ترجمة وتحرير: نون بوست
هل ستندلع معركة على الموارد المائية بين سكان داكار ودول الخليج؟ يتم تزويد عاصمة السنغال بنصف ما تحتاجه من إمدادات المياه العذبة من الاحتياطي الوحيد في الإقليم، وهي بحيرة “دي جوير” التي تقع على بعد 260 كيلومترًا. وتكمن المشكلة في أن مياه هذه البحيرة تُستخدم أيضًا لريّ حقول قش البرسيم التابعة لشركة الزراعة الإفريقية التي تخطط لزيادة إنتاجها من أجل شحن 70 بالمئة منه إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وذلك حسب ما ذكرته وكالة بلومبرغ. في المقابل، يندّد السكان والجمعيات بهذا النهب المحض لمواردهم المائية لصالح قوى أجنبية.
يقف وراء هذا الخلاف مسألة الأمن الغذائي للممالك النفطية، التي تحتاج إلى البرسيم لتغذية مواشيها في ظل نقص الإنتاج المحلي. تمتلك دول الخليج أراضي غير ملائمة للزراعة حيث ترتفع درجات الحرارة ما بين 40 و50 درجة مئوية، فضلا عن أن احتياطيات المياه منخفضة للغاية، وفقط القليل من هذه الأراضي صالحة للزراعة – ما يعادل 1.6 بالمئة من مساحة السعودية، و0.4 بالمئة من مساحة الإمارات، و1.1 بالمئة من مساحة قطر. ويؤكد رئيس مؤسسة “فارم” ماتيو برون أن “ريّ هكتار واحد من الأرض يتطلب في المتوسط كمية مياه من مرتين إلى ثلاث مرات أكثر من الكمية المعتمدة للري في المناطق المعتدلة”.
اعتماد كامل تقريبًا
حظرت السعودية زراعة البرسيم المروي بعد أن دعمت لسنوات البنية التحتية لضخّ المياه الجوفية، التي استنفدت مواردها المائية تقريبًا. ومن الصعب أن نتصور اليوم أن المملكة، التي تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي، كانت حتى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مصدرًا رئيسيًا للقمح قبل أن تقلّص إنتاجها تدريجيًا.
حسب سيباستيان أبيس، المدير العام لنادي التفكير في الزراعة “ديميتر”، “بات يتوجّب على هذه البلدان إطعام المزيد والمزيد من السكان مع تزايد التنويع الغذائي بسبب تحسّن مستويات المعيشة في المنطقة خلال الخمسين سنة الماضية”.
كما أدى وجود العمال الأجانب وتدفق السياح إلى تزايد الاحتياجات. وتعتمد كل من الرياض وأبوظبي والدوحة على الواردات الأجنبية لإطعام سكانها بنسبة تتراوح بين 70 و90 بالمئة. وأصبحت الحاجة الملحة للحصول على الاستقلال الغذائي أكثر إلحاحًا بعد الأزمة الغذائية لسنة 2008، نتيجة تضخّم أسعار المنتجات الزراعية وأعمال الشغب بسبب الجوع في جميع أنحاء العالم.
البترودولار في سهول أوكرانيا
في مواجهة التضخّم ومخاطر العجز، استثمرت الأنظمة الملكية النفطية بشكل كبير في الأراضي والمشاريع الزراعية في الخارج. وقد أوضح ماتيو برون أن هذه الاستراتيجية تهدف إلى “إعادة توطين مصادر اكتفائهم الذاتي الغذائي لتأمين إمداداتهم”، مع الحفاظ على السيطرة على الإنتاج. وفي المملكة العربية السعودية، اتخذ الملك عبد الله سلسلة من التدابير في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لتحفيز الاستثمار. وكثر استثمار البترودولار في السودان، وإثيوبيا، والفلبين، وفي المزارع في كاليفورنيا، والأرجنتين، وحقول القمح في أوكرانيا وبولندا.
جنون الشراء والتوتّرات المحلية
في دولة الإمارات العربية المتحدة، تنتج شركة جنان العامة للاستثمار الزراعي في الخارج الأعلاف المخصصة للحيوانات، كما استحوذت على أراضي في مصر وباكستان وموزمبيق. وفي قطر، يدير الصندوق السيادي، جهاز قطر للاستثمار، جميع الاستثمارات الأجنبية تقريبا عبر شركة “حصاد” الغذائية (برأس مال قدره مليار دولار). وتمتلك الشركة 13 مزرعة كبيرة في أستراليا (مخصصة لتربية الأغنام وإنتاج القمح)، و100 ألف هكتار في السودان، و40 ألف هكتار في كينيا.
لكن تنفيذ هذه السياسات شابته الإخفاقات. أوضح ماتيو برون أن “العديد من مشاريع الأراضي لم تر النور في نهاية المطاف”. وقد واجه جنون الشراء هذا في الخارج احتجاجات محلية، خاصة في شرق أفريقيا. ووفقا لبرون، يعود ذلك إلى “الصراعات الإقليمية، والافتقار إلى البنية التحتية والقوى العاملة، وتكاليف المعاملات المرتفعة للغاية …”.
كما هو الحال في السنغال، سُلطت الأضواء على مسألة استعانة دول الخليج بمصادر خارجية للإنتاج الزراعي حيث يتم اتهامها باحتكار الموارد. ومؤخرًا، تم إلغاء تصريح تشغيل لمزرعة ترفع العلم السعودي في ولاية أريزونا (الولايات المتحدة) لأنها كانت تستخدم المياه الجوفية في الولاية لإنتاج البرسيم. وتعد المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة المستوردان الرئيسيان للبرسيم الأمريكي بعد الصين.
الاستراتيجية المالية
يبدو أن حجم احتياجات الخليج يؤثّر بالأسواق. وحسب مارك ديبي، رئيس مكتب الأبحاث المخصص للعالم الزراعي، “كان لتطورات هذه السياسات عواقب ملموسة من خلال تعريض القطاعات الزراعية في بعض الأحيان للخطر، وخاصة صغار المنتجين في المناطق دون الإقليمية”. وفي سنة 2016، نتج عن توقف زراعة البرسيم في السعودية زيادة الطلب، مما أدى إلى ارتفاع سعره إلى ثلاثة أضعاف ما منع منتجي الحليب، خاصة في مصر، من الحصول على الإمدادات.
في مواجهة الصعوبات، اعتمدت الأنظمة الملكية النفطية استراتيجيات أخرى. عموما، تستحوذ الصناديق السيادية بشكل متزايد على حصص في الشركات الزراعية الأجنبية على طول سلسلة القيمة. بالنسبة لقطر، تستثمر شركة “حصاد” الغذائية في جميع أنحاء العالم في صناعة الأغذية الزراعية وفي البنية التحتية للتصدير. في سنة 2022، استحوذت الشركة السعودية للاستثمار الزراعي والإنتاج الحيواني (سالك) على 35 بالمئة من شركة “أولام” الزراعية، الفرع الزراعي والغذائي لمجموعة “أولام”، عملاق التجارة الدولية ومقرّها في سنغافورة. وفي سنة 2020، استحوذت شركة أبوظبي القابضة على 45 بالمئة من شركة “لويس دريفوس”، إحدى الشركات الرائدة في العالم في مجال الزراعة وتجارة الحبوب.
ومن جهتها، تعتمد الإمارات على التكنولوجيا لتطوير إنتاجها الوطني. وقد استثمرت أبوظبي، من خلال حاضنة أعمال، أكثر من 150 مليون دولار في شركات التكنولوجيا الزراعية الناشئة، على غرار مشروع مشترك بين شركة الإمارات لتموين الطائرات وشركة “كروب وان” الأمريكية لإنشاء مزرعة بوستانيكا، أكبر مزرعة عمودية في العالم التي تقع بالقرب من مطار دبي.