يطوي السودانيون عام 2023 بآلامٍ ربما لم يكن يتوقعونها في أسوأ كوابيسهم، إذ اندلعت في الربع الثاني منه حربًا مدمرةً يفترض أن طرفيها القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، إلا أنّها استهدفت المواطنين السودانيين بشكل خاص.
أكبر كارثة إنسانية في عام 2023
خلال الأشهر الثماني الماضية، فقد أكثر من 12 ألف مواطن سوداني حياته، وأُجبر أكثر من 7 ملايين شخص على مغادرة منازلهم في أكبر موجة نزوح ولجوء يشهدها العالم حاليًّا، وفوق ذلك ارتكبت “الدعم السريع” جرائم مروعة كالقتل على أساس عرقي كما حدث في غرب دارفور، بالإضافة إلى جرائم الاغتصاب واختطاف النساء في الخرطوم ودارفور والجزيرة وغيرها، فضلًا عن نهب وتدمير آلاف الشركات والمصانع والمؤسسات الخدمية ومنازل المواطنين، ما دفع وزير الخارجية الأمريكي إلى اتهامها بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية وتطهير عرقي”.
الاتفاق الإطاري.. محاولة للتسوية قبل الحرب
في 5 ديسمبر/كانون الأول 2022 وقّعت بعض المكونات المدنية مع العسكريين اتفاقًا سياسيًا أُطلق عليه اسم “الاتفاق الإطاري”، أثار بعض التفاؤل بإمكانية استعادة المسار نحو الانتقال الديمقراطي الذي توقف عقب وقوع انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 الذي نفذه المكون العسكري في مجلس السيادة الانتقالي على شركائه من القوى المدنية.
لكن الاتفاق الإطاري واجه أيضًا انتقادات ورفضًا من لجان المقاومة التي قادت الحركة الاحتجاجية الواسعة الرافضة للانقلاب، إذ أكّدت أنها “لن تقبل بأي مساومة تُبقي على القتلة وخائني العهود في المشهد السياسي”، وأضافت في بيانٍ أنها ستواصل مواكبها السلمية ضد الانقلاب العسكري وضد أي تسوية سياسية تقود إلى شرعنته.
وصفت الباحثة خلود خير – آنذاك – الاتفاق الإطاري أنه اتفاق بين تحالفَين ضعيفَين: الأول يتألف من القوى المؤيدة للانقلاب بقيادة اللجنة الأمنية التابعة للرئيس المخلوع عمر البشير، التي أدركت أنها غير قادرة على حكم بلد يعاني من أزمات اقتصادية وسياسية وعسكرية، معظمها من صنعها، والثاني يتمثل في معسكر منقسم مؤيد للديمقراطية ويفتقر إلى دعم قاعدته الانتخابية الرئيسة، أي المحتجين الذين قادوا الانتفاضة ضد البشير، ويرون الاتفاق على أنه محاولة فاشلة لإرساء حكم مدني.
وقد شهدت الفترة من ديسمبر/كانون الأول 2022 وحتى تاريخ اندلاع الحرب 15 أبريل/نيسان 2023، جدلًا بين المؤيدين والرافضين للاتفاق الإطاري، وحتى بين الأطراف الموقعة عليه خاصة الجيش والدعم السريع، في شأن قضية دمج الدعم السريع في القوات المسلحة السودانية لتأسيس جيش وطني موحد وفق ما نص عليه الاتفاق.
الحرب أولها كلام
قبل 15 من أبريل/نيسان 2023، تصاعدت الحرب الكلامية في السودان بين جناحي المؤسسة العسكرية: الجيش بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي).
أكد الباحث السوداني في الشؤون الإفريقية عباس محمد صالح أن مسألة الإصلاح الأمني ودمج قوات الدعم السريع كانت قضية مطروحة بقوة في الساحة السياسية وفي قلب الصراع السياسي قبل الحرب.
وأوضح في تصريح خاص لـ”TRT عربي” أن الاتفاق الإطاري وسع الفجوة بين المكون العسكري والقوى المدنية، وأطلق صراعًا محمومًا على السلطة بين هذه الأطراف.
ويمضي محمد صالح بالقول إنه بينما “تمسك الجيش السوداني بدمج كل القوات والمليشيات في مؤسسة القوات المسلحة، وتحديدًا دمج قوات الدعم السريع في غضون عامين، حاول قائد الدعم السريع تجنب ذلك من خلال التحالف مع مجموعات مدنية طارحة أن تكون عملية الدمج 10 سنوات”.
60 مليار دولار خسائر مادية
وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة أسفر الصراع في السودان عن مقتل 12 ألف شخص، وتشريد 7 ملايين داخل وخارج السودان، وخسائر مادية تقدر بـ60 مليار دولار.
كما ألحق أضرارًا هائلة بالبنية التحتية والمرافق العامة، ما عطَّل خدمات أساسية، خاصة في القطاع الصحي، وسط انتشار واسع للوبائيات، مثل الملاريا وحمى الضنك، وخرجت نحو 70% من المستشفيات عن الخدمة، كما يعاني البعض الآخر من نقص حاد في شرائح فحص الفيروسات، ما أدى إلى وقف التبرع بالدم، رغم حاجة مرضى الحوادث وإصابات الحرب وبعض الأمراض إليه.
#Sudan’s worsening conflict is playing out before our eyes, which in just 8 months has:
– displaced 7m people, 1.5m of whom have fled into neighbouring countries;
– forced 70% of health facilities in conflict-affected areas to close or drastically cut services;
– left 11m…
— Tedros Adhanom Ghebreyesus (@DrTedros) December 25, 2023
وحذرت الأمم المتحدة من أن الأُسر في مناطق النزاع بالسودان قد تواجه ظروفًا شبيهةً بالمجاعة بحلول الصيف المقبل، بينما يعيش البعض في العاصمة الخرطوم المنكوبة بالحرب على وجبة واحدة هزيلة يوميًا.
وتقول الأمم المتحدة إن نحو 30 مليون شخص، أي أكثر من ثلثي السكان، باتوا يحتاجون للمساعدة، وهو ضعفا العدد قبل اندلاع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل/نيسان.
وقال إيدي روي مدير مكتب برنامج الأغذية العالمي في السودان: “المزيد والمزيد من الناس يكابدون من أجل تناول وجبة أساسية يوميًا، وإذا لم يتغير الحال فهناك خطر حقيقي للغاية أنهم لن يمكنهم حتى تناولها”.
الدعم السريع تعمدت إفقار المواطنين
قد يستغرب البعض من كيفية تهديد المجاعة لبلدٍ كان يعرف في يوم من الأيام بـ”سلة غذاء” العالم، إلا أن المراقب للصراع في السودان يستطيع معرفة الأسباب، فقوات حميدتي تعمدت إفقار المواطنين السودانيين بنهب أموالهم وممتلكاتهم القيمة مثل الذهب والسيارات، ومصادر رزقهم مثل المحال التجارية والبضائع والشركات في الخرطوم ودارفور وأخيرًا في ولاية الجزيرة.
يروي آلاف السودانيين كيف أن مليشيا الدعم – التي تضم عددًا غير قليل من المرتزقة الأجانب – نهبت ما بنته عائلاتهم خلال عقود طويلة من الكفاح والاغتراب، ليجدوا أنفسهم لا يملكون شيئًا مما بنوه وادخروه لسنوات طويلة.
My parents toiled for 40 years to lose it all in the blink of an eye.
Their one and only home on this planet. Gone. https://t.co/aXWypfIR4K
— Munchkin (@BSonblast) December 24, 2023
مؤخرًا في ولاية الجزيرة، وسط السودان، نهب جنود الدعم السريع بعد اجتياحهم الولاية كل شيء تقريبًا، السيارات والأسواق والذهب والأموال والهواتف الذكية في العاصمة ود مدني والمدن والقرى المحيطة بها.
قال أحد سكان بلدة العيكورة بولاية الجزيرة وسط السودان: “أفراد قوات الدعم السريع نهبوا كل شيء؛ السيارات وعربات نقل التجارة والجرارات”، رافضًا كشف هويته لـ”فرانس برس” خشية انتقام هذه القوات التي تتقدم نحو جنوب البلاد.
نزوح للمرة الثانية خلال عام واحد
في الولاية ذاتها، لا يختلف الوضع في مدينة الحصاحيصا على مسافة 50 كيلومترًا شمال مدينة ود مدني مركز الولاية، إذ قال عابدين الذي اكتفى باسمه الأول للأسباب نفسها: “السبت طرق باب البيت 7 أفراد يرتدون زي قوات الدعم السريع ويحملون أسلحة رشاشة وسألوا عن سيارة وضعها أحد معارفنا في منزلنا بعدما نجح في إخراجها من الخرطوم”، مضيفًا “أخذوها تحت تهديد السلاح”.
وفي 15 ديسمبر/كانون الأول الماضي، هاجمت الدعم السريع ود مدني، ما دفع 300 ألف شخص إلى النزوح مجددًا بعدما جاؤوا إلى المدينة إثر اندلاع القتال في الخرطوم، وقد اضطروا للقيام برحلة نزوح ثانية ومعهم عدد مقدر من سكان ولاية الجزيرة نفسها.
On a countryside road in battle-ravaged Sudan, the hum of a passing vehicle turns villagers’ blood cold, fearing the arrival of paramilitaries plundering their way south in their war against the army ➡️ https://t.co/Tis1eh8PO8 pic.twitter.com/IDz9QeXWix
— AFP News Agency (@AFP) December 25, 2023
وحيثما تمر قوات الدعم السريع، ينتاب الرعب السيدات والفتيات من التعرض “لعنف جنسي” وهو تهديد متكرر في هذه الحرب، بحسب ما تقول منظمة رعاية الأطفال “سايف ذا تشيلدرن”.
وفي سوق الحصاحيصا، شاهد صحفي في “فرانس برس” أبواب المحال التجارية مفتوحة والبضائع مبعثرة، وقال عمر حسين (42 عاما) الذي تمتلك أسرته متاجر في السوق “هل جاءت قوات الدعم السريع لمحاربتنا نحن كمواطنين أم لقتال الجيش؟”، مؤكدًا أن أسرته فقدت كل تجارتها “بعدما تم نهب محلاتها وسياراتها”.
19 مليون طفل دون تعليم
الثمانية أشهر الماضية من القتال بين الجيش السوداني والدعم السريع أدت إلى ترك أكثر من نصف البلاد في حاجة إلى مساعدات إنسانية وأجبرت نحو 7 ملايين شخص على ترك منازلهم، و19 مليون طفل دون تعليم، فقد أدى الصراع إلى إغلاق آلاف المدارس.
قال الشافعي محمد أحمد من لجنة الإنقاذ الدولية، لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية: “لقد أصبح السودان أكبر أزمة نزوح في العالم، فضلًا عن عدم القدرة على إيصال المساعدات الإنسانية والأموال، المحدودة بالفعل، بسبب الاستقطاب العرقي والقبلي والإقليمي للحرب الحاليّة”.
وذكرت وكالة “فرانس برس”، أن تشاد، وهي دولة تقع في وسط إفريقيا وثاني أقل البلدان نموًا في العالم وفقًا للأمم المتحدة، استضافت أكبر عدد من اللاجئين السودانيين، حيث فر إليها الآلاف ووجدوا ملاذًا في مخيمات مكتظة مثل مخيم أدري.
آمال ضئيلة مع بشائر عام 2024
ومع خواتيم 2023 التي كانت أصعب سنة تمر على السودانيين، يأمل كثيرون في أن تنجح جهود الوساطة التي تقودها الهيئة الحكومية للتنمية (الإيقاد) لعقد لقاء مقترح في جيبوتي الخميس القادم بين قائد الجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في إيجاد حل سلمي للصراع.
#عاجل مصادر “الشرق”: الإيجاد تحدد الخميس في 28 ديسمبر موعداً للقاء البرهان وحميدتي في جيبوتي #اقتصاد_الشرق https://t.co/8Rurl6IfIe
— الشرق عاجل Asharq Breaking (@AsharqNewsBrk) December 26, 2023
لكنّ الباحث في العلاقات الدولية أحمد زمراوي بدا غير متفائل بالتوصل إلى اتفاق بين البرهان وحميدتي في الوقت الحاليّ، مشيرًا في حديث خاص لـ”نون بوست” إلى أنه حتى لو تم توقيع اتفاق سيكون اتفاقًا لحسن النوايا أو وقف إطلاق النار، لكن التحشيد العرقي سيستمر بعد أن تحولت الأزمة من صراع على السلطة بين رجلين إلى حالة من التحشيد العنصري والتحشيد العنصري المضاد.
الدامر تحشد استعدادا لمواجهة مليشيا الدعم السريع المتمردة pic.twitter.com/dzZ5ZIlELl
— Sudan Plus سودان بلس (@SudanPlusNews) December 23, 2023
وقال: “هناك مخاوف من زيادة السيولة الأمنية وأعمال النهب والاستقطاب العنصري ما لم يحدث تدخل قوي من المجتمع الدولي وهذا غير متوقع حاليًّا، نسبة لانشغال المجتمع الدولي بالأزمة في غزة، إلى جانب الصراع في أوكرانيا وانشغال إدارة بايدن بمعركة الانتخابات القادمة.. فالسودان لا يشكل أولوية لصناع القرار العالميين”.
تمنّى زمراوي في ختام حديثه لـ”نون بوست” أن يتوصل الاجتماع المرتقب إلى اتفاق يخفف على الأقل الأوضاع الرهيبة التي تسبب فيها القتال ومنع تمدده إلى مناطق أخرى، موضحًا أن تلك الخطوة يمكن أن تؤسس إلى وقف دائم لإطلاق النار في العام القادم 2024، يمهد إلى إحلال السلام ووقف التشرد وإعادة النازحين إلى ديارهم.