائيلي.
وعليه تتمسك حماس والجهاد وغيرهما من المراقبين المنصفين للمشهد في غزة بضرورة أن يكون وقف إطلاق النار وتجميد كل العمليات الميدانية الخطوة الأولى التي تسبق أي تفاوض، كون أن وقف شلالات الدماء وتقليص إزهاق مئات من أرواح الأطفال والنساء والشيوخ بين الساعة والأخرى، وتحجيم موجات النزوح الداخلي لمئات الآلاف، ومنح المتبقين من سكان القطاع فرصة جديدة للحياة، هو الهدف الأهم الذي على أساسه تنطلق المباحثات.
وهنا تتناغم مواقف الحركتين بأنه لا تفاوض بشأن أسرى الاحتلال بحوزتهما قبل وقف إطلاق النار بشكل كامل في غزة والانسحاب من كل المناطق المحتلة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، رافضتين أن يفرض المحتل سرديته الواهمة، وأن يسمحا له بأن يحقق بالهدن المؤقتة ما فشل في تحقيقه بالحرب دون ثمن مناسب.
عدم التزام الاحتلال بالهدن.. سجل مشين
لو سلمنا جدلًا بموافقة المقاومة على إبرام مثل تلك الهدن، فما الضمانات الخاصة بالتزام الاحتلال ببنودها وعدم خرقها؟ وهل يمكن لأي دولة ضامنة أو راعية لتلك الهدن أن تحاسب “إسرائيل” إذا خرقت مثل تلك الاتفاقيات؟ فالموافقة على هدن معروف مسبقًا ألا يلتزم بها الطرف الآخر هو مضيعة للوقت وافتقاد للحكمة وانبطاح دون ثمن، وهو ما لم يتوافر لدى فصائل المقاومة التي تمرغ أنف الاحتلال في الليل قبل النهار رغم فوارق الإمكانيات بينهما.
ولعل تعاطي الاحتلال مع الهدنة السابقة التي دُشنت بعد مرور أكثر من 46 يومًا من الحرب، تكشف عن الكثير من التوجهات الإسرائيلية وعدم احترام المحتل لأي اتفاقيات مبرمة، حيث خرق الجيش الإسرائيلي كل بنود الاتفاق مع حماس بشأن الهدنة المتفق عليها خلال أيامها الست من 24 حتى 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
عضو المكتب السياسي لحركة حماس عزت الرشق: نرفض الهدن المؤقتة والتهدئة المجتزأة، ولا مفاوضات إلا بوقف شامل للعدوان على #غزة pic.twitter.com/xTU4vigw9x
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) December 25, 2023
وقد شملت الهدنة وقف إطلاق النار من الطرفين ووقف كل الأعمال العسكرية لجيش الاحتلال بكل مناطق قطاع غزة، كذلك وقف حركة آليات الاحتلال العسكرية المتوغلة في القطاع، فضلًا عن وقف حركة الطيران فوق شمال غزة، وعدم التعرض أو اعتقال أحد في كل مناطق القطاع، وضمان حرية حركة الناس من الشمال إلى الجنوب على طول شارع صلاح الدين، ودخول شاحنات محملة بالمساعدات والوقود إلى قطاع غزة، ونشرت حماس أنه سيتم إدخال 200 شاحنة إغاثية يوميًا، إضافة إلى 4 شاحنات تحمل الغاز والوقود.
ورغم ذلك شهدت الهدنة منذ يومها الأول عشرات الخروقات، اعتقالات داخل القطاع، استمرار حركة الطيران الحربي والاستطلاعي، استهداف بعض المناطق، منع حركة التحرك والتنقل للفلسطينيين، عرقلة عملية تبادل الأسرى الفلسطينيين في بعض المراحل، وأخيرًا وما إن تسلم المحتل دفعته المقررة من الأسرى المحتجزين لدى حماس، وحقق غايته من الهدنة، عاود القصف مجددًا بشكل أكثر همجية ووحشية مما كان عليه في السابق.
هذا بخلاف استمرار حملات الاعتقال الممنهجة للفلسطينيين في الضفة والقطاع على أيدي سلطات الاحتلال خلال أيام الهدنة، بأعداد تبلغ أضعاف من تم تحريرهم من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وهو ما يفرغ هذا الأمر من محتواه وقيمته.
تجريد المقاومة من ورقة الأسرى.. هذا هو الهدف
تمتلك المقاومة العديد من أوراق الضغط لعل أبرزها الأداء الميداني الجيد وقدرتها على تكبيد الاحتلال الخسائر الفادحة على المستويات كافة وما لذلك من تأثير على الجبهة الداخلية والروح المعنوية لجيش الاحتلال، كذلك ورقة الأسرى والرهائن التي تشكل خنجرًا في ظهر الكيان المحتل وتدفعه نحو الرضوخ وتسول الصفقات بين الحين والآخر.
ومن هنا فإن هدف الاحتلال الأول وربما الأخير من وراء الهدن المؤقتة هو تحرير أسراه، دفعة تلو الأخرى، لحين تصفير هذا الملف بشكل كامل، وهي الإستراتيجية التي تدفع حكومة الاحتلال باتجاهها لتجريد المقاومة من تلك الورقة الضاغطة القوية، وإفراغها من واحدة من أهم أسلحتها في تلك الحرب غير المتكافئة.
الاحتلال الإسرائيلي يعترف بمقتل اثنين من جنوده في قصف خاطئ على مبنى في قطاع غزة كان داخله كتيبة إسرائيلية خلال الشهر الماضي
يُذكر أن هذه الحالة ليست الأولى من نوعها، إذ أقرّ الاحتلال قبل أيام بمقتل 3 من الأسرى الإسرائيليين في غزة عن طريق الخطأ ما يشير إلى وجود حالة من التخبط في… pic.twitter.com/D4Zew28BO5
— نون بوست (@NoonPost) December 26, 2023
ويعاني جيش الاحتلال وحكومته من ضغوط قوية في الداخل والخارج جراء فشله في تحرير الأسرى المحتجزين لدى المقاومة، فبعد التصريحات العنترية منذ بداية المعارك ووضع هذا الأمر على رأس أولويات الحرب المعلنة، يقف عاجزًا عن تحرير أسير واحد من قبضة حماس والجهاد، وعلى النقيض تمامًا أسفرت محاولاته لتحريرهم عن مقتل العديد منهم، وهو ما اعترف به بشكل علني، ما زاد من وتيرة الضغوط التي يواجهها من عائلات الأسرى على مدار الساعة.
ولم يجد نتنياهو وحكومته سبيلًا إلا الهدن المؤقتة لتحقيق هذا الهدف، أما ما دون ذلك من بنود أخرى فهي بالنسبة له مسألة شكلية لا قيمة لها، فهو يريد تجريد حماس من تلك الورقة حتى يتخلص من الضغوط الممارسة عليه، ومن ثم يمارس عملياته العسكرية الإجرامية دون رادع أو مقيد أو ضغط.
وفي الأخير.. يرى المتابعون للشأن الفلسطيني أن كل ما يُعرض من اتفاقيات بشأن صفقات وهدن مؤقتة، تستهدف في المقام الأول خدمة الأهداف الإسرائيلية، حيث تحرير الأسرى وتجريد المقاومة من أوراقها بهدف إضعافها تمهيدًا لإبعادها عن المشهد مستقبلًا، وهو الأمر الذي ترفضه حماس والجهاد بشكل كامل، يقينًا أن تلك الخطوة هي بداية تصفية القضية الفلسطينية بشكل كامل وتحويل القطاع الذي يمثل الشوكة الأكبر في ظهر الاحتلال إلى رام الله جديدة.