منذ بدء العملية البرية لجيش الاحتلال الإسرائيلي في أثناء عدوانه المتواصل على قطاع غزة، شكلت قرية جحر الديك بوابة التوغل الأولى للآليات العسكرية، انطلاقًا نحو مناطق “الخاصرة الرخوة” أو المناطق “الساقطة أمنيًا” التي تمتد على خط صلاح الدين ومحررة “نتساريم”، على بعد أمتار قليلة من الخط المحاذي للسياج الفاصل، حيث هيأ الجيش طريق عبوره من خلال تدمير كل الأحياء السكنية المجاورة وتجريف الأراضي القريبة، وتحويلها إلى منطقة مفتوحة تضمن تقدم الآليات والمدرعات دون مقاومة.
جغرافيًا، تعد جحر الديك القرية الضيقة الواقعة في جنوب محافظة غزة – تبعد عن غزة المدينة 8 كيلومترات، يحدها شرقًا الخط الفاصل وغربًا شارع صلاح الدين وجنوبًا وادي غزة -، قرية زراعية حدودية تصنف أنها سلة القطاع للخضراوات والفواكه، وهي من بين القرى التي دمرها الاحتلال عام 1948.
وكثيرًا ما شهدت القرية طوال العقود الماضية، عمليات توغل محدود وتجريف لأراضيها بفعل الاجتياحات الإسرائيلية، لذا كانت هدفًا للاجتياح البري منذ بداية العدوان، كونها لا تضم موانع طبيعية تسمح للمقاومة التستر بها، فهي أراض زراعية لا تتجاوز الـ6 كيلومترات.
تقول الروايات المتداولة إن قرية جُحر الديك تعود تسميتها بهذا الاسم إلى واقعة دخول أحد ديوك التجار المارّين بالمنطقة في جحر، ولم يتم التمكن من إنقاذه واستعادته رغم جميع المحاولات.
ويمكن القول إن سبب التسمية يشبه كثيرًا واقع ما يواجهه اليوم جيش الاحتلال في “جحر الديك” ومصير جنوده في معركتهم الحاليّة مع المقاومة الفلسطينية، التي تسطر فصولًا من البطولة لا يمكن محوها من ذاكرة جيش “إسرائيل”، حيث الكمائن وتدمير عشرات الآليات وناقلات الجند، والانقضاض على تحصينات الجنود خلف خطوط التوغل، على مدار معارك تجري بشكل يومي.
ومن هذه القرية تحديدًا برز عمليًا وفي مقاطع مصورة مصطلح “المسافة صفر” بعد أن شاهدنا أول عملية نسف للدبابات بالشكل الأسطوري، حينما يصل عنصر المقاومة سيرًا على الأقدام، بكل شجاعة إلى حيث يوجد الجنود أو الدبابة أو المدرعة أو حاملة الجند، كي يضع عليها المتفجر بيديه، هي إذن المسافة صفر التي ندر تكرارها في الحروب، هي المواجهة الشخصية مع آلة القتال الضخمة والمصفحة الفائقة الضخامة.
مسافة الصفر: أبرز ما يميز “جحر الديك” تكتيكات المقاومة
في 17 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بث الإعلام الحربي التابع لكتائب القسام – الجناح العسكري لحركة حماس – مقطع فيديو يظهر مشاهد من هجوم مقاتلي الكتائب على جنود الاحتلال الإسرائيلي في خيامهم بمنطقة جحر الديك في قطاع غزة، من المسافة الصفر، وخلف خطوط التوغل.
وأظهرت المشاهد مقاتلي القسام وهم يقتحمون موقع جنود الاحتلال في منطقة جحر الديك ويجهزون على جميع الجنود الموجودين وهم 10 جنود كانوا في المكان، بقذيفة ضد التحصينات، كما ظهر أحد قتلى جنود الاحتلال وهو ملقى على الأرض، وأيضًا عثور مقاتلي كتائب القسام على قطعة سلاح “إم-16″، قبل انسحاب المقاومين بسلام.
وكان السؤال الأكثر انتشارًا بشأن مقاطع المقاومة المصورة الصادرة من المنطقة، عن سبب ظهور المقاتلين وهم حفاة الأقدام يتنقلون بين تلال رملية، خلال هجومهم على تجمعات جنود الاحتلال.
وتعليقًا على العملية، قال الخبير العسكري اللواء فايز الدويري، إن مقاتلي القسام نفذوا في منطقة جحر الديك عملية رصد محكمة واتخذوا مواضع قتالية صحيحة ونفذوا عملية لا يقوم بها إلا نخبة النخبة، وعزا الخبير العسكري ظهور المقاتلين بلا أحذية خلال الهجوم إلى تسلقهم ساترًا رمليًا، ما يجعل الأحذية عائقًا خلال تسلق المقاتل.
وبعد أيام قليلة، أعلنت كتائب عز الدين القسام، عن تنفيذها كمينًا محكمًا لقوة من الاحتلال قوامها 60 جنديًا إسرائيليًا، في نقطة تمركز لهم شرق منطقة جحر الديك جنوب شرق غزة. وقالت في بيان لها: “تمكن مجاهدو القسام من رصد تمركز لعشرات من جنود الاحتلال (60 جنديًا) داخل خيام في نقطة تموضع لهم شرق جحر الديك، فقام المجاهدون بزراعة 3 عبوات مضادة للأفراد بشكل دائري حول التمركز، وفي تمام الساعة الـ4:30 تم تفجير العبوات في جنود الاحتلال وتقدم أحد المجاهدين للإجهاز على من تبقى من أفراد القوة وانسحب المجاهدون إلى مواقعهم بسلام بعد إيقاع عدد كبير من جنود الاحتلال قتلى”.
والمتتبع لسير المعارك الضارية التي تخوضها المقاومة الفلسطينية مع جيش الاحتلال يجد على امتداد الأيام، تواتر بيانات كتائب القسام وسرايا القدس وفصائل المقاومة الأخرى عن دك تحشدات العدو بالقذائف المضادة للدروع والأسلحة الرشاشة وقذائف الهاون وتفجير كمائن ضد تحصينات جنود الاحتلال في قرية “جحر الديك”، وُثقت أغلبها بالصورة والصوت.
فالضربات المتعاقبة التي يتلقاها جيش الاحتلال في جحر الديك تعني أنهم لم يتعلموا شيئًا، وأن المقاومة تستطيع القتال في المناطق المفتوحة بمثل كفاءة قتالها في المناطق المبنية، والأسوأ بالنسبة للاحتلال أن جحر الديك تقع على “الشريط الأمني الحدودي” الذي يحلم بإقامته.
المنطقة “الرخوة” لا تزال عصية على السيطرة
يرى محللون عسكريون أن ما يحدث في جحر الديك القريبة من السياج الفاصل بين غزة ومنطقة الغلاف، يعني أن الأنفاق ما زالت تعمل وأنها لم تتأثر بكل ما ألقته “إسرائيل” من قنابل، وما يجري في جحر الديك يعكس وضعية جيش الاحتلال في قطاع غزة.
فالمنطقة الرخوة التي لا تتجاوز مساحتها 6 كيلومترات لا تزال عصية على السيطرة، بل خرجت منها غالبية عمليات المقاومة الفلسطينية التي اتسمت بالإبداع المطلق والتكتيك العسكري الدقيق، وكانت نتائجها مؤلمة للاحتلال.
ويقول الصحفي أدهم أبو سلمية، إن ما لفت انتباه الجميع هو قوة القتال والعمليات النوعية في مناطق سيطر عليها الجيش الإسرائيلي في الأيام الأولى للعملية البرية (بيت لاهيا، جحر الديك، المغراقة، الشيخ رضوان) حيث نفذت المقاومة عدة عمليات وكمائن ناجحة.
وأضاف أبو سلمية “يرجع ذلك إلى أن المقاومة اتّبعت منهجية الانسحاب التكتيكي من تلك المناطق للحفاظ على المجاهدين أمام حمم صواريخ الأحزمة النارية والسماح للجيش بالتقدم الميداني الذي تتعطل معه القوة الجوية بشكل كبير وهو الأمر الذي يوفر نسبيًا حرية حركة المقاومين، ورصد سلوك العدو وخريطة تحركاته ثم نصب الكمائن النوعية بفاعلية أكبر وعدد أقل من المقاتلين الذين يتبعون السلوك التكتيكي المرن”.
“ولاحظنا مثلًا تنفيذ عملية استهداف جيب قيادة بـ”الكورنيت” قرب أبراج الندى أقصى شمال غزة والمعلوم أن “الكورنيت” ليس سلاحًا مرنًا ويحتاج إلى سيطرة ميدانية كبيرة، كذلك الكمين النوعي في جحر الديك اليوم وتدمير عدة جيبات عسكرية يحتاج إلى سيطرة عملياتية، ودخول الجيش بالجيبات الأقل تحصينًا هو نتاج شعوره بأنه سيطر ميدانيًا، لكن عمليات هذا اليوم والأسابيع الماضية ستجعله يعيد التفكير في ذلك” وفق أبو سلمية.
خسائر “ثقيلة” في معارك ضارية
أشار المحلل السياسي إبراهيم المدهون، إلى أن كتائب القسام والمقاومة الفلسطينية استفادت من المواجهات السابقة، أي من حرب عام 2008 وصولًا إلى 2014، ودرست نقاط قوة وضعف كل مناطق قطاع غزة بما فيها جحر الديك، التي تعتبر من الحدود وكان يستسهل الاحتلال دخولها، ثم تعزيزها بمقاتلين درسوا المنطقة جيدًا وأعدوا فيها أماكن الكمائن والاختباء، بالإضافة أنهم استطاعوا بناء العديد من الخطط الهجومية والدفاعية، التي ساعدتهم في هذه المواجهة، بشكل واضح.
وأضاف المدهون لـ”نون بوست”: “لهذا منطقة جحر الديك باتت اليوم تؤرق الاحتلال الإسرائيلي، ومنطقة تتحرك فيها المقاومة الفلسطينية بشكل مريح واستطاعت أن تصبر وتصمد وتثبت أمام الهجمة الإسرائيلية الكبيرة”.
في أحدث اعترافاته، قال جيش الاحتلال إن 498 جنديًا وضابطًا قُتلوا منذ بداية الحرب، بينهم 164 قتلوا منذ بدء العملية البرية في غزة، وأصيب 2066 منذ بداية الحرب بينهم 329 جنديًا مصابًا في حالة الخطر.
وأقرت حكومة الاحتلال في تصريحات عدة، بأن جيشها يتكبد خسائر ثقيلة في المعارك الضارية مع المقاومة الفلسطينية، والكمائن التي نصبتها لجنوده بمواقع عدة في قطاع غزة، رغم أن الخسائر اليومية التي يقر بها الاحتلال، تبقى أقل مما تعلنه المقاومة الفلسطينية التي توثق استهدافاتها بشكل دقيق وواضح.
ويمكن القول، إن جيش الاحتلال الإسرائيلي هو الأكثر خسارة على المدى القريب والمتوسط لأنه عالق في منطقة صديقة للمقاومة وثبات الحاضنة الشعبية وصمودها رغم كل المجازر، ما يعني أن الأيام القادمة تحمل معها تصعيدًا أكبر للعمل المقاوم ميدانيًا وستجعل العدو أمام خيارين: إما الهروب من غزة وإما البقاء فيها مع عدد أكبر من الخسائر.