لا أفكر الآن في البحث عن أسباب تعاطفي مع قناة الجزيرة التي أشعر وكأنها صديقة المرعى في الطفولة، وأستاذة الفصل في المدرسة، وصوت الحبيبة على سماعة الهاتف، الصديقة والقصيدة، الأم والبيت والوطن، صوت الأب الغاضب في وجه الأحمق الذي أبكى الولد، كما وسلاح المقاوم في الحرب، عنفوان الثائر في الشارع، أغاني الفلاح في الحقل، ذاكرة الأدباء ومذكرات السياسيين، يد ومخالب المستضعفين، إطعام الجائعين، وهي كذلك صراخ الحقيقة والحق في وجه الزيف والباطل.
استفزني طلب إغلاقها، أصابني بحمى القهر، جعلني أهذي بعبارات غامضة وأبيات شعر تغني لمليكة الإعلام العربي وتأخذ بيدي إلى قصيدة عربية تقف بجانب القناة الكريمة التي وقفت إلى جانب كرامة الإنسان العربي.
الجزيرة التي ترفع علم فلسطين في وجه الاحتلال الصهيوني في يد، وبالأخرى عراقة العراق، وشهامة الشام، لهجة مصر، وبهجة تونس، وجع ليبيا، وجوع اليمن، وبجع سواحل دول المغرب العربي، كلما حاولت أن أتجاهل قصة الإغلاق، تخيلت قفلًا فولاذيًا في فمي، وصخرة جاهلية على صدر كلماتي وهي تئن على الرمضاء وتشهق أحد أحد.
يقال إن دولة الإمارات أنفقت على قناة اسمها «سكاي نيوز» أضعاف ما أنفقته دولة قطر على قناة الجزيرة، ولكن 90% من المشاهدين العرب لا يعرفون تردد «سكاي نيوز» يعجز بعضهم عن نطق اسمها لذلك يريدون إسكات الجزيرة.
كانت مهمة قناة الجزيرة البحث عن الآراء المخالفة، فقبل إنشاء قناة الجزيرة، كانت هناك قنوات إخبارية كثيرة لكنها لم تبث سوى آراء حكوماتها. في أوائل أيامها، يبدو أن قناة الجزيرة كانت تحاول أن تكون منصفة ومتوازنة: شعارها كان «الرأي والرأي الآخر» وحاولت الحفاظ على الموضوعية. لذلك كانت شعبية وحتى محبوبة لدى الشعب العربي ولكن تغيرت الأمور بسرعة وكما معروف «منصفة ومتوازنة» شعار فوكس نيوز، وهذه القناة ليست منصفة ولا متوازنة، وللأسف، تغيرت قناة الجزيرة وأصبحت متحيزة مثل القنوات الأخرى.
قناة الجزيرة تنقل الخبر الجاد والصادق، وقنواتهم ترفيهية مبتذلة تدعو إلى الإلحاد والانحراف والتسبيح بحمد الحكام، قناة الجزيرة هي قناة الشعوب، تنقل الرأي والرأي الآخر، وقنواتهم هي قنوات الحكام، لا تنقل إلا رأي الحكام، ولا تبث إلا ما يرضي الحاكم، ولا تستضيف من يخالف الحاكم أو يعارضه أو يغضبه، قناة الجزيرة وقفت بكل مهنية مع ثورات الربيع العربي، ضد الأنظمة القمعية والرجعية الشمولية، لذلك يريدون إسكاتها.
خلال فترة الثورات، تلقت الجزيرة انتقادات أكثر لأنه أصبح من الواضح أنها بدأت أن تكون متحيزة في بعض الدول، مثلًا كانت هناك تقارير يقال إنها كانت تدعم الجيش الحر السوري بتكنولوجيا الأقمار الصناعية. أما في البحرين فقد كانت قناة الجزيرة متحيزة أكثر لحكومة البحرين ضد الشعب ولم تدعم الثورة البحرينية لأن الثوار كانوا شيوعيين والحكومة القطرية السنية (ولذلك قناة الجزيرة) دعمت الحكومة البحرينية السنية. أيضًا في مصر في صيف 2016، قيل إنها كانت تستخدم مقاطع فيديو قديمة لتشجيع المزيد من الصراع، في ذلك الصيف، قيل أيضًا إن قناة الجزيرة فقدت مصداقيتها بشكل كبير ما جعلها تفقد شعبيتها وبريقها لدى الشعب العربي، في وقت تصدر برنامج الحصاد الذي بثته الجزيرة أكثر البرامج مشاهدة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
الجزيرة التي عادتها أمريكا فقتلت طارق أيوب ورشيد حميد والي وأطوار بهجت، وعاداها نظام القذافي فقتل علي حسن جابر، وعاداها نظام الأسد فقتل محمد الحوراني وحسين عباس ومحمد القاسم ومهران الديري ومحمد الأصفر وأحمد كريم المسالمة وزكريا إبراهيم، وعادت الاحتلال الروسي لسوريا ففقدت إبراهيم العمر ودفعت ثمن تغطيتها المهنية في اليمن ففقدت مبارك العبادي، هذه جزيرة الشهداء التي يريد العملاء العبث بها.