اختتمت الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا مؤتمرها العام الرابع، الذي أنهى أعماله في مدينة الرقة في 21 ديسمبر/كانون الأول 2023 بالإعلان عن جملة من التغييرات والإضافات بما يخص الهيكلية التنظيمية والوثاىق الأساسية، كان أبرزها إقرار وثيقة “العقد الاجتماعي” التي أثارت انتقادات واسعة من قوى كثيرة، بينما تجاهل كل من المعارضة والنظام التعليق عليها بشكل رسمي.
إلى جانب هذه الوثيقة، فقد اقترح المؤتمر خريطة طريق للحل في سوريا، وأقر نظامه الداخلي الجديد، بجانب انتخاب مجلس رئاسة مشتركة، مع إلغاء منصب الرئيس التنفيذي، معلنًا في الوقت نفسه تغيير اسم الإدارة ليصبح “الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا”.
كما شهد المؤتمر انضمام شخصيات جديدة إلى الإدارة، أبرزها محمود المسلط، وهو من أسرة مشيخة قبيلة الجبور في سوريا، الذي انتخب رئيسًا مشتركًا لمجلس سوريا الديمقراطي “مسد”، الجناح السياسي لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، والشيخ هفل عبود الهفل، أحد مشايخ قبيلة العكيدات، بالإضافة إلى عدد من القوى، بينها “حركة الشباب السوري” و”حزب الوطنيين الأحرار” و”مجلس إدلب الخضراء” و”مؤتمر الإسـلام الديمقراطي” و”حركة المقاومة الثورية الشعبية”.
كون الإدارة، التي تسيطر على أجزاء واسعة من محافظات دير الزور والحسكة والرقة، بالإضافة إلى منبج وتل رفعت بريف حلب، من عشرات الأحزاب والتجمعات السياسية والمحلية، لكن دائمًا ما اعتبرت واجهة لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذي ينظر إليه كفرع لحزب العمال الكردستاني (PKK) في سوريا.
العقد الاجتماعي الجديد
تغييرات وتعديلات وإضافات عديدة أقرها المؤتمر مرت بهدوء، باستثناء الإعلان عن “وثيقة العقد الاجتماعي” الجديد التي أثارت جدلًا كبيرًا واعتراضًا من قوى سورية كثيرة، بينها أحزاب في المجلس الوطني الكردي.
وحسب نص الوثيقة، فإن “العقد الاجتماعي” يتكون من 4 أبواب و134 مادة، يتحدث الباب الأول عن المبادئ العامة، والثاني عن الحقوق والحريات الأساسية، أما الثالث فخاص بالنظام الاجتماعي، بينما احتوى الرابع أحكامًا عامةً.
أطلق “العقد” على سوريا اسم “جمهورية سوريا الديمقراطية”، لكن اللافت أنه تجنب الإشارة إلى أي من الأسماء ذات الإشارة الكردية على المناطق التي تحكمها الإدارة، مثل “روج آفا” كما ورد في دستورها الصادر عام 2014، أو “غرب كردستان” كما جاء في العقد المعدل عام 2016، وكذلك لم يأتِ على ذكر “الفيدرالية”، ناصًا على أن الإدارة الذاتية جزء مما أسماها “جمهورية سوريا الديمقراطية”.
حدد العقد الجديد ثلاث لغات رسمية، هي العربية والكردية والسريانية، وكان واضحًا تركيزه على حقوق الأقليات والمكونات الممثلة في الإدارة الذاتية، حيث خص بالذكر الكرد والآشوريين والسريان والإيزيديين بالتركيز.
وفيما يتعلق بالنظام الاجتماعي، فقد أطلق العقد على الوحدة الاجتماعية الأولى وهي الأسرة اسم “الكومين” في استعارة من نصوص حزب “الاتحاد” المستمدة من أفكار عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال المسجون في تركيا، الأفكار التي ستحضر بوضوح في أماكن مختلفة من “العقد”، كما هو الحال مع مختلف وثائق الإدارة الجديدة والسابقة، حيث تمت الإشارة إلى مكونات سوريا باسم “شعوب سوريا”، وأطلق على الوحدات الأخرى اسم (مجالس، أكاديميات، تعاونيات، إلخ).
ووفقًا للعقد، سيتم إحداث مؤسسات جديدة، مثل (محكمة حماية العقد الاجتماعي) التي عدها “مركز إدارك” للأبحاث في دراسة خصصها للحديث عن هذه الوثيقة، بمثابة محكمة دستورية عليا.
كما اعتبرت الدراسة أن تأسيس (مجلس شعوب شمال وشرق سوريا) الذي نص عليه “العقد” سيكون بمثابة برلمان لـ”الإقليم”، ورأت كذلك أن الإعلان عن تأسيس (مكتب المدفوعات والنقد المركزي) يعني إنشاء بنك مركزي.
ولم تخل الوثيقة من المصطلحات والمفاهيم التي عادة ما تستخدمها الإدارة الذاتية وتستلهمها من أفكار عبد الله أوجلان، مثل “الأمة الديمقراطية” و”النظام الديمقراطي البيئي” و”الكونفيدرالية الديمقراطية”، بالإضافة إلى تشديدها على مواجهة “الحداثة الرأسمالية بالحداثة الديمقراطية”.
الانتقادات
نقطة استغربها الكاتب الصحفي عمر قدور في مقال له بصحيفة المدن الإلكترونية، خصصه للحديث عن هذا العقد، حيث اعتبر أن “نشأة حزب العمال الكردستاني كحزب ماركسي ما زالت تلقي بظلالها على أدبيات مسد، فيطالعنا هذا التوصيف عن حداثة رأسمالية مهيمنة على المنطقة، ويغيب عنه الربط بين الحداثة والديموقراطية، وأيضًا الربط بين الأخيرة واللامركزية المعاصرة، لتُحشَر المفاهيم اعتباطيًا، دون أن تخضع للتدقيق”.
ويضيف “المضمون سرعان ما يتكشف عن مقولات لطالما استُخدمت لهندسة المجتمع وتطويعه حسب الأيديولوجيا الحاكمة. من ذلك مثلًا ما ورد في الفقرة 61: “تحرص الإدارة الذاتية على تعزيز القيم التاريخية للقبائل والعشائر بما يخدم التطور والتعايش السلمي بين المجتمع، وتناهض كل الأعراف العشائرية التي تتنافى مع العقد الاجتماعي”.
الكاتب رأى أن “هذا التدخل لتعزيز قيم عشائرية إيجابية والتصدي لأخرى سلبية معياره الفعلي هو السلطة نفسها، وأهم ما يُفهم منه واقعيًا أنه محاباة لقيادات العشائر العربية ما دامت ملتزمة بتأييد السلطة، والرئيس المشترك الجديد هو عربي من الوسط العشائري، وقد انضم مؤخرًا إلى مسد على نحو يوحي بانتسابه إليها ضمن اتفاق مسبق على تسلمه المنصب”.
وبينما رأى قدور بمقاله نقاطًا إيجابيةً في العقد يمكن البناء عليها، ومضمونًا يجهد لإبعاد أي تهمة بالانفصال، اعتبر “المجلس الإسلامي السوري” وهو مؤسسة مشيخية معارضة مقرها تركيا، أن الوثيقة تؤسس لـ”مشروع انفصالي مبطن بدعم أمريكي”.
وأضاف في بيان له “لا يمكن لإدارة ذاتية متسلطة أن تكون وصية على خيارات السوريين، فتحرف دون مشورتهم اسم الدولة من الجمهورية العربية السورية إلى جمهورية سورية الديمقراطية، لذلك فإن المجلس يرفض أي خطوة يمكن أن تؤدي إلى تمزيق سوريا بناءً على نزعات عرقية أو دينية أو قومية”.
من جانبها أدانت “حركة التحرير والبناء” إحدى مكونات الفيلق الأول التابع للجيش الوطني المعارض المدعوم من تركيا، وثيقة العقد، ورأت فيها هي الأخرى تأكيدًا على النزعة الانفصالية للإدارة الذاتية.
الحركة التي تضم كوادر عسكرية تنحدر من محافظة دير الزور بشكل رئيسي، قالت في بيان لها بهذا الشأن: إن الوثيقة تبتعد في شكلها ومضمونها عن كونها تتضمن عقدًا اجتماعيًا بالمفهوم القانوني للمصطلح، وهي أقرب ما تكون إلى عقد إذعان اجتماعي تفرضه قوة أمر واقع تستقوي بالخارج وتنتهج سياسة عنصرية بحق السكان الرافضين لوجودها.
وأضاف البيان “العقد الاجتماعي لا يكون إلا في إطار الدولة الواحدة، يشارك في صياغته رجال مختصون في عملية تشاركية محكمة، وتقره مؤسسات منتخبة من عموم أبناء الشعب.. بعيدًا عن الممارسات العنصرية والفئوية الضيقة التي تجلت فيما تضمنته الوثيقة من مصطلحات وأفكار تهدف إلى التأثير في البنية الاجتماعية لأبناء المنطقة”.
رد الإدارة الذاتية
ورغم أن “العقد الاجتماعي الجديد” للإدارة صاغته لجنة مكونة من 157 شخصًا، موزعين على مختلف المكونات التي تعيش بالمنطقة، بواقع 45% من الكرد، و37% من العرب، و11% من السريان، مع تمثيل أقل للآخرين، نتج عنها لجنة مصغرة تتألف من 30 عضوًا، إلا أن نسب هذا التوزيع تعزز من الاتهامات الموجهة للإدارة بتكريس الهيمنة الكردية، ناهيك بالتقليل من جدية تمثيل المكونات الأخرى باعتباره تمثيلًا شكليًا.
لكن الرئيس المشترك السابق لـ”مسد” رياض درار، ينفي هذه الاتهامات، مشددًا على أن النقد الموجه للوثيقة “لم يكن موضوعيًا في أغلبه، ومبنيًا على اتهامات متخيلة وأوهام”.
ويقول في حديث لـ”نون بوست” عن ذلك: “الوضع في سوريا لا يتوقف فيه النقد بسبب غياب الرؤية الصحيحة لمفهوم الدولة والعلاقات الاجتماعية، خاصة بعد أن توزع السوريون إلى مواقع متناحرة مختلفة. فالنظام هو هو لم يتغير، وفي شمال غربي البلاد حالة فصائلية معارضة تابعة لتركيا لا يمكن البناء عليها في ما يخص سوريا المستقبلية، ويبقى لدينا مناطق الشمال الشرقي التي وصلت إلى ما هي عليه الآن بعد جهود متراكمة، حيث وضعت الإدارة أول عقد لها عام 2014 عندما كانت في منطقة الجزيرة فقط، لكن مع تغير الواقع الميداني والجغرافي كان لا بد من التعديل والتجديد، وكان لا بد من تأسيس منظومة مستمدة من التراث الثقافي لمكونات المنطقة ومن طبيعة الأوضاع القائمة، وبالتالي نحن لا نقم بما هو جديد”.
ويرى درار أن موقف المنتقدين “لم يبن على أساس موضوعي، فتهمة الانفصال لم تتوقف ضد الإدارة الذاتية، سواء كان هناك عقد اجتماعي أم لم يكن، وهذه التهمة التي توجه لنا من النظام والمعارضة نابعة من نزعة عنصرية ساهمت بما وصلت إليه البلاد، عندما اختار الطرفان التقسيم، بدءًا من العلم وانتهاءً بمناطق النفوذ والتبعيات”.
ويضيف “لذلك فإن بناء المشروع في شمال شرق سوريا اعتمد الطريق الثالث وسط الصراع القائم بين المعارضة والنظام، وعليه تضمن العقد الاجتماعي المقرر أخيرًا تركيزًا على التوجه نحو سوريا جديدة تقوم على اللامركزية والديمقراطية، مع التأكيد على أنه لم ينص أنه نهائي، بل أكد في إحدى فقراته على أنه عقد مؤقت إلى حين إنجاز السوريين دستورًا جديدًا للبلاد بعد الوصول إلى حل سياسي.
ويختم درار بالتشديد على أن العقد الاجتماعي المعلن عنه “هو مشروع إداري اجتماعي سياسي يهدف لإقامة منظومة علاقات تحمي المنطقة”، ويصف أغلب النقد الموجه بالـ”مبني على تصورات متوهمة”، مشددًا أنه “لو كان موضوعيًا لناقش المواد والأفكار التي تتضمنها الوثيقة”.
موقف المجلس الوطني الكردي
لكن الانتقادات لم تكن صادرة فقط عن جهات تابعة للمعارضة الرسمية، التي التزمت مثل النظام، بالصمت حيال هذا الإعلان، بل عبرت عنها أطراف كردية أيضًا، في مقدمتها أحزاب تابعة للمجلس الوطني الكردي السوري، الممثل في الائتلاف الوطني المعارض.
وبهذا السياق، اعتبر عبد الله كدّو، عضو الهيئة السياسية للائتلاف السوري عن المجلس الوطني الكردي، أن هذا العقد “لا قيمة حقيقية له، بل يهدف إلى تحقيق غايات حزب الاتحاد الديمقراطي الذي ينتهج سياسات نظام الأسد”.
وقال في تصريحات خاصة لـ”نون بوست”: “يجب التذكير بأن للشعب السوري فصولًا طويلة من عدم الثقة بنصوص الوثائق الرسمية، سواء مع الدستور أم القوانين والأوامر الإدارية، أم غيرها مما صدر عن النظام، تلك النصوص والقوانين التي ظلت مثل موسيقا تصويرية لفيلم تراجيدي يجسد الاستبداد والاستئثار والإقصاء”.
“وعليه أعتقد، قبل أن نوغل في مواد العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية، أنه يجب التذكير بأن المتحكم الفعلي في المنظومة السياسية والمسلحة والأمنية لإدارة شرق الفرات هو حزب الاتحاد الديمقراطي pyd الذي يعلن، في أدبياته، اهتداءه بفلسفة رئيس حزب العمال الكردستاني pkk، عبد الله أوجلان، الذي أكد في أحد كتبه بأن لا قضية كردية في سوريا، وطالب الكرد السوريين بالعودة إلى الشمال، أي إلى تركيا موطنهم، حسب زعمه”، يقول كدّو.
ويضيف: “أما pyd فلم يسمح للمجلس الوطني الكردي، قبل غيره، بأي شراكة في الإدارة رغم الاتفاقات التي وُقعت بينهما تحت رعاية الرئيس مسعود بارزاني منذ عام 2012، ثم تحت رعاية الأمريكان، فكيف سيصدق بقية السوريين ببنود العقد الاجتماعي للإدارة، حتى لو صيغت ببلاغة نظرية فائقة”.
ويعتقد كدّو أن للحزب ثلاثة أهداف رئيسية دفعته لإصدار وثيقة العقد بهذا التوقيت، وهي:
أولًا: قطع الطريق أمام أي شراكة حقيقية مع المجلس الوطني الكردي، وبالتالي قطع الطريق أمام أي مطالبة بتطبيق الشرط الأساسي للمجلس في التفاوض معه، والمتمثل بالمطالبة بفك الارتباط مع pkk وإخراج العناصر غير السورية من المنطقة.
ثانيًا: الهروب من معالجة النزيف المتمثل في الهجرة من مناطق الإدارة الذاتية، وخاصة من المكون الكردي، بسبب سوء الوضع في هذه المناطق، المتمثل بالمجاعة وتردي الخدمات والانتهاكات المستمرة، من قبيل خطف القصر وتجنيدهم، وفرض تعليم فاشل وغير معترف به، وغيرها.
ثالثًا: تعويض عدم اعتراف المعارضة الوطنية السورية الرسمية بمنظومة pyd حتى الآن، إضافة إلى التغطية على الصدامات التي تتم مع العشائر العربية الرافضة لسيطرة هذه المنظومة.
كدّو شدد، مثل الكثيرين، على أن الدستور والعقد الاجتماعي هو اختصاص الدول، وعليه فهما شأن عموم الشعب السوري الذي يجب أن يشارك ويتوافق على الصياغة، وليس طرف سياسي أو منطقة أو فئة محددة، كما جرى في حالة العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية.
وإلى جانب ما ذكره كدّو، فإن العديد من المعترضين على وثيقة العقد الاجتماعي الجديد الصادرة عن الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا، يؤكدون أن أحد أهداف الحزب الذي يهيمن عليها هو الدعاية الخارجية، وتحديدًا في الولايات المتحدة التي يسعى للحصول على اعتراف سياسي منها ومن الدول الغربية، وهذه النقطة جزء من انتقادات واعتراضات كثيرة طالت هذا الإعلان، إلا أن أبرز ما يواجه الإدارة الذاتية والقائمين عليها هي مشكلة انعدام الثقة التي تجعل كل ما تقوم بها خطوات بلا معنى في نظر معارضيها ومناوئي حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذي تصنفه تركيا، مثله مثل حزب العمال الكردستاني، كمنظمتين إرهابيتين.