بدأت معالم استراتيجية أمريكية جديدة تظهر في سوريا بعد شهور من صد ورد الإدارة الأمريكية حول التطورات في سوريا وكيفية التعامل مع التعقيدات المتواجدة فيه من علاقة واشنطن بروسيا وإيران وتركيا والنظام السوري، وعدم وجود استراتيجية واضحة المعالم حيال التعامل مع الملف والمتدخلين فيه، وبعد تبدلات في المواقف الأمريكية ما بعد الضربة الأمريكية لمطار الشعيرات السوري وضربات أخرى تبعتها ضد النظام السوري في مناطق عدة.
من يرى التصريحات الأمريكية الأخيرة وتصريحات ترامب في مقابلاته التلفزيونية، يقول إن أي استراتيجية أمريكية قادمة ستصاغ وفق ثوابت أبرزها عدم القبول بالأسد وعدم السماح لروسيا بأخذ دور كبير في سوريا، ولكن ما جاء به موقع “دايلي بيست” الأمريكي أمور مختلفة تمامًا، حتى مواقف روسيا الأخيرة اختلفت مع تصريحاتها، وهي التي شاطت غضبًا بعد إسقاط القوات الأمريكية لطائرة السوخوي في سماء الرقة وقطعت على أثرها اللقاءات الثنائية بين وزيري الخارجية وأوقفت العمل باتفاقية وقف التصادم في سماء سوريا.
تترك واشنطن مهمة حفظ النظام لروسيا والحكومة السورية في المناطق التي تسيطر عليها، وسوف يتولى هذا العمل في المناطق الأخرى حلفاء أمريكا، مثل ” قوات سوريا الديمقراطية”
كل الخلافات الأمريكية الروسية السابقة، تبين أنه لا معنى لها بعدما بدأت موسكو تتلمس هدية واشنطن القادمة التي مهد تيلرسون لها في تصريحات له قبل أيام أن واشنطن مستعدة للعمل مع موسكو من أجل وضع آليات مشتركة في سوريا مثل مناطق حظر جوي، معتبرًا أن روسيا تتحمّل مسؤولية خاصة في التسوية السورية، وتأكيده أن من شأن نجاح التعاون بين البلدين في فرض الاستقرار على الأرض أن يمهد للمزيد من التعاون لتسوية مستقبل سوريا السياسي. بعد هذا تم إعلان الصفقة في أول لقاء لزعيمي البلدين بوتين – ترامب على هامش قمة مجموعة العشرين في هامبورغ الألمانية.
فواشنطن باتت مستعدة الآن للتخلي عن مطلب رحيل بشار الأسد، في إطار استراتيجية جديدة وضعها البيت الأبيض حيال الأزمة السورية. استراتيجية صاغها فيما يبدو جناح وزارة الخارجية الأمريكية بقيادة ريكس تيلرسون الرافض لفكرة رحيل الأسد وانغماس واشنطن في الصراع بسوريا مقابل تسليم زمام الأمور لروسيا، إذ أشار موقع “ديلي بيست” أن البيت الأبيض عمل على بلورة الاستراتيجية منذ عدة أشهر، ويشرف على هذه الجهود وزير الخارجية ريكس تيلرسون.
استراتيجية جديدة أم تنازلات جديدة!
أوضح موقع “دايلي بيست”، نقلا عن مصادر في الإدارة الأمريكية والكونغرس الأمريكي، أن الخطوط العريضة لهذه الاستراتيجية تشمل الموافقة على بقاء الأسد في السلطة إلى حين، وقبول فكرة موسكو وحلفائها حول إنشاء مناطق “تخفيف التصعيد” في سوريا، ونشر قوات للشرطة العسكرية الروسية في مناطق سورية خاضعة لسيطرة الحكومة السورية.
وتشير المصادر إلى أن البيت الأبيض قرر تقديم هذه “التنازلات” من أجل منع عودة “داعش” إلى المناطق التي يجري تحريرها، فالعنوان الأساسي للخطة الأمريكية الجديدة وفق “دايلي بيست”، هي إلحاق هزيمة نهائية بتنظيم “داعش”، والتعامل مع الفوضى المحتملة بعدها، حيث لفت الموقع إلى الدرس العراقي الذي يسعى الأميركيون لتجنبه في سوريا، بالتعاون مع الروس، إذ تعلم الأمريكيون من التجربة العراقية أن غياب قوة تحفظ الأمن والنظام على الأرض يفسح المجال أمام انبعاث التنظيم مجددًا وهذا يفرض وجود قوات تمسك بزمام الأمور على الأرض وتمنع انبعاث التنظيم مرة أخرى.
وفيما تترك واشنطن مهمة حفظ النظام لروسيا والحكومة السورية في المناطق التي تسيطر عليها، سوف يتولى هذا العمل في المناطق الأخرى حلفاء أمريكا، مثل ” قوات سوريا الديمقراطية”، بمعنى أن واشنطن لن تسلم الأراضي الخارجة على سيطرة “داعش” إلى نظام الأسد، التي يسيطر عليها نظام الأسد، فستنتشر فيها الشرطة العسكرية الروسية على غرار ما حدث في حلب. وأضاف المسؤول نفسه أن قوات تركية قد تنتشر أيضًا إذا لزم الأمر.
لا خطة أمريكية حتى الآن سوى التسليم بالفاعل الروسي والتنسيق معه سياسيًا وعسكريًان وهو استمرار لسياسية إدارة الرئيس السابق أوباما.
جميع النقاط المذكورة في الخطة تتضمن إذعانًا بشكل أو بآخر لطريقة إدارة روسيا للملف السوري عبر مباحثات أستانة، بحضور كل من إيران وتركيا وحضور رمزي للولايات المتحدة، فبعد فشل مؤتمرات لجنيف يبدو أن مباحثات أستانة التي وصلت حتى الآن للجولة الخامسة أقرت إنشاء مناطق “خفض تصعيد” لتسهيل عودة اللاجئين وتأمين المساعدات وإعادة الخدمات الإنسانية، ترى النجاح بعد إبداء واشنطن موافقة عليها عبر الاستراتيجية الجديدة لها، مع العلم أن خفض التصعيد لم ينجح بشكل كبير حتى الآن.
تصريحات بوتين الأخيرة الصادرة في ختام قمة العشرين بهامبورغ أمس، وصف فيها الموقق الأمريكي حول سوريا بأنه أكثر براغماتية مما سبق، وأضاف بوتين أن هذا يعد أحد الاختراقات التي تمكنا من إنجازها ونتيجة حقيقية للعمل مع الولايات المتحدة، كما أشاد بوتين بالاتفاق الذي تم التوصل إليه حول وقف إطلاق النار في الجنوب السوري ويشمل كل من درعا والسويداء والقنيطرة، والذي سيبدأ منتصف هذا اليوم الأحد 9 يوليو/تموز والذي يشير محللون أنه يحظى بفرص نجاح أكبر من سابقه لدعمه من قبل الأردن و”إسرائيل”.
البيت الأبيض قرر تقديم هذه “التنازلات” من أجل منع عودة “داعش” إلى المناطق التي يجري تحريرها
إذ أكدت صحيفتين إسرائيليتين اليوم الأحد أن “إسرائيل” كانت طرفًا في المفاوضات والمباحثات التي جرت في الأردن وأفضت إلى إعلان اتفاق ثلاثي بين الأردن وروسيا وأمريكا حول وقف إطلاق النارفي جنوبي غربي سوريا.
كما أن واشنطن اعتبرت الهدنة في الجنوب بمثابة “أول نجاح” لها في تنسيقها مع روسيا في سوريا، حسب تصريحات لوزير الخارجية الأمريكي تيلرسون، ويتماهى مع هذا التصريح أيضًا ما قاله “ماكماستر” مستشار الأمن القومي الأمريكي، من أن وقف إطلاق النار في جنوب غرب سوريا “خطوة تبعث على الأمل” وأنه “بادرة مشجعة”.
أثر استراتيجية أمريكا الجديدة على الملف السوري
لو أمكن وضع أولويات الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، فإنها ستتلخص في القضاء على “داعش” بالدرجة الأولى، والتعاون مع روسيا في الملف السوري والاعتراف بدورها الفاعل هناك، واعتماد ما تمخض عن مسار أستانة من مناطق لخفض التصعيد ووقف إطلاق النار ومراقبين في المناطق العازلة، ومن ثم بقاء الأسد إلى أمد معين لحين بلورة عملية انتقال سياسية للسلطة. وقد توجت هذه الاستراتيجية في اتفاق ثلاثي “روسي أمريكي أردني” و”إسرائيل” كطرف آخر غير معلن عنه، حول وقف إطلاق النار في جنوب غرب سوريا في أول لقاء بين ترامب وبوتين في قمة العشرين بهامبورغ، ونجاح هذا الاتفاق سيكون بمثابة نجاح للاستراتيجية الأمريكية المفترضة، أو بالأحرى اختبار حقيقي لها على الأرض.
يبقى القول الواضح أن موسكو جادة في إيجاد حل ما في سوريا لإدراكها أن الاستمرار هو استنزاف لها، بينما واشنطن منذ البداية لازالت تعول على عامل الوقت لخلق واقع جديد.
مراقبون لايزالون يقرأون في تسليم أمريكا لروسيا إدارة الصراع في سوريا بأنه توريط لروسيا في المستنقع السوري، لكن على النقيض بالنسبة لروسيا إذ لا يظهر أي مؤشر على أن بوتين يرى أنه يجر بلاده باتجاه المزيد من التورط في المستنقع السوري، بل على العكس من ذلك، فالروس يراهنون على استثمار ذلك التورط باتجاه إحكام أكبر قدر ممكن من السيطرة على سوريا، وما حصل عليه الروس في جنوب غرب سوريا هو إقرار بحاجة أمريكا لروسيا في سوريا بشكل جلي وواضح.
ويرى محللون في الشأن السوري أن هذه الاستراتيجية لا جديد فيها، وأن الموقف الأمريكي لا يزال مسلّم لروسيا في إدارة الملف السوري، وهو ما يشير إلى عدم وجود ملامح استراتيجية أمريكية متكاملة كما يرى الباحث السوري في الإدارة المحلية منير الفقير، الذي يقول لنون بوست أن عناصر هذه الاستراتيجية تؤكد على تسليم الأمريكان للروس في إدارتهم للأوضاع السورية برؤية روسية لشكل الصراع ومآلاته، والقائم على وقف إطلاق النار وفق حدود “مناطق خفص التصعيد”، وتعيد تأهيل الأسد وتمكينه ضمن ما يسمى “سوريا المفيدة” وبقاءه في المدى المنظور ضمن تلك المناطق.
لا يظهر أي مؤشر على أن بوتين يرى أنه يجر بلاده باتجاه المزيد من التورط في المستنقع السوري، بل على العكس من ذلك، فالروس يراهنون على استثمار ذلك التورط باتجاه إحكام أكبر قدر ممكن من السيطرة على سوريا
أما في المناطق الباقية، فقد بدأ العمل بين الروس والأمريكان ابتداءًا من الجنوب السوري الذي يُقال أنه سيذهب إلى استقرار دائم، كما سيكون مصير الشمال السوري مشابه لذلك بالتنسيق والتعاون مع تركيا. فيما تكون مناطق شرق سوريا التي تضم الرقة آخر معقل “داعش الرئيسي في سوريا، والتي ستشهد توزيع لتركة “داعش” بين الأكراد حلفاء أمريكا والنظام السوري، كما يقول الفقير لنون بوست. ويرى الفقير أن هناك عملية تقليص لدور إيران في المنطقة وبسوريا بالذات بضمانة روسية أمام أمريكا، لإظهار قدرتهم على حكم المشهد السوري، بما يليق بمكانة الشراكة المأمولة مع الأمريكيين.
أما معن طلاع وهو باحث سياسي في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، يقول لنون بوست أن الترحيب بهذ بالاتفاق في جنوب غرب سوريا الذي يعد أحد تجليات الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في سوريا كما جاء في الصحف الأمريكية، لن ينعكس إيجابًا على وقف إطلاق نار حقيقي على الأرض وهدنة وتحسين للظروف المعيشية وغير ذلك، لأن هذا الاتفاق الذي يقوم على توافق مع روسيا هو في جله اتفاق سياسي وليس معنيًا ليطبق على الأرض من عدمه. ويرى طلاع أن احتمالية نجاح هذا الاتفاق واردًا جدًا وذلك لثلاثة أسباب، أولها أنه لا خطة أمريكية حتى الآن سوى التسليم بالفاعل الروسي والتنسيق معه سياسيًا وعسكريًا، وهو استمرار لسياسية إدارة الرئيس السابق أوباما.
ويتابع طلاع لنون بوست أن العامل الثاني لنجاح هذا الاتفاق، هو” إسرائيل” إذ بات معروفًا أن معادلات أمن إسرائيل هي معادلات أكثر رسوخًا بالمعنى السياسي وأكثر حظًا في تطبيقها. أما العامل الثالث، فهو أن هذا الاتفاق متسق مع ما قام به الروس منذ تدخلهم في سوريا.
الاستراتيجية الأمريكية هي تأكيد على تسليم الأمريكان للروس في إدارتهم للأوضاع السورية برؤية روسية لشكل الصراع ومآلاته والقائم على وقف إطلاق النار وفق حدود مناطق خفص التصعيد وتعيد تأهيل الأسد وتمكينه ضمن ما يسمى “سوريا المفيدة” وبقاءه في المدى المنظور ضمن تلك المناطق.
الدكتور باسل الحاج جاسم، وهو باحث سياسي سوري، يقول لنون بوست بأن هذه الاستراتيجية نابعة من أمن “إسرائيل” وهو الثابت الوحيد في أي تحرك اميركي جدي حيال سوريا، وبالأخص بعد ثبات دور إسرايلي في وقف إطلاق النار في جنوب غربي سوريا، وباقي الامور قابلة للمساومة. أما تموضع المعارضة السورية سواءًا العسكرية أو السياسية في هذه الاستراتيجية فلا يزال ضعيف وسيضعف أكثر لاحقًا، في ظل اعتماد واشنطن على ميليشيات الامتداد السوري للعمال الكردستاني كما كان سائدًا في إدارة أوباما للملف السوري.
ويتابع الجاسم في حديثه لنون بوست، يبقى القول الواضح أن موسكو جادة في إيجاد حل ما في سوريا لإدراكها أن الاستمرار هو استنزاف لها، بينما واشنطن منذ البداية لازالت تعول على عامل الوقت لخلق واقع جديد.