تعرّض الكيان الهوياتي الفلسطيني للتآكل شيء ذو طبيعة حتمية، في ظل وجود كيان يسطو ليس فقط على الأفكار المهيمنة، لكن على إرادة البشر هي الأخرى، وهذا يحيل المواطن الفلسطيني – خصوصًا فلسطيني الداخل – إلى نوع من الاغتراب أو القلق الوجودي، لأنه يقع بين نارين محاولًا إيجاد كيان جغرافي سياسي ثقافي يشكل هويته تارة، وآماله في التملص من الفرض الثقافي والسياسي القسري لدولة الاحتلال تارة، بالإضافة إلى محاولات الشد والجذب الداخلية من السلطات المزيفة والظواهر الصوتية التي تحاول بناء مشروع وطني فلسطيني يسقُط ضحية الفصائل المتعاركة.
وعليه يقع المواطن الفلسطيني في نوع من المفارقة، فهو يصبو إلى حلم التحرير وإرجاع الأرض والحقوق، فيما ينصدم بالواقع الذي يعامله كشيء زائد على الحياة ويحاول الهيمنة عليه بكل الطرق، فيصاب بنوع من التشتت والقلق، كأنه لا مُنتم.
ويقول إيرك فورم عن الاغتراب في كتابه “المجتمع السوي”: “الشخص المغترب لا يعود على علاقة بنفسه بقدر أنه لا يعود على علاقة بأي شيء آخر، وهو يعيش – شأن الآخرين – كما تُعاش الأشياء، هو يعيش بالحواس والحس المشترك، لكنه في الوقت نفسه دون أن يتعلق بذاته أو بالعالم الخارجي على نحو مثمر”.
تناولت السينما الفلسطينية الجديدة ذلك النوع من الاضطراب داخل أفلامها بلمسة ذاتية ما بعد حداثية، ربما يتهمها البعض بأنها لا تخدم منحى النضال الفلسطيني بل تطيح به، بيد أن خروج تلك الموجة عن المألوف سلط الضوء على المواطن الفلسطيني داخل سياقه المجتمعي كفرد مهمش مجبول على قضية تصنع مصيره كشيء مركزي يدور حوله في دوائر.
إلا أنها تسمح له – هذه الأفلام – في الوقت ذاته أن يكون شخصًا مفرطًا في عاديته، تخلع عنه كل الجدية الممكنة التي تحيطه بطبقات يختفي تحتها كإنسان له حضور بمعزل عن القضية السياسية في الأساس. والحق أن القضية تظل موجودة في البناء القصصي والسردي كشيء مؤثر له وجود على الأرض، إنما تنحرف البوصلة لتكتنف بتجريبية جريئة صوت جديد وخيط مستحدث.
والحق أن السينما الفلسطينية منذ بدايتها ذات خصوصية شديدة، فهي ليست مجرد وسيلة للمقاومة، إنما مؤشر لتباين وتحول الأنساق الفكرية والأنماط السلوكية التي تطبع الاتجاهات العامة في فلسطين كقطاع منغلق على ذاته بفعل الاحتلال، وإعطاء تصور عن تطور مفهوم الهوية في ذلك القطاع.
تجري أمواج السينما الفلسطينية منذ موجتها الأولى بداية من عام 1948 مرورًا بالموجة الثانية والثالثة حتى اختفاء أرشيف السينما الفلسطينية عام 1982 وقد آب جريها إلى سيرٍ بطيء، ليتلقفها الجيل الرابع أو كما يسميهم النقاد الموجة الجديدة في السينما الفلسطينية التي بدأت على يد ميشيل خليفي وإيليا سليمان وغيرهما من الأسماء المهمة في عالم السينما العالمية، لتبدأ قصة الصراع الهوياتي الفردي لدى كل مخرج معبرًا عن تجارب ذاتية بعيدة عن النضال الوطني النموذجي أو أقاصيص البطل الشعبي.
إيليا سليمان
من النظرة الأولى لأعمال إيليا سليمان، سنجد أن أفلامه تنتمي لما يسمى “Art House”، ذلك النوع من الأفلام الذي يحتاج إلى عدة مشاهدات لتفكيكه والظفر بمفازاته، وهذا النوع غريب بشكل عام على السينما العربية والفلسطينية، لأنه يحتاج إلى نوع من الأصالة في الحكي، ويتسم بالطرح الجريء والشجاعة في كسر الأنماط السردية، مثل أفلام تساي مينغ ليانغ وإدوارد يانغ وتاركوفيسكي وغيرها من الأعمال التي تُحركها مشاريع فنية أصيلة أو ذاتية مفرطة، التي ليس بالضرورة تفشل في شباك التذاكر، لكنها تنجح في إبهار محكّمي المهرجانات وعشاق السينما.
في روايته للأفلام يتحرك إيليا من كونه ذاتًا ووعيًا مستقلًا، ولا يُلزم نفسه برواية تاريخية معينة، بل ينطلق من شهادات فردية وتنوع شخصي يُعطيه القدرة – إذا أراد – على إلغاء الماضي وإفشال الذاكرة، ويمنح لنفسه حرية تامة للتحرك في المكان والزمان برقة ونعومة، سرديته تخفق وتنطفئ في متوالية لا تلتزم بخط تقليدي، إنما تعتمد على الموقف بشكل أعمق وأبطأ، تثبّت الزمن وتتأمل الفرد المهمش، تحتفي بالعادي واليومي بهزلية لا تُغير الحقائق، لكنها تؤكد ارتيابه من التجربة المشتركة وانتصاره للفرد بتفاصيله اليومية وقلقه اللحظي وعاطفته المتغيرة.
يقول إيليا في محاورة مع آن بورلوند: “أنا لا أريد أن أحكي قصة فلسطين، حقي كفلسطيني فقد دلالته في أن يكون نقطة انطلاق لأعمالي، على الأقل من الناحية السياسية، بالطبع أنا على دراية بضرورة مشاركة الخلق في لغة مشتركة وطريقة حياة آمنة وديمقراطية، لكنني سأظل دائمًا أشكك في هذه المؤسسات الجماعية المسماة الأمة/دولة، مصطلح الجذور/التراث لا معنى له بالنسبة لي، الأرض ليست العنصر الذي يحفز العاطفة في حالتي”.
لذلك يبتعد إيليا عن الأفكار النمطية في الدفاع عن القضية بناء عن الوعي الجمعي، فأفلامه لا تبدأ من الأرض أو الملموس، بل تبدأ من الذاتي واليوميّ، وبدلًا من الاهتمام بالسرد الجغرافي كما يفعل غيره، يحاول حشد أكبر عدد من التفاصيل اليومية، ليصنع حبكة صورية تطفو على السطح، مثل الفلسطينيين بالضبط، لكن في الحقيقة هو يحاول – في مشروع فني غير مسبوق بالسينما الفلسطينية – نقل الوضع الداخلي الدائر في شوارع فلسطين، والنظر في دواخل الفرد الفلسطيني بعد أن أصابته لوثة الانحلال الهوياتي تحت وطأة الاحتلال الذي سلبهم حق الوجود المُستقل ككائنات فردية، ليلبثوا في أماكنهم، مجرد تمثيل رمزي لكيان فلسطيني يحاول النهوض من الرماد.
يخلق إيليا في ثلاثيته الشهيرة (سجل اختفاء – يد إلهية – إن شئت كما في السماء) لغة سينمائية متفردة تمزج بين التوثيق والسرد الدرامي، يستخدم منهجية الكاميرا الثابتة “Static Camera” مثل ياسوجيرو أوزو وإدوار يانغ، وهي تقنية صعب تطويعها في ظل الانفتاح الحداثي والمُخالطة بين الأنواع الفيلمية/Genres، وفي وجود المجتمعات الرأسمالية التي تُطالب بنوعية معينة من الأفلام ذات السرد المتلاحق، بيد أنه يطوع الكاميرا ويمزج بين نزعة تسجيلية لظواهر اجتماعية تكثف عاطفة الفرد، وسردية ذاتية مركبة تتسم بالهدوء والكوميديا السوداء.
تبدو أفلامه للوهلة الأولى مجرد خفقان، مثل منارة تقع على بحر هائل، تخفق لتُرشد السفن لبر الأمان، عدا أن أفلام سليمان غرضها الأول طرح الأسئلة وليس الإجابة عنها، يقطع سليمان حبكة الفيلم، ويصنع تتابعًا له صوت معين، ثم يُخِل بهذا التتابع على نحو ساخر، ويخلق تتابعًا آخر بصوت مختلف، يوقف الزمن ليُعبئ أكبر قدر من العاطفة، كأنه يصنع تشوهات في الزمان، يثنيه ويُقيمه حتى يصل للنهاية، ويدفع الأحداث لأكثر من ذروة منفصلة، وفي النهاية يجمع كل هذه التشوهات والانثناءات والوقفات لتشهد على تمزق الهوية الفلسطينية.
ويقول سليمان عن سينماه: “أنا أود أن أفتح الطريق لفضاءات متعددة تصلح لقراءات مختلفة، أحاول خلق صورة تسمو فوق التعريف الأيديولوجي لما يعنيه أن تكون فلسطينيًا، صورة بعيدة تمامًا عن أي صورة نمطية”.
تتضافر جميع السمات الفيلمية التي يحوّرها سليمان لتصنع تلك الفضاءات أو المساحات، وتظهر المساحة الخاصة به هو، مساحة ثالثة تتسم بهوية شعرية، تعبر عن هواجسه وتخيلاته، وتصنع هويته المشوشة، وتوضح علاقته بالأرض ذاتها، هذه المشاهد الساخرة والفنتازية تؤكد على منهجيته المتحررة من السردية التقليدية، مثل أن يختار قصة من بين قصص كثيرة، قصة موجودة في اليومي، وإذا انخلع رداء اليومي بهتت القصة وذوت، إلا أن خلف كل الأقاصيص الصغيرة قصة أكبر على المشاهد أن يكتشفها، عن معنى الهوية الفلسطينية.
في أفلام سليمان تظهر الكثير من المشاهد الساخرة أو غير القابلة للحدوث في العالم الواقعي، في فيلم (سجل اختفاء)، يبث الراديو أخبارًا مضحكةً وغريبةً وليس لها وجود: بنت جميلة تحاول البحث عن مسكن ورغم جمالها لا تجد، رجل عجوز يهزم مجموعة من الشباب في تحدي الساعد، جنود يقتحمون منزل إيليا لكنهم يتجنبوه كأنه ليس من الموجودات، مثل هواء، لا ينتمي لهوية معنوية أو حتى مادية.
وعلى نفس الوتيرة في فيلم “يد إلهية”، يستعين الضابط بشاب مغشي على عينيه بقماشة لكي يصف لفتاة الطريق، والغريب أنه يستطيع وصف الطريق للفتاة وهو معمي، وعلى هذا المنوال تتقدم القصة، مشحونة بسرد فاقد للمنطق، لكن له دلالة يتلقاها المشاهد ويفسرها حسب ما أراد.
يرتبط سليمان في حكيه بالمكان، فهو دائمًا ما يصوّر في منزل والديه بالناصرة، لأنه المجتمع الذي يعرفه أكثر من أي شيء، أو لا يعرفه على الإطلاق فيستكشفه عن طريق أفلامه.
ويقول سليمان في مقابلة مع جاسون وود، في محاولة لربط المكان بفيلمه الأول مع طبيعة الفيلم: “الناصرة هو غيتو، تنبعث روح الدعابة من التعامل مع سكان هذا الغيتو، الذين يقعون تحت حالة من الركود الخانقة، لعجزهم عن تغيير هذا الواقع، وفشلهم في الانفكاك أو التملص من القوى الحاكمة التي تُهيمن عليهم، ما يجعلهم في النهاية يفرجون عن غضبهم في وجوه بعضهم البعض ويتناحرون”.
في كثير من الأحيان يستخدم سليمان المنزل كشيء منعزل عن الجغرافيا الخارجية، متفرد في ذاته، ينقطع عن العالم بشكل يناقض ما يحدث في الأفلام القديمة، وتدور حوله طبقة ثانية وهي الطبقة العامة والأماكن الأخرى، وهذا مُنعكسًا على حقيقة كون فلسطين مغتصبة.
بجانب هذا يستخدم إيليا نفسه كأداة صامتة تمامًا، في كل أفلامه لا يصدر إلا الحركة فقط، ويعبر بوجهه ولغة جسده، لكن لا يتكلم إلا في مناسبات قليلة جدًا، يستخدم العيون لتصدير المشاعر، واليدين للتعبير عن الحب والشوق، كما في مشهد السيارة، يعبر إيليا بجسده كثيرًا، يتحرك في الفضاء، يقترب ويبتعد ويتلامس مع من يحبهم، إنه يُمثل الفرد الفلسطيني المكبوت والمحروم من كل الكلام.
وعلى ذكر ذلك، في ثلاثيته المذكورة سابقًا، لا يهتم ببناء الشخصيات، ولا يمهد للمشاهد قبل دخولهم، بل يترك الشخوص تتحرك في المشهد فقط دون سابق معرفة، تظهر دون سبب، وتختفي دون سبب، وحينما تظهر الشخوص تجترح أفعالًا عادية، وتقوم بأشياء مألوفة لحظية حسب المواقف الواقعة فيها، لكنها تُفرّج عن عاطفة مكثفة، بحيث يتم تأطير كل الشخصيات عن طريق العقل أو العاطفة، لا عن طريق نتائج ملموسة تظهر بالتتابع، لأن الكثير منهم يختفون ولا يعودون إلا في مشاهد خاطفة، ولا يضمنون إكمال قصة أو إظهار نتيجة، كأنها لعبة اختفاء وظهور.