بدأ قلقنا يتزايد بشكل كبير؛ لكون الأزمة تمر بمرحلة جمود، ولأنها قد تمتد لأسابيع وربما لأشهر، وربما يزداد التوتر، وسيستمر وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، في التواصل عن كثب مع جميع الأطراف. بهذه الكلمات لخصت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية “هيذر نويرت” ما آلت إليه الأزمة الخليجية، ومذكرة الأطراف بأنهم لايزالون يخوضون معركة مشتركة ضد الإرهاب.
من المثير حقاً أن يصدر هذا التصريح عن وزارة الخارجية الأمريكية، التي كان يكفيها أن يصدر أي مسؤول فيها تعليماته وأوامره لدول الحصار وستنتهي الأزمة وتعود مياه الخليج لمجاريها، لكن هذا التصريح يذكرنا بتصريحات أمريكية مشابهة، صدرت في بداية الثورة السورية السلمية، التي أرادوا لها أن تتحول إلى مستنقع يستنزف الجميع وبشكل لا أخلاقي، أسهم في تعميق معاناة الشعب السوري، ليجعل منها مأساة القرن.
منذ أعلنت دول الحصار 3+1 (السعودية – الإمارات – البحرين – مصر) قطع علاقاتها الكامل مع دولة قطر بتاريخ 5/6/2017 والمنطقة تعيش دوامة من التكهنات بالأسباب الحقيقية للأزمة، خاصة وأنها أتت مباشرة بعد حدث مفصلي هام، تمثل بزيارة الرئيس الأمريكي ترامب للسعودية، واجتماعه بزعماء وممثلي أكثر من خمسين دولة عربية وإسلامية.
الغريب في الأمر أن دول الحصار، تؤكد على مناطقية الأزمة وتعتبرها شأناً خليجياً داخلياً، لكنها سمحت لنفسها ضم مصر لمعسكر الحصار، الذي حُشِدَ له إقليمياً ودولياً، وجرت محاولات استقطاب منظومات دولية كاملة، من أستراليا شرقاً إلى موريتانيا غرباً.
لقد كان واضحاً منذ البداية أن السعودية مستعدة لفعل المستحيل إرضاءً لترامب، فرتبت للقمة وجعلت منها الأكثر فخامة وكلفة في تاريخ المنطقة والعالم، إضافة لما تمخضت عنه من اتفاقيات وعقود أمريكية – سعودية بلغت قيمتها ما يناهز نصف ترليون دولار (500 مليار دولار) حسب أقل التقديرات تواضعاً.
المتابع للأزمة الخليجية، لابد وأنه سيلحظ التصعيد المفتعل، والطريقة التي أديرت بها الأزمة، وكيف كانت الأحداث تتسارع على أمل إحداث صدمة تربك الموقف القطري، الذي سريعاً ما استوعب الصدمة، وأظهر تماسكاً داخلياً
النظام السعودي أراد لهذا الاجتماع أن يكون انعطافه، تؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات الودية مع الرئيس الأمريكي المشاكس، بحيث تتخلص وإلى الأبد من تهديداته المستمرة لها ومطالبته إياها بدفع ثمن الحماية الذي تقدمها بلاده لدول الخليج العربي، التي يعتبرها بقرة حلوباً ستذبح عندما يجف ضرعها.
غادر ترامب السعودية سعيداً محملاً بمئات المليارات من الدولارات، وتوجه للقاء أحبته في فلسطين المحتلة، وذلك بعد زيارة تاريخية حصل بموجبها على ما توعد به دول الخليج قبل أكثر من ثلاثين عاماً، مقابل إطلاق يد الملك وابنه, للقيام بإعادة ترتيب البيت السعودي وتنصيب محمد بن سلمان ولياً للعهد، بعد إزاحة العقبة الكأداء من طريقه (محمد بن نايف), وبطريقة أقل ما يقال عنها أنها مهينة، لكنها حبكت ونفذت بشكل جيد وسريع، لم يترك للرجل من خيار, سوى القبول بعرض التنحي المقدم له، ربما تفاديا لمصير كمصير الرئيس محمد مرسي الذي يحاكم بتهمة “التخابر مع قطر وحماس”.
يصنف ولي العهد المعزول محمد بن نايف، على أنه الرجل الموثوق غربيا، والشريك المفضل لوكالة الإستخبارات الأمريكية في الجهود المبذولة على ما يسمى الحرب على الإرهاب وله في هذا المضمار صولات وجولات جعلت منه هدفا، فتعرض لمحاولة اغتيال فاشلة.
لم يكن أشد المتشائمين بدول المنطقة وأنظمتها يتوقع ما حدث، إذ لم يكد الرئيس الأمريكي يغادر المنطقة حتى تفجرت أزمة التصريحات المفبركة والمنسوبة لأمير دولة قطر والمنشورة على مواقع وكالة الأنباء القطرية المخترقة، ليكتشف الجميع لاحقا أن الأمر أكبر بكثير من مجرد تصريحات مفبركة، أريد لها أن تكون شرارة أزمة باتجاه سيناريو معد له مسبقاً، لكنه يحتاج لمبررات شكلية يقدمها للشارع الخليجي المذهول من هول الصدمة.
المتابع للأزمة الخليجية، لابد وأنه سيلحظ التصعيد المفتعل، والطريقة التي أديرت بها الأزمة، وكيف كانت الأحداث تتسارع على أمل إحداث صدمة تربك الموقف القطري، الذي سريعاً ما استوعب الصدمة، وأظهر تماسكاً داخلياً، وعقلانية سياسية، حيث ابتعدت قيادتها عن المواقف المتشنجة والتصعيد، وهو ما جنبها الوقوع في كثير من المطبات والفخاخ المنصوبة لها، بل وسجلت مواقف إنسانية تحسب لها، كامتناعها عن طرد مواطني دول الحصار أو وقف إمدادات الغاز إلى الإمارات عبر خط دولفين.
يكفي أن نعلم أن إنتاج الكهرباء في الإمارات يعتمد اعتماداً شبه كاملٍ على الغاز القطري، بينما قطر مكتفية ذاتياً من الكهرباء، على عكس ما تم ترويجه من أن دول الحصار هي من يمدها بالكهرباء، التي قد تقطع عنها في أي وقت.
قفز فوق المراحل يتفادى أي جهد حقيقي للمصالحة، بل مواجهة شاملة وقطع للعلاقات بكافة أشكالها، فحصار ثم تهديد عسكري بغزو أو قصف لمباني قناة الجزيرة على أقل تقدير، ليتوج كل ذلك بتقديم لائحة من 13 مطلبا تعجيزياً أقل ما يقال عنها أنها غير قابلة للتنفيذ، الأمر وصل حد أن مستشار الديوان الملكي السعودي سعود القحطاني تمنى في تغريدة له أن ترفض قطر اللائحة.
لقد كانت المطالب الثلاثة عشر المقدمة، لائحة نزع للسيادة القطرية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، هدفها إما تركيع وإما عزل وحصار
لكن لماذا الآن ولماذا في هذا التوقيت؟ وماهي الأسباب الحقيقية لهذه الأزمة المفتعلة؟، خاصة وأن الأنظار كانت موجهة على القمة الإسلامية – الأمريكية وما أفرزته من نتائج ساد الإعتقاد أنها موجهة ضد إيران؟
يعتقد كثيرون أن هناك حالة من العداء بين أنظمة الخليج وإيران، وهم محقون في ظنهم هذا إلى حد ما، أقله فيما يتعلق بإيران وأطماعها التوسعية في المنطقة العربية وخاصة الخليج العربي الذي تطمح للسيطرة عليه حالما تسنح لها الفرصة. لكن بعض الظن إثم، فالمخاطر والمصالح توحد الأنظمة، كما هو حاصل اليوم، فإيران تتمتع بعلاقات طيبة مع كافة دول الخليج العربي بما فيها السعودية، التي أسقطت ديونها عن العراق وتكفلت بأيتام الحشد الشعبي والبيشمركة وتقدم إسناداً جوياً، أكد عليه الجبير نفسه عندما قال إن السعودية نفذت ثاني أكبر عدد من الغارات الجوية ضد تنظيم الدولة، بعد الولايات المتحدة، في حين أن الإمارات تقوم بشراء توريد السلاح والعتاد، للأسد والسيسي وحفتر، إضافة للحشد الشعبي “الشيعي” وجميعها أنظمة أو تنظيمات تشن حروباً ظالمة على الشعوب العربية!
يعيش في الإمارات اليوم قرابة 800 ألف إيراني يمتلكون أكثر من 400 مؤسسة كبرى ما بين بنوك وشركات ومؤسسات
أما ترامب الذي دعى لعزل إيران، فإنه وفور عودته للولايات المتحدة الأمريكية، فقد وقع على سلسلة عقود مع إيران بقيمة 22 مليار دولار تقضي بتزويدها بطائرات بوينغ وقطع غيار. إذاً ليست الحرب على إيران ولا مقاطعتها هما السبب في الأزمة الخليجية المفتعلة، رغم محاولة دول الحصار الإيحاء بذلك من خلال مطالبتهم قطر بقطع أو تخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية مع إيران.
هل هو ما يشاع عن دعم دولة قطر لجماعة الإخوان المسلمين، ما تسبب بتفجير الأزمة؟ حتى وإن كان كذلك لكنه ليس بالضبط السبب الضاغط الذي يدفع أربع دول عربية للتجييش ضد قطر وحصارها والتهديد بغزوها، وما لا يعلمه كثيرون أن دولة كالسعودية تحتضن أضعاف ما تحتضنه قطر من المنتمين لتيار الإخوان، بما فيهم قيادات ومشايخ وتجار كبار، وهم بتركيبتهم الحالية لا يؤمنون بالعسكرة شعارهم (سلميتنا أقوى من الرصاص) وبالتالي لا يشكلون تهديداً وجودياً طارئاً على أي من أنظمة المنطقة.
لعل الخطر الوحيد الذي تخشاه الأنظمة، يكمن في أن الإخوان، ربما يكونون الحزب الوحيد المنظم والقادر على استقطاب الجماهير، دعوياً ومجتمعياً وإغاثياً رغم قصوره سياسياً إضافة لعدم توفر القيادة الكاريزمية الجامعة، لكن الحزب يعتبر متميزاً على مستوى القواعد التي تعمل بحماس شديد ومتفوقة على قياداتها، وهو ما أثبتته الأحداث وفوز الجماعة في معظم الإنتخابات التي خاضتها في دول الربيع العربي.
ينتشر الإخوان المسلمون في معظم الدول العربية ولهم تواجد كبير في السعودية والإمارات والبحرين والكويت واليمن والسودان وسورية والعراق وتونس والمغرب
ما هو السبب الحقيقي للأزمة الخليجية إذاً؟
يمكننا القول إن هناك جملة أسباب قوية تقف خلف تفجير الأزمة، التي هدفت لضرب عدة عصافير بحجر واحد، وفي قراءة متأنية يمكننا استنتاج الآتي:
أولاً: التغطية السريعة وبامتياز على النتائج الكارثية لزيارة ترامب المذلة للسعودية، وحرف أنظار الشعوب عن المبالغ الخيالية التي تم دفعها جزيةً لترامب (مئات المليارات).
ثانياً: سمحت الأزمة بتنفيذ مخطط إزاحة إبن نايف عن ولاية العهد وتنصيب إبن سلمان بيسر وسلاسة، دون مقاومةٍ أو اعتراض، لأنه لو فعل فلربما واجه تهمة الخيانة والتخابر مع قطر، وقد يحاكم كما حدث مع الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي.
ثالثاً: تصفية حسابات لكل من السعودية والإمارات وترامب مع دولة قطر، حيث يسود الإعتقاد اليوم بنجاح الثورات المضادة التي قادتها ودعمتها كل من الإمارات والسعودية (سراً وعلناً) وبالتالي فقد آن الأوان لتصفية الحساب مع الداعم الرئيسي لثورات الشعوب قطر وتحييدها عن المشهد. أما ترامب فقد أعطى الضوء الأخضر للمحاصرين عقاباً لقطر على رفضها الإستثمار في مشاريع آل ترامب وصهره اليهودي كوشنر عندما عرضت عليها سابقاً.
رابعاً: تفجير الأزمة له علاقة عضوية بمسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتصفية القضية الفلسطينية، وربما إنهاء حالة غزة ككيان مستقل، والتمهيد لولادة “الحلف اليهودي مع محور الإعتدال العربي”، والذي تجري ترتيبات منحه شهادة ميلاد رسمية.
خامساً: استعداء قطر وعزلها، أدى حكماً لطرد قواتها من التحالف العربي ضد الحوثي، وهو ما أطلق يد إبن زايد للمضي قدما في مخطط تقسيم اليمن والسيطرة على جنوبه وجعله محمية إماراتية.
سادساً: إشغال قطر وإرباكها من خلال سلسلة أزمات تمنعها من التأثير في ملفات المنطقة الساخنة كـ سوريا وليبيا واليمن، وتجريدها من سلاحها الناعم المتمثل بقناة الجزيرة، والتأثير على ترامب لإغلاق قاعدة العيديد العسكرية الأمريكية، هذه القاعدة التي استضافتها قطر حماية لنفسها من الأشقاء الكبار الطامعين بأرضها وثرواتها.
سابعاً: تشويه صورة قطر أمام الشعوب العربية، بعد إجبارها على تحسين علاقاتها مع إيران كونها باتت المنفذ الوحيد لها بعد أن حوصرت جواً وبراً وبحراً، وإظهارها بمظهر المتحالف مع الأجنبي المحمي من قبل (إيران – تركيا – الولايات المتحدة).
أكاد أجزم أن دولة قطر لو علمت حينها أن القاعدة الأمريكية ستستخدم لقصف أهداف في سورية والعراق، وأنها ستتسبب بمقتل بريء واحد لما وافقت على إنشائها أصلاً، لكنها اليوم باتت مجبرة وبحكم الأمر الواقع للقبول على مضض بما أفرزه وجود القاعدة العسكرية سلباً وإيجاباً.
يسود اعتقاد على نطاق واسع بأن المنطقة قد دخلت مرحلة إعادة ترتيب تحالفات وإنتاج أنظمة حكم جديدة، خاصة مع قرب الإعلان عن إنهاء حالة ما يسمى “الدولة الإسلامية في العراق والشام” الأمر الذي سيحتم خلق البديل وهو ما يجري الإعداد والترتيب له.
كل المؤشرات تقول إن الدور قد جاء على دول الخليج العربي، لتخرب بيتها بأيدي أنظمتها، المنتشية بنصرها على الشعوب العربية في أكثر من دولة، بعد أن دعمت الأنظمة المستبدة واستجلبت التدخل الخارجي ومولته
الأزمة الخليجية المفتعلة والحصار الغير مبرر لدولة قطر، والمطالبة بإغلاق قناة الجزيرة، كشف الوجه الحقيقي لدولة الإمارات وحاكمها محمد إبن زايد، لكنها أيضاً كلفت السعودية خسارة رصيد سمعتها ومكانتها لدى الشعوب العربية، التي باتت تنظر لها على أنها دولة يحكمها ويقرر سياساتها حاكم أبو ظبي محمد إبن زايد وإن من خلال الشاب الطامح للحكم محمد إبن سلمان.
قطر دولة صغيرة وربما تكون نقطة في بحر السعودية وباقي دول الحصار لكنها دولة مؤثرة وفاعلة، دعمت الشعوب وقدمت الإستثمارات، عندما كان الآخرون يدعمون الأنظمة ويشترون الولاءات والعملاء لوأد ثورات العرب، أما الجزيرة فقد أثبتت أنها القناة الإخبارية الأكثر موضوعية التي احتلت وبلا منازع المركز رقم 1 على قائمة أجهزة الإستقبال، في حين أن إعلام محاصريها لازال لا يخطئ بين مدينة هامبورغ وساندويتش الهمبرجر ويعتقد أنه عاصمة ألمانيا الإتحادية.
كل المؤشرات تقول إن الدور قد جاء على دول الخليج العربي، لتخرب بيتها بأيدي أنظمتها، المنتشية بنصرها على الشعوب العربية في أكثر من دولة، بعد أن دعمت الأنظمة المستبدة واستجلبت التدخل الخارجي ومولته، وقادت الثورات المضادة فحولت الربيع العربي إلى خريف، ومطالب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، إلى جحيم وخراب، سبيلها إلى ذلك أموال وثروات عربية، كان يفترض أن توظف لخدمة نهضة الأمة والأوطان لا تدميرها وقتل وتهجير أبنائها.