لم يكن 2023 عامًا فضفاضًا على جميع السوريين، فالبلاد التي تعيش حالة حرب متواصلة منذ عقد وأكثر لا تجد سبيلًا للخلاص من ديكتاتورية طاغية، وسط تجاذبات سياسية إقليمية وعربية غيرت من مواقفها إزاء أطراف النزاع، ما أسهم في تلاشي الأمل بالتوصل لحل بأي شكل كان.
شهدت الساحة السورية هذا العام، جملةً من الأحداث والتطورات، بدأت بكارثة زلزال 6 فبراير/شباط الماضي التي استُغلت لإعادة نظام الأسد للجامعة العربية بعد موجة تطبيع عربي، بينما شهد الاقتصاد السوري مزيدًا من التدهور، تسبب في احتجاجات شعبية بمحافظات عدة، تركزت في مدينة السويداء جنوبي البلاد، بينما حافظت القوات الأجنبية والميليشيات على وجودها إلى جانب جميع أطراف النزاع.
كارثة تضاعف محنة السوريين
فجر 6 فبراير/شباط الماضي استيقظ السوريون على كارثة زلزال بلغت قوته 7.7 درجات، أعقبه آخر بعد ساعات بقوة 7.6 درجات، ضرب جنوب تركيا وشمالي غربي سوريا ضمن محافظات إدلب وحلب واللاذقية.
خلف الزلزالان نحو 46 ألفًا و108 قتلى في تركيا، الآلاف منهم سوريون، حيث يقطن عدد كبير من اللاجئين السوريين في الولايات التركية الجنوبية بسبب قربها من بلدهم، بينما بلغ عدد الضحايا في سوريا نحو 5 آلاف و914، ليرتفع العدد الإجمالي إلى نحو 52 ألفًا و18 شخصًا.
شملت الأضرار شمالي غربي سوريا نحو 182 موقعًا ضمن 60 مجتمعًا فيها أكثر من 580 مبنى مهدم كليًا وأكثر من ألف و578 مبنى تهدم بشكل جزئي، بينما استطاعت الفرق إنقاذ ألفين و960 شخصًا من تحت الأنقاض، وانتشال نحو 2172 من الضحايا، حسب منظمة “الخوذ البيضاء”.
تسبب الزلزالان وآلاف الهزات الارتدادية التي تبعتهما في دفع أسر عديدة إلى ظروف شديدة الصعوبة، حيث تركت عائلات دون مأوى في ظل انخفاض درجات الحرارة، وسط انعدام إمكانية الحصول على الخدمات، بما فيها المياه والأطعمة، فضلًا عن الرعاية الصحية والتعليم شمالي سوريا.
رغم الكارثة كانت الاستجابة الغوثية من الفرق الإنسانية التطوعية الدولية شبه معدومة خلال الأيام الأولى في شمالي سوريا، في وقت كانت تصل الفرق إلى الجنوب التركي، بينما تدفقت عشرات الطائرات المحملة بالمساعدات من دول عربية إلى مناطق نظام الأسد، الذي استغل الكارثة لصالحه فطبّع العلاقات مع عدد من عواصم المنطقة وأعيد إلى الجامعة العربية وحضر بشار الأسد قمة جدة.
عودة العلاقات العربية – السورية
تطورت عملية السلام المتعثرة في سوريا تبعًا للآثار الناجمة عن كارثة الزلزال، حيث ظهر تقرب مباشر من قوى إقليمية وعربية من حكومة نظام الأسد للاستجابة الطارئة، حيث وصلت في الساعات الأولى التي أعقبت الزلزال عشرات الطائرات المحملة بالمساعدات إلى المناطق التي تسيطر عليها حكومة نظام الأسد في حين لم يصل إلا القليل لمنطقة شمال غرب البلاد الأكثر تضررًا.
تقدم الأمم المتحدة المساعدات إلى شمال غرب سوريا الذي تسيطر عليه المعارضة عبر الحدود مع تركيا عبر نقطة تفتيش واحدة وهي معبر باب الهوى الحدودي، وهي سياسة ينتقدها نظام الأسد باعتبارها تنتهك سيادة الأراضي السورية، مطالبًا بنقل المساعدات عبر الخطوط.
رغم تأكيد واشنطن موقفها المعارض لأي خطوة تطبيع مطلع 2023، مع نظام الأسد، فإن دولًا عربية كانت تنادي بعودة العلاقات السورية العربية، حيث سمحت كارثة الزلزال بإعادة العلاقات مع نظام الأسد مجددًا من خلال عودته إلى جامعة الدول العربية في 7 مايو/أيار الماضي، بعد تعليق عضوية سوريا في الجامعة منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2011.
عقب حضور رأس نظام الأسد القمة العربية الـ32 التي عقدت في جدة يوم 19 مايو/أيار، بصفته ممثلًا عن سوريا، انفكت عزلة الأسد عربيًا، دون التطرق إلى أسباب تعليق العضوية، والتحدث عن الالتزامات التي لطالما تمسكت بها الجامعة فيما يخص عودة اللاجئين ومصير المعتقلين وتحريك العملية السياسية وغيرها.
شكلت خطوة عودة نظام الأسد إلى الجامعة العربية متنفسًا محتملًا لتدفق المساعدات والعلاقات الاقتصادية بين البلدان العربية وسوريا، كما تراها حكومته، إلا أنها لم تواصل السير على تلك الخطى لأسباب عديدة أبرزها عدم قدرة الأسد على ضبط صناعة المخدرات التي تغزو البلدان العربية، ما أدخل البلاد في دوامة التدهور الاقتصادي والمعيشي.
تدهور اقتصادي ومعيشي
تضاعفت الأزمة الاقتصادية والمعيشية في مختلف مناطق السيطرة السورية عقب كارثة الزلزال، وسارت بشكل غير متوقع رغم سلسلة التطبيع العربي مع نظام الأسد الذي عول عليه الأخير في انفتاح دول عربية بهدف التشجيع على الاستثمار في قطاع السياحة لانتشال اقتصاد البلاد المنهار.
وشهدت الليرة السورية سلسلة من الانهيارات المتكررة أمام الدولار الأمريكي، ففي يناير/كانون الثاني 2023 سجل الدولار 6600 ليرة سورية، بينما وصل في يوليو/تموز إلى حدود 10 آلاف ليرة، بينما سجل في ديسمبر/كانون الأول من العام ذاته، 12600 وفق تسعيرة المصرف المركزي، بينما السوق الموازي (السوداء) سجل 14500 ليرة.
خلف انهيار الليرة آثارًا كارثيةً على واقع السوريين المعيشي وسط تراجع متوسط الأجور في مناطق نظام الأسد ليصل إلى 10 دولارات شهريًا، في حين ارتفعت أسعار السلع، حيث تمثلت الأزمة الاقتصادية بنقص في مشتقات النفط وارتفاع معدلات الفقر إلى 90%، وسط غياب فرص العمل وتوقف الإنتاج والصناعة وعدم القدرة على توفير الكهرباء إلا لساعات قليلة باليوم.
وفي السياق، لا تستثنى مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية شمال شرقي البلاد، التي لا يزال تعامل المواطنين فيها بالليرة السورية، بفارق بسيط أن الأجور تقدر بالدولار الأمريكي، في حين لا تغطي المصاريف الحياتية لهم، كما هو الحال في مناطق شمالي غربي سوريا الواقعة تحت سيطرة المعارضة، التي تتداول الليرة التركية.
انتفاضة السويداء
بينما كانت الليرة السورية تواصل انهيارها أمام الدولار الأمريكي، أصدرت حكومة النظام حزمة من القرارات – في مطلع أغسطس/آب الماضي – التي تفضي إلى زيادة أجور الموظفين العاملين ضمن القطاع العام بنسبة 100%، وتحرير أسعار السلع الأساسية كالخبز والمحروقات المفقودة أساسًا من الأسواق، التي لا يمكن الحصول على المدعوم منها إلا وفق مخصصات.
نتج عن القرارات الحكومية التعسفية غضب واستياء شعبيَّين شهدتهما عموم المحافظات التي يسيطر عليها نظام الأسد، حيث وجهت دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي، من حركة 10 آب، والحراك السلمي السوري، للمطالبة برحيل نظام الأسد، والإفراج عن المعتقلين وتطبيق القرار الأممي 2254.
وفي منتصف أغسطس/آب، خرج السوريون في محافظات حلب ودمشق ودرعا والسويداء إلى الشوارع للمطالبة بإسقاط نظام الأسد، إلا أن الأخير قابل الحراك السلمي بفرض قبضة أمنية محكمة مع تنفيذ حملات اعتقال طالت عشرات المدنيين، كما فرضت حظر تجوال في مناطق وجهت فيها دعوات للانتفاضة.
لاقت الاحتجاجات الشعبية في مناطق سيطرة نظام الأسد دعمًا وتضامنًا من السوريين في محافظة إدلب وريف حلب شمالًا، وفي الرقة ودير الزور شرقًا، بينما تتواصل الاحتجاجات الشعبية في محافظة السويداء حتى اليوم بوتير مستقرة، وكذا في عدد من مدن درعا جنوبي البلاد، للمطالبة برحيل نظام الأسد عن السلطة، والإفراج عن المعتقلين، والتغيير السلمي للسلطة.
هجوم الكلية الحربية.. وانتقام في إدلب
بعد مضي قرابة شهرين على الاحتجاجات في السويداء ومدن سورية أخرى شهدت مدينة حمص وسط البلاد هجومًا عنيفًا بالمفخخات المسيرة استهدف حفل تخريج طلاب من الكلية الحربية 5 أكتوبر/تشرين الأول، ما أسفر عن مقتل 89 شخصًا من الطلاب وذويهم، حسب وزارة الصحة في حكومة نظام الأسد، بينما قدر المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل 120 شخصًا.
أعلنت حكومة النظام حدادًا لمدة ثلاثة أيام على أرواح القتلى، وإقامة صلاة الغائب في عموم المساجد، فيما اتهم جيش نظام الأسد جماعات مسلحة في إدلب بينها هيئة تحرير الشام ومجموعات جهادية أخرى، مؤكدًا رده المباشر عليها، لكن هيئة تحرير الشام لم تتبن تلك العملية، فيما أكد صحفيون استقصائيون استحالة وصول هجمات مسيرة أو صاروخية من مناطق المعارضة إلى تلك المنطقة في حمص، كونها لا تمتلك أسحلة متطورة أو بعيدة المدى.
لم تمض ساعات على وقوع تفجير الكلية الحربية، حتى بدأت قوات نظام الأسد والميليشيات الإيرانية القصف المدفعي والصاروخي على مدن وبلدات في أرياف إدلب الجنوبية والغربية والشرقية، وريف حلب الغربي، فيما شن الطيران الروسي عدة غارات جوية بالصواريخ الفراغية على عدة مناطق، ما أسفر عن مقتل وإصابة عشرات المدنيين، ضمن تصعيد هو الأكثر دموية منذ عامين تقريبًا.
استخدمت قوات نظام الأسد خلال استهدافها للأحياء السكنية في المدن والبلدات والقرى شمال غربي سوريا، خلال حملة القصف الهستيرية قذائف مدفعية وصاروخية تحتوي على قنابل عنقودية وفوسفورية، ما تسبب في مقتل وجرح العشرات وترويع المدنيين ونزوح مئات العائلات من منازلها.
نشاط مواز لقوات أجنبية وميليشيات في سوريا
استمرت هجمات تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، ضد قوات نظام الأسد والميليشيات الموالية له، رغم انخفاض العمليات في الربع الأول عام 2023، إلا أنه كثف الهجمات النوعية لاحقًا، حيث أعلن في 10 نوفمبر/تشرين الثاني تبنيه هجومًا استهدف تمركز قوات نظام الأسد وميليشيا الدفاع الوطني، في البادية السورية، بالأسلحة المتوسطة والخفيفة، ما أسفر عن مقتل 34 جنديًا وإصابة آخرين.
وسبق تنفيذ عناصر “داعش” هجومًا استهدف حافلة تقل عناصر في بادية الميادين بريف دير الزور الشرقي، في أغسطس/آب الماضي، حيث أسفر الهجوم عن قتل 23 جنديًا وسط تنامي نشاط التنظيم من خلال عمليات متكررة.
وتبلغ مساحة البادية 80 ألف كيلومتر، ضمن محافظات دير الزور والرقة وحلب وحماة وحمص وريف دمشق والسويداء.
وفي ذات السياق، تكررت هجمات الميليشيات المرتبطة بإيران خلال الربع الأخير من العام المنصرم، على القواعد العسكرية الأمريكية في سوريا والعراق، حيث أحبطت القوات الأمريكية عددًا من الهجمات بالطيران المسير، بينما استهدفت مراكز ومقار عسكرية تابعة لمجموعات إيرانية في البوكمال ودير الزور والبادية السورية، نتيجة تزايد التهديدات ضد قواتها في الشرق الأوسط.
بينما كثفت القوات التركية هجماتها بالطيران المسير على المقار العسكرية والمرافق الحيوية في مناطق سيطرة ميليشيا “قسد” شمال شرقي سوريا، وغربي الفرات في منبج ومناطق الشهباء، في الفترة ذاتها، ما أسفر عن مقتل عشرات العسكريين التابعين للميلشيات وخروج عدد من المرافق عن الخدمة من بينها شركات كهرباء ومياه.
نفذت طائرات الاحتلال الإسرائيلي عشرات الهجمات الجوية في مناطق سورية متفرقة طالت مطارات حلب ودمشق، ووحدات عسكرية تابعة لنظام الأسد ومقار عسكرية ونشاطات لميليشيا حزب الله اللبناني وميليشيات إيرانية أخرى مرتبطة بطهران، حيث أسفرت عن مقتل العشرات وخروج مطاري حلب ودمشق عن الخدمة أكثر من مرة خلال عام 2023 جراء الهجمات الإسرائيلية، فيما كثفت الأخيرة ضرباتها عقب هجوم حركة حماس في معركة طوفان الأقصى 7 أكتوبر/تشرين الأول.
تحرير الشام والجيش الوطني
إلى الشمال الغربي من سوريا، لم تهدأ ساحة الخلافات الفصائلية التي بدأت تطفو إلى السطح تزامنًا مع تلويح تحرير الشام في إدلب بنيتها في التمدد إلى مناطق سيطرة الجيش الوطني المدعوم من تركيا في منطقة عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون في ريفي حلب الشمالي والشرقي.
عمدت تحرير الشام إلى دخول مناطق سيطرة الوطني في نهاية العام 2022، بشكل غير مباشر مستغلةً الخلافات الفصائلية، واستطاعت إيجاد موطئ قدم لها في المنطقة بمساندة حركة أحرار الشام، وفي منتصف العام الجاري استغلت تحرير الشام خلافات الفصائل وأزمة العشائر في دير الزور لصالحها من خلال إرسالها قوات عسكرية تابعة لها في المنطقة، فيما استطاعت كسب أطراف عسكرية انفصلت عن الوطني مثل “تجمع الشهباء”.
حراك عشائر دير الزور ضد قسد
تفجرت الخلافات بين العشائر العربية في محافظة دير الزور وميليشيا “قسد”، عقب اعتقال الأخيرة، لقائد مجلس دير الزور العسكري “أحمد الخبيل أبو خولة” وعدد من القادة في كل من الحسكة ودير الزور في 28 أغسطس/آب الماضي، ما دفع عشائر دير الزور إلى الاشتباك مع عناصر “قسد”، والسيطرة على عشرات القرى والبلدات في المحافظة، حيث استمرت العمليات لأيام متواصلة، استخدمت فيها “قسد”، عشرات العناصر المدججين بالسلاح.
بعد مناشدات شيوخ ووجهاء العشائر لوقف حملة “قسد” العسكرية ومطالبة التحالف الدولي في دعم تشكيل إدارة مدنية للمحافظة، أصدرت قوات التحالف بيانًا تؤكد فيه استمرار دعمها لقسد في المنطقة، بهدف تحقيق ما وصفته بـ”الهزيمة الدائمة لداعش، ودعمًا للأمن والاستقرار الإقليميين”، معتبرةً انحراف هذا العمل المهم سيؤدي إلى عدم الاستقرار لأنه يزيد من خطر ظهور “داعش”، كما دعت أطراف النزاع إلى إنهاء العنف في شمال شرقي سوريا.
ابتزاز المساعدات وتقليص الدعم
لا يزال آلاف السوريين المهجرين والنازحين شمالي غربي البلاد يقبعون في مخيمات عشوائية وشبه رسمية تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة، في وقت يصعب توفير الخدمات مثل التعليم والصحة والمياه والكهرباء، فضلًا عن الغذاء والدواء.
وفي 5 ديسمبر/كانون الأول، أعلن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة موعد انتهاء برنامج المساعدات الغذائية العامة في جميع أنحاء سوريا، مرجعًا ذلك إلى النقص الحاد في التمويل، الذي أدى بالفعل إلى تقليص برنامج مساعداته، حيث كان يقدم مساعدات غذائية منقذة لحياة 5.6 مليون شخص في سوريا كل شهر، حيث تدعم هذه المساعدات العائلات بحصص غذائية أو قسائم قيمة لشراء الغذاء.
ورغم وجود الإطار القانوني الذي يسمح بدخول المساعدات الإنسانية إلى سوريا من دون طلب موافقة النظام أو قرار من مجلس الأمن الدولي وضمان إبقاء كل المعابر الحدودية في جميع المناطق السورية مفتوحة للمساعدات الإنسانية ما دام الاحتياج موجودًا، إلّا أن ابتزاز روسيا أولًا ونظام الأسد ثانيًا باستعمالهما ورقة المساعدات الإنسانية التي تدخل إلى سوريا كورقة سياسية؛ تسبب في إيقاف دخول المساعدات من معبر باب الهوى شمال غربي سوريا لأكثر من 70 يومًا بين شهري يوليو/تموز وسبتمبر/أيلول الماضيين.
تبقى تطورات المشهد خلال العام 2023، قاسية على السوريين، رغم عدم تغير جغرافية مناطق السيطرة بين أطراف النزاع، ودون توصل الجهات والدول الفاعلة إلى صيغة للحل في البلاد التي تعيش منذ عام 2012 حالة حرب وانعدام استقرار على الأصعدة كافة، خلفت آثارًا كارثية على المجتمعات، وخلقت حالة انعدام استقرار.