العالم يشاهد غزة تنتصر فيعيد تقييم الإمكانيات المتاحة، فيجد فارق القوة لغير صالح المقاومة، فيذهل من انقلاب المعادلات الحربية، فيذهب في السؤال: ما سر هذا الانتصار؟ فتكون الإجابة الأقرب نوعية المقاتل، فلا مجال للمقارنة بين مقاتل يخرج بروح استشهادية ولا يفكر في العودة وجندي مشغول بالنجاة والعودة كي لا تفوته متع حياته التي من أجلها يقاتل.
المؤمنون بغزة هم قبل ذلك يقاسمون غزة إيمانها بالله وبالرسالة السماوية التي تنطلق منها ويقبلون الإيمان بالمعجزة الربانية، لكن قبل الغيب وإيكال النصر إليه يبقى السؤال عن طريقة تربية المقاتل الغزاوي، حيث يطرح سؤال نفسه بالقوة: هل يمكن استنساخ هذا المقاتل في بلد عربي آخر محتل ولا يملك قراره ولا سيادته وشعبه يعاني الضنك وإن كان لا يرى في طرقاته جنود قوة محتلة. يفتح هذا السؤال بوابة أسئلة كثيرة: هل يمكن أن يقاتل العربي المحتل بطريقة الغزاوي لفرض الديمقراطية مثلًا؟
الدولة العربية فشلت في بناء مواطن حر
الساحات السياسية العربية المؤمنة بالحرية كانت تعيش قبل حرب الطوفان حالة إحباط كبيرة بعد تراجع موجة الربيع العربي. كان هناك أمل قد ولد بقوة وبقدر قوة ميلاده كانت قوة انكساره وكان لانقلاب مصر وقع ضربة المطرقة على الرؤوس، لكن مع الانقلاب في مصر انكشفت نخب كثيرة رفضت المسارات الديمقراطية المتدرجة وساهمت من موقع متقدم في دعم الانقلابات وإفشال الانتقال الديمقراطي وحقّرت طموحات الشعوب للحرية.
لقد كان يمكن تفهم خوف الشعوب من التحولات العميقة من الديكتاتورية إلى الحرية والديمقراطية، فكل تحول مخيف مهما كانت وعوده، لكن ما لم يفهم ولا نظنه سيفهم بسهولة هو ردة النخب عن الحريات وهي التي طالما طالبت بها وناضلت من أجلها.
هذه الردة أحبطت قومًا كثيرًا قبل معركة الطوفان، بل إن فلسطين وقضيتها كانت قد بدأت في الاختفاء من الاهتمامات العامة، ومرت معركة “سيف القدس” 2021 بصمت كأنها وقعت في بلاد غريبة لشعب لا يعرفه العرب.
هكذا عندما انطلق الطوفان يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، لم يذهل العدو فقط من قوة الهجوم المباغت، بل مر وقت طويل على العرب ليستفيقوا إلى أنها معركة كبيرة ومصيرية، وكانت ردة الفعل باردة مترددة ثم تكشفت عن إحباط كبير وتعرت قوى الردة عن الديمقراطية والحرية، فوجدناها تشكك في المعركة ثم تبرر عدم التجاوب وسمعنا كلامًا معاديًا بعضه قائم على أسس أيديولوجية وغالبه يكشف ضعفًا وهوانًا.
وكانت الخلاصة تقدم نفسها لكل ذي رأي، من تخلى عن الحرية في بلده لم يعد يهتم بالحرية في أي مكان، ثم قلنا وإن لم نحتج ذكاءً كبيرًا: تلك الانقلابات كانت سببًا للخذلان، لقد قتلت طموحات الناس وأفرغتهم من كل طموح تحرري، لكن في ما يحيط بغزة ومعركتها من إحباط وقلة اهتمام أو عداء نجد لغزة معاني كثيرة ربما تكون فاتحة تفكير مختلف في المستقبل.
غزة الطوفان.. عنوان الاعتماد على الذات
أكبر الدروس وأبلغها حتى الآن أن الاعتماد على الذات مفتاح معارك الحرية، ولقد أثبتت غزة أن انتظار النصرة من خارجها لم يؤد بها إلى حلحلة أوضاعها تحت الاحتلال، لقد كان يتقدم عليها ويدمرها بالتدريج، وكان فيما فهمنا يخطط لهجوم تدميري يخرج به الغزاويين من أرضهم لتكتمل صورة فلسطين كذكرى قديمة (وضعت فوق الرف).
درس الاعتماد على الذات موجه إلى البعض القليل من الشعوب العربية المؤمنة بالحرية ولم تفقد الأمل الذي أحياه فيها الربيع العربي، وهذه القلة المؤمنة تتابع ما تفعل غزة ويفترض أن تتعلم منها أن القلة المؤمنة بقدراتها يمكنها فعل الكثير، طبعًا لا أتحدث هنا عن قتال مسلح، وإنما عن نضال سلمي بالعدد القليل يتحمل كلفة إطلاق معركة حريات من جديد بإيمان من يرى في القلة قدرة على الفعل دون انتظار العدد.
يبقى درس غزة الأبلغ هو أن الشعوب العربية شعوب محتلة وحريتها تمر بدفع ثمن من دمها ومن صبرها
الدرس الثاني أن غزة كشفت أن اختلاف الفصائل وتعددها ليس عائقًا فعليًا يمنع التوحد في معركة حرية وأن التغاضي عن الاختلاف لحين تحقيق أهداف مشتركة ممكن. لقد خربت الاختلافات بشأن المستقبل العلاقات بين الأحزاب والقوى السياسية، فانهارت وعود الربيع العربي، وغزة تقدم عرضًا سياسيًا يقول لنتفق حول الحرية ثم لنختلف داخلها، أما والعدو يتربص فإن أي خلاف يخدم العدو، ونرى في هذا أبلغ الردود على انقلاب مصر الذي تغذى من اختلاف القوى السياسية المصرية.
فوق كل الدروس قالت غزة بصوت جهير: الكيان الصهيوني كيان هش وضعيف ولا يملك فعلًا أن يهدد أنظمةً وشعوبًا عربيةً لو طمحت إلى الحرية، وهو بعبع عاش من الأكاذيب الإعلامية منذ تأسيسه، ولم يعد هناك مبرر للخوف منه.
صحيح أن العالم يشاهد جسر الدعم العسكري المباشر الذي أقامه الأمريكي لكي يحفظ الكيان من الزوال ويطيل في عمره، لكن هذا الجسر لن يجبر كسر الكيان الذي تخلخل بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، ونقول لا أحد اختبر صبر الشعوب العربية التائقة للحرية على تحمل فترة عسرة تنتج عن نضالات تحررية، فهي تتحمل الآن برغمها عسرة وضنكًا تحت حكم الانقلابات ربما يمكن اختصارها بموجة نضالية في كل قطر تستعيد بها الشعوب قدرتها على الفعل الحر.
ويبقى درس غزة الأبلغ هو أن الشعوب العربية شعوب محتلة وحريتها تمر بدفع ثمن من دمها ومن صبرها وبمرحلة من العناء الطويل المفضي بلا شك إلى إعادة بناء مكانتها في العالم ضمن الشعوب الحرة.
دون ذلك ستحارب غزة وحدها وتنتصر وحدها، وأي هروب من هذه المعركة هو استدامة للاحتلال الغربي ولو لم تظهر جيوشه في شوارع العواصم العربية، ومن لم يقرأ غزة الطوفان بهذا المعنى فقد فاته درس التاريخ العظيم.