تنظر إليه الآن، لا ترى إلا حقلاً أخضر تحيطه الأشجار العالية، ولا يخطر ببالك أنه مسرح لجريمة وحشية أُعدم بها ما يقارب الألفي شخص تتراوح أعمارهم بين الـ12 والـ77 سنة، بدم بارد دون ذنب سوى أنهم بشناق مسلمون، بعد أن تم منحهم الأمان والوعد بالحماية من قِبل قوات الأمم المتحدة، هؤلاء الألفان هم فقط ربع ضحايا سربرنيتسا البالغ عددهم 8372، وهذا الفصل ليس إلا الأخير من المذبحة التي وصفتها محكمة العدل الدولية بـ”الابادة الجماعية”.
المنطقة الآمنة
سربرنيتسا “مدينة الفضة”، تلك الواقعة في أقصى شرق البوسنة محاطة بمدن أخرى وبلدات استولى عليها الصرب في مرحلة مبكرة من الصراع، ولجأ إليها الآلاف من المسلمين البشناق الهاربين من بطشهم في المدن الأخرى، وبسبب ذلك تضاعف عدد سكان المدينة من 7 آلاف شخص إلى 30 ألف، عانى لاجئوها الجوع والبرد القارس، كما تعرضوا لاعتداءات متكررة من القوات الصربية أبرزها سقوط ثلاث قذائف أطلقتها قواتهم على ملعب مدرسة، أسفر عن مقتل 74 وجرح أكثر من مئة.
وعلى إثر ذلك في ربيع 1993 ولكونها منطقة تأوي لاجئين أُعلنت سربرنيتسا إلى جانب مدينتين أخرتين في شرق البوسنة “جيبا وغوارجدا” ، منطقة آمنة منزوعة السلاح تحت حماية الأمم المتحدة، ويظهر في شريط فيديو بثته البي بي سي ضمن وثائقيها الطويل “موت يوغسلافيا” الجنرال الفرنسي موريلون من قوات الأمم المتحدة وهو يمنح عبر مكبر الصوت وعودًا بضمان أمن وحماية سكان المدينة.
وثار غضب الصرب بسبب ما اعتبروه انحيازًا للأمم المتحدة إلى جوار المسلمين، وبعد مفاوضات، توصلت الأمم المتحدة إلى اتفاق يقضي بنزع أسلحة المقاتلين المسلمين في سربرنيتسا، ونفذت قوات الأمم المتحدة ذلك الاتفاق، بزعم أنهم المسؤولون عن حماية المدينة ويريدون تهدئة التوتر بين القوات المسلمة وقوات الصرب.
يذكر مولودين أوريتش (أحد الذين كانوا يحملون السلاح) كيف اعترضته قوة من الأمم المتحدة مكونة من تسعة أشخاص وأجبرته على تسليم بندقيته التي كان يستخدمها في الخطوط الأولى للدفاع عن المدينة، وذكر ناصر أوريتش قائد قوات حماية سربرنيتسا كيف أن الكثير من جنوده صدّقوا مزاعم الأمم المتحدة بكونها منطقة آمنة وسلّموا أسلحتهم لها.
مشهد تطمين الجنرال موريلون لسكان المدينة
وبعد عامين تقريبًا من تسميتها منطقة آمنة، وفي الـ8 من مارس عام 1995 أعلنت القيادة العسكرية لصرب البوسنة “التوجيه السابع” الذي يخطط لخنق بطيء لمناطق الجيوب المسلمة في شرق البوسنة، عن طريق الحصار والعمليات القتالية ضد سكانها بهدف جعل حياتهم لا تطاق، ودفعهم للهرب، وتنظيف منطقة وادي نهر درينا (الجزء الشرقي للبوسنة المحاذي لصربيا والمحيط بنهر درينا) بشكل كامل من المسلمين، وبدأت في تنفيذ تلك الخطة لتصل إلى ذروة أهدافها: احتلال سربرنيتسا.
أسئلة عن دور القوى الكبرى
كان الصراع على أراضي البوسنة والهرسك قد وصل إلى نقطة حرجة ابتداءً من عام 1994، ورأت القوى الكبرى (الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا) وبالتعاون مع الأمم المتحدة أنه لا بد من إنهائه بتحقيق السلام بأي ثمن، التسوية المقترحة كانت تقضي بتقسيم البوسنة والهرسك بين كيانين: جمهورية صرب البوسنة، وفيدرالية البشناق المسلمين وكروات البوسنة، وهذه التسوية تتطلب تقسيم الأراضي بين الكيانين، وفي خريطة مقترحة لما بعد الحرب لم تكن سربرنيتسا ضمن الأراضي التابعة للمسلمين، مما يعني بالضرورة أن يتم التنازل عنها، وكان هذا التنازل يعني شيئًا واحدًا، إذ إن تصريح راتكو ملاديتش القائد العسكري لميليشيا صرب البوسنة الذي يرغب فيه “أن يختفي المسلمون تمامًا من الأراضي الخاضعة لسيطرة صرب البوسنة” يعلن نيتهم عمل مجازر لتطهيرها.
خارطة البوسنة قبل خطة التقسيم لكيانين تظهر فيها المناطق الثلاثة الآمنة في شرق البوسنة
خارطة دولة البوسنة الحالية بعد استبعاد سربرنيتسا وجيبا من المناطق المسلمة وتظهر جمهورية صرب البوسنة باللون الزهري
وكانت قوات حلف الناتو مخولة للتدخل من أجل إيقاف أي اشتباكات أو أعمال مسلحة في المنطقة، ولدى قوات الأمم المتحدة صلاحية طلب الهجمات الجوية ضد القوات الصربية على الأرض لتثبيت وضع المناطق الآمنة وحمايتها من اعتدائهم، ولكن تم تعطيلها بعد أخذ 400 من جنود الأمم المتحدة كرهائن من قبل الصرب ردًا على ضربة جوية.
وتورد الصحافية الفرنسية والمتحدثة السابقة باسم هيئة الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية الخاصة في يوغسلافيا السابقة فلورانس هارتمان في مقالة نشرتها الغارديان البريطانية أدلة كثيرة تشير إلى تواطؤ القوى الكبرى في حدوث المذبحة، حيث إنهم شجعوا على التنازل عن سربرنيتسا دون أن يهتموا بمصير من فيها والذي كان متوقعًا وشبه محتوم، ومن هذه الأدلة:
1- التحذير الذي وجهه مجلس الأمن نفسه من “مذبحة محتملة يمكن أن يكون فيها 25 ألف ضحية إذا دخلت القوات الصربية سربرنيتسا” قبل عامين من حدوث المذبحة، وكان الجميع على علم بذلك التحذير.
٢- في الـ3 من حزيران/يونيو، تحدث وزير الدفاع البريطاني مالكولم ريفكيند، في اجتماع عقد في باريس، على أن الجيوب “لا يمكن الدفاع عنها”، وقال ريفكيند: “الأمم المتحدة أعلنت المناطق الآمنة، بريطانيا زادت أعدادها في البوسنة، وكذلك فرنسا، ولكن ليس غيرهما، ويمكنهم أن يطلقوا عليهم مناطق آمنة، ولكن عليك أن تضع قوات كافية هناك لجعلها آمنة، وإلا فلا يمكن الدفاع عنها”.
كان بيغوفيتش قد أبلغ السلطات المدنية في سربرنيتسا في أيلول/سبتمبر 1993 أن استسلام مدينتهم قد يكون ثمن السلام ورفضوا مناقشة ذلك
3- في الـ6 من يوليو، وعلى الرغم من وجود طائرات استطلاع أمريكية تصور الوضع المثير للقلق وتقدم الدبابات الصربية حول سربرنيتسا، نقل مصدر من المخابرات الأمريكية في زغرب (العاصمة الكرواتية) أن الصرب البوسنيين لا يهتمون بعد احتلال سربرنيتسا بما سيحدث مع جميع المسلمين البوسنيين المحليين، وفيما بعد، بعض المصادر الأمريكية أشارت أن السي آي إيه كانت مطلعة على ما يدور في حقول الموت عن طريق البث الحي الذي تقوم بها طائراتها الاستطلاعية.
4- في الـ8 من يوليو اجتمع أكاشي والجنرالان قائدا قوات حفظ السلام في البوسنة سميث وجانفييه بمقر الأمم المتحدة في جنيف، وقد طلب من سميث العودة إلى عطلته في جزيرة كوركولا الكرواتية بينما توجه أكاشي (وهو الرجل الوحيد في البلقان الذي يتمتع بسلطة أمر بضربات جوية)، إلى دوبروفنيك لقضاء عطلة تستمر يومين.
وحذرت القيادة البوسنية في سراييفو الأمم المتحدة في 8 من تموز/يوليو من أن “الإبادة الجماعية ضد السكان المدنيين في سربرنيتسا قد تحدث” ولكنها لم تطالب بالإجلاء، وفي الوقت ذاته تذكر مصادر بوسنية متعددة كيف ضغطت القوى الكبرى على الرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش لتسليم سربرنيتسا والمناطق الآمنة الأخرى في شرق البوسنة. وكان بيغوفيتش قد أبلغ السلطات المدنية في سربرنيتسا في أيلول/سبتمبر 1993 أن استسلام مدينتهم قد يكون ثمن السلام ورفضوا مناقشة ذلك، وفي نيسان/أبريل 1995 استدعت الرئاسة 15 من القادة العسكريين من سربرنيتسا إلى مدينة توزلا الخاضعة لسيطرة الحكومة، أبرزهم القائد العام لقوات حماية المدينة ناصر أوريتش، ولم يتمكنوا من العودة، وقالت الحكومة حينها إن واجب حماية المنطقة الآمنة واجب المجتمع الدولي.
ما الذي حدث بعد الـ11 من يوليو 1995؟
في بداية شهر يوليو 1995 بدأت القوات الصربية الهجوم على المدينة، وتمكنت من دخول المدينة في 11 من يوليو، ولعلمهم بالمجازر التي ارتكبتها المليشيات الصربية في مناطق أخرى قريبة، انقسم سكان المدينة إلى فريقين: الذين لجأوا إلى مقر الأمم المتحدة في بوتوتشاري طلبًا لحمايتها وليعلنوا أنهم مدنيون غير مسلّحين، وفريق غالبيته من الذين رفضوا تسليم أسلحتهم سابقًا للأمم المتحدة اختار الخروج عبر الغابات المحيطة بسربرنيتسا وصولاً إلى أقرب مدينة يسيطر عليها الجيش المسلم وهي توزلا، وتبلغ مسافة الطريق نحو ١٠٠كم.
لم تحرك قوات الأمم المتحدة ساكنًا أمام قيام القوات الصربية بفصل الرجال عن النساء والأطفال تمهيدًا لإعدامهم
الذين لجأوا لقوات الأمم المتحدة طلبًا للحماية، كان عددهم في تقديرات مختلفة بين عشرين وخمسة وعشرين ألف مسلم من رجال ونساء وأطفال، لكن القوات الهولندية التابعة للأمم المتحدة استقبلت خمسة آلاف داخل مقرها وطردت الباقين الذين تجمعوا في مصنع للبطاريات أمام المقرّ، وجاء القائد العسكري لصرب البوسنة راتكو ملاديتش وجلس في اجتماع مع الكولونيل المسؤول هناك كاريمانس، وفي اليوم الثاني تجول ملاديتش في أنحاء البلدة أمام وسائل الإعلام تصوّره وهو يخاطب المدنيين المجتمعين “لا تهلعوا، واسمحوا للنساء والأطفال بالمرور للخروج من المدينة، لن يتعرض أحد لكم بأذى”، وتعالت صيحات المدنيين بعدها: “شكرًا لكم”!
ولكن ما حدث بعد أن ذهبت كاميرات الصحفيين مختلف تمامًا، يروي هورم سوليتش: “كنت وزوجتي وأطفالي في هذا المكان، ذهبت زوجتي ولم يسمح لنا الرجال بالخروج، قيل لنا إننا سنستخدم للمبادلة بأسرى صرب، ولكن الذي حدث أنه تم اقتيادنا إلى رحلات الموت”، وتقول إحدى الناجيات أيضًا: “كان رهيبًا الانتظار تلك الليلة، هم (تقصد القوات الصربية) كانوا يجمعون الرجال النائمين، يأخذونهم إلى الخارج، يسود الصمت قليلاً، ثم نسمع صوت نباح الكلاب، ثم صوت إطلاق النار، ويتكرر الأمر”، ولم تحرك قوات الأمم المتحدة ساكنًا أمام قيام القوات الصربية بفصل الرجال عن النساء والأطفال تمهيدًا لإعدامهم.
وفيما بعد، في الحادي والعشرين من يوليو، شوهد ملاديتش وكاريمانس يتصافحان ويقرعان كأسيهما ويقدم ملاديتش هدية له، وكذلك شوهد الجنود الهولنديون يحتفلون بعد خروجهم من سربرنيتسا، وحين بدأت التقارير ترد عن حدوث مجزرة لم يصرّح المبعوث الأممي إلى البوسنة ياسوشي أكاشي بشيء، بينما وصف الكولونيل كاريمانس هجوم الصرب على سربرنيتسا بـ”العملية العسكرية المخطّط لها بشكل ممتاز”.
ومؤخرًا في الـ27 من يونيو من العام الحالي، صدر بشكل رسمي ما يؤكد تقاعس القوات الهولندية العاملة في حفظ السلام عن عملها بحماية المدنيين في سربرنيتسا، إذ أكدت محكمة استئناف هولندية أن هولندا مسؤولة جزئيًا عن مقتل نحو 300 رجل مسلم طردوا من قاعدة هولندية تابعة للأمم المتحدة بعد أن اجتاحت قوات صرب البوسنة منطقة سربرنيتسا المحيطة بالقاعدة، ويؤيد قرار محكمة الاستئناف في لاهاي قرار صدر عام 2014 بأن قوات حفظ السلام الهولندية كان بوسعها إدراك أن الرجال الذين لجأوا إلى القاعدة في قرية بوتوتشاري سيتعرضون للقتل إذا أجبرتهم على الرحيل وهو ما حدث بالفعل.
بدأوا يسألون: “هل أنت على قيد الحياة؟” وإذا قال الرجل “نعم”، يطلقون النار على رأسه مرة أخرى”!
فالرجال الذين تم فصلهم عن عائلاتهم اقتيدوا إلى ملعب رياضي في شمال سربرنيتسا، وعددهم نحو الألفين، ومن هناك تم اقتيادهم في مجموعات في شاحنتين صغيرتين إلى حقل قريب بجوار غدير ماء وطلب منهم الاصطفاف وتم إطلاق النار عليهم، استمرت تلك المجزرة أربعة أيام، يقول مولودين أوريتش أحد الناجين الثلاث من الأسرى الألفين الذين اقتادتهم القوات الصربية وأطلقت النار عليهم: “أنا فقط ألقيت نفسي على الأرض، ابن اخي الذي كان بجواري وماسكًا يدي وقع فوقي ميتًا، وتظاهرت بالموت، عندما انتهوا من إطلاق النار، ذهبوا للحصول على مجموعات أخرى.
ضيف أوريتش: “وواصلوا جلب جولات جديدة من الرجال، كنت أسمع البكاء والمناشدات، لكنها لم تجد نفعًا”، استمر القتل حتى حلول الظلام، لفترة من الوقت، فقد مولودين وعيه، “عندما صحوت كان الجو مظلمًا، وكان هناك أمطارًا قليلة، وكان جسد ابن أخي لا يزال فوقي، أزلت عصابة العينين، كان هناك ضوءًا قادمًا من الجرافات التي كانت بالفعل تحفر القبور، حتى الآن، الصرب كانوا متعبين وسكارى، لا يزالون يطلقون النار على ضوء الجرافات، ذهبوا إلى الجرحى وبدأوا يسألون: “هل أنت على قيد الحياة؟” وإذا قال الرجل “نعم”، يطلقون النار على رأسه مرة أخرى”، وأخيرًا أوقفوا الأضواء، تمكن مولودين من الهرب من حقل الإعدام في الليل رفقة ناجٍ آخر وسار عبر الغابات إلى مدينة توزلا.
مشاهد فصل الرجال والنساء تمهيدًا للإعدام
15 ألفًا آخر من المسلمين تدفقوا إلى الغابات، باتجاه توزلا ولربما كان خطر الموت أشد هناك من البقاء لأن طرق الغابات حول سريبرينتسا كانت محفوفة بالألغام، يتحدث أحد الناجين الذين عايشوا تلك الرحلة، د.الياز بيلاف عضو مجلس المدينة: “لكم أن تتخيلوا 15 ألف شخص يمشون صفًا واحدًا تلو الآخر، بحذر شديد واضعًا كل منا خطوته بالضبط في نفس مكان خطوة الذي يسبقه في المشي، وذلك لتجنب الدوس على لغم”، ويلخص الأيام الست التي ساروها بقوله: “إن كانت الحياة في سربرنيتسا وسط الحصار جهنمًا، فالمسير في الغابات نحو النجاة كان الحفرة التاسعة في جهنم”.
فمن المخاطر المحدقة بهم أنهم كانوا أيضًا فريسة سهلة للجنود الصرب المسيطرين عليها، نلمح مقاطع من فيديو تصور جنودًا من الصرب حاملين بنادقهم يسيرون في شارع على حافة الغابة يصيحون: “أيها الرجال اخرجوا”، وجنودًا آخرين يقتادون مسلمًا خارجين من الغابة يقتادونه ويسألونه “هل انت خائف؟”.
حين نتحدث عن مذبحة سربرنيتسا وحيثياتها لا تغيب عنا تفاصيل مشابهة حدثت في حلب وحمص ومدن سورية أخرى وما زالت تحدث في الموصل حيث تكون السياسة الواقعية وخطط إحلال السلام ذريعة للتضحية بحياة آلاف الناس
وتحدث ناجٍ آخر عن تلك التجربة الأليمة زولفو صالحوفيتش: “حاصرونا في الغابة ، وانهمرت القذائف علينا، ولم يكن للبعض من مهرب إلا الاستسلام لهم، البعض بدأ بالانتحار لهول ما عانوه”، ويضيف الناجي إلياز: “رأيت ثلاثة من أصدقائي يتعانقون، وفجر أحدهم قنبلة ليموتوا معًا”.
ويقول ناجٍ ثالث مرساد سينانوفيتش: “توجهنا عبر الغابات، لا أحد منا يعرف الطريق، معنا القليل من الطحين والسكر والملح، ونأكل من ثمار الغابات، وقصفتنا القوات الصربية في أحد الأماكن، ولشدة القصف مات كثيرون وانفصلت عن أبي وأخويّ، وبعد مسير كيلومترات قررت الرجوع للبحث عنهم، ووجدتهم وحاولت إقناعهم بإكمال المسير معي، ولكن والدي قال لي: أنت لديك ابنة انج بنفسك، ورفض أخواي إعاقتي عن إكمال الهرب، وكان هذا آخر عهدي بهم”.
يتحدث نسيب تاباكوفيتش عن موت جميع أفراد مجموعته بسبب الكمائن الصربية في الغابات ووصوله بمعجزة إلى بر الأمان بعد خمسة أيام من المسير الشاقّ، البعض احتاج لأيام أكثر من تلك بسبب الإصابة بالجروح الخطرة والمرض، والآن في كل عام في الـ11 من يوليو يسير بعض الناجين ومعهم المتطوعين في ذات الطريق الذي سمي طريق الحرية إحياءً لذكرى من فقد في تلك الأيام السوداء من تاريخ البشرية.
وفي النهاية، حين نتحدث عن مذبحة سربرنيتسا وحيثياتها لا تغيب عنا تفاصيل مشابهة حدثت في حلب وحمص ومدن سورية أخرى وما زالت تحدث في الموصل حيث تكون السياسة الواقعية وخطط إحلال السلام ذريعة للتضحية بحياة آلاف الناس، والتباكي بعد ذلك في وسائل الإعلام والتصريحات الصحفية من قبل الساسة على معاناتهم، مما يؤكد لنا أن الوعي بدروس سابقة لمآسٍ حصلت وتفاصيل ربما أغفلتها الصحافة في حينها، مهم لتجنب فخ الوقوع في مخططات لا تفيد إلا أصحاب القوة، والترويج لحلول لا تحمل الحياة الإنسانية في الحسبان.