شن الاحتلال الإسرائيلي حربه الأولى على قطاع غزة في 27 ديسمبر/كانون الأول 2008 بعد أن سيطرت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” عليه عام 2007، إثر أحداث الانقسام السياسي الداخلي مع حركة فتح والأجهزة الأمنية المحسوبة عليها.
بدأ الاحتلال الإسرائيلي حربه على قطاع غزة التي أطلق عليها اسم “عملية الرصاص المصبوب”، وردت عليه المقاومة الفلسطينية في القطاع بعملية أسمتها “معركة الفرقان”، فيما كان الهدف الذي وضعته قيادة الاحتلال لهذه الحرب هو “إنهاء حكم حركة حماس في القطاع”، والقضاء على المقاومة الوطنية الفلسطينية ومنعها من إطلاق الصواريخ.
إلى جانب ذلك الهدف الذي أطلقته قوات الاحتلال وحكومتها التي كان يتزعمها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أيهود أولمرت، كان أحد الأهداف التي حددتها الحكومة الوصول إلى الجندي الإسرائيلي الأسير في غزة لدى المقاومة آنذاك جلعاد شاليط.
اليوم يتشابه الموقف إلى حدٍ ما مع تلك الحرب مع اختلاف التفاصيل الأخرى، إذ أعلنت حكومة بنيامين نتنياهو أن الحرب الحاليّة تهدف إلى القضاء على حركة حماس واستعادة الأسرى الإسرائيليين في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” التي دشنتها المقاومة، ردًا على الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى، في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
تبدو المقاومة الفلسطينية وتحديدًا حركة حماس أمام اختبار من الاختبارات الصعبة، في ظل التحريض الدولي عليها والدعم الأمريكي للاحتلال الإسرائيلي للفتك بالفلسطينيين في غزة، تحت غطاء وقف عمليات المقاومة ونزع سلاحها في القطاع.
رغم ذلك فإن حرب عام 2008/2009 لم تسفر لا عن القضاء على حركة حماس أو إسقاط حكمها أو حتى استعادة الجندي شاليط، ورأى الاحتلال نفسه مجبورًا على عقد صفقة تبادل والتفاوض غير المباشر مع الحركة عبر الوسطاء سواء المصريين أم الألمان وغيرهم.
حرب عام 2008/2009.. ما الذي جرى؟
في 26 ديسمبر/كانون الأول 2008 خرجت وزيرة الخارجية في حكومة الاحتلال تسيبي ليفني بتصريحها الشهير من العاصمة المصرية القاهرة بعد لقائها بالرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك وقالت: “حماس: كفي كفى” وباللغة الإنجليزية: “Enough is enough”.
لاحقًا فُسر هذا التصريح فلسطينيًا بأنه إعلان صريح وواضح للحرب من العاصمة العربية ضد غزة، وتسبب في أزمة بين النظام المصري والاحتلال الإسرائيلي من جانب وحركة حماس والنظام المصري من جانب آخر نظرًا لما حصل في اليوم الأول للحرب.
ففي 27 ديسمبر/كانون الأول 2008، بدأ الاحتلال الإسرائيلي عدوانه العسكري على قطاع غزة بعملية أسماها “الرصاص المصبوب”، في حين اختارت المقاومة الفلسطينية أن تسميها “معركة الفرقان”، واستمرت نحو 23 يومًا، وانتهت بتهدئة دامت 6 أشهر تم التوصل إليها برعاية مصرية في يونيو/حزيران 2008.
أسفرت الحرب عن نحو 1500 شهيد ودمار هائل في البنية التحتية بغزة، ورغم انتهائها ومرور سنوات عليها، لم يعاقب قادة الاحتلال الإسرائيلي على جرائمهم في حق القطاع وسكانه، رغم إقرار منظمات دولية وحقوقية في تقاريرها بوقوع جرائم حرب بحق المدنيين الفلسطينيين.
أطلقت المقاومة الفلسطينية خلال هذا العدوان 980 صاروخًا وقذيفةً تجاه مدن ومستوطنات الاحتلال وقواعده العسكرية
سبقت “معركة الفرقان” عملية إسرائيلية خرقت بها التهدئة في 4 نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته، حين نفذت عملية استهدفت 6 من كوادر حركة حماس، ما أدى إلى استشهادهم جميعًا، غير أن الجانب الفلسطيني تحلى بضبط النفس وآثر استمرار التهدئة.
خلال الحرب استهدف الاحتلال كل المرافق الحيوية في القطاع، بالإضافة إلى المدارس والجامعات والمساجد والمستشفيات والمراكز الطبية ومراكز وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ومنها مدرسة الفاخورة في جباليا شمال غزة التي تم استهدافها في 6 يناير/كانون الثاني 2009 بقنابل الفسفور الأبيض الحارقة، ما أدى إلى استشهاد 41 مدنيًا وإصابة العديد بجروح وحروق.
واستخدم الاحتلال عددًا من الأسلحة المحرمة دوليًا في مقدمتها اليورانيوم المنضب، حيث حملت أجساد بعض الضحايا آثار التعرض لمادة اليورانيوم المخفف بنسب معينة، وكذلك الفسفور الأبيض، واتهمت منظمة “هيومن رايتس ووتش”، “إسرائيل”، باستخدام الأسلحة الفسفورية.
ولعل من أبرز تفاصيل هذه الحرب ما جرى صبيحة يوم 27 ديسمبر/كانون الأول 2008، حين نفذت نحو 80 طائرة عشرات الغارات الجوية على قطاع غزة خلال وقت قصير، استهدفت الأحياء السكنية ومقار ومراكز عسكرية وأمنية وشرطية تابعة لحركة حماس، وتسببت باستشهاد أكثر من 200 فلسطيني وجرح أكثر من 700 آخرين.
وبعد مرور 21 يومًا وتحديدًا في 19 يناير/كانون الثاني 2009، بدأت قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي البرية انسحابًا تدريجيًا من قطاع غزة بعد تطبيق وقف إطلاق النار، وفي 21 يناير/كانون الثاني 2009، أكمل الاحتلال انسحابه من قطاع غزة، وعادت الحياة إلى طبيعتها بعد 23 يومًا من العدوان.
وقد أطلقت المقاومة الفلسطينية خلال هذا العدوان 980 صاروخًا وقذيفةً تجاه مدن ومستوطنات الاحتلال وقواعده العسكرية، وأسفر العدوان على غزة عن استشهاد نحو 1500 من بينهم 926 مدنيًا و412 طفلًا و111 امرأةً، فيما فقد الآلاف بيوتهم، إذ تشرد أكثر من 9 آلاف شخص ودمر 34 مرفقًا صحيًا وانهارت 67 مدرسةً ودمر 27 مسجدًا، وغير ذلك من الخسائر في البنية التحتية.
من مباغتة إسرائيلية لمباغتة المقاومة!
بعد مرور نحو 16 عامًا على معركة الفرقان فإن المقاومة الفلسطينية التي اشتد عودها مع كل جولة تصعيد وحرب خاضتها من 2008 حتى مايو/آيار 2023، نجحت في الوصول إلى حالة تشكل معها تهديدًا للاحتلال الإسرائيلي خلال الفترة الماضية.
وفي فجر السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بدأت المقاومة هجومًا وصفته بالإستراتيجي شمل هجومًا بريًا وبحريًا وجويًا وتسللًا للمقاومين إلى عدة مستوطنات في غلاف غزة، حيث أعلن عن العملية محمد الضيف، قائد الأركان في كتائب عز الدين القسام.
تسلل المقاومون الفلسطينيون إلى مستوطنات غلاف غزة عبر السياج الحدودي وعبر وحدات الضفادع البشرية من البحر، إضافة إلى مظليين من فوج “الصقر” التابع لكتائب القسام، وتحدث الضيف في رسالة صوتية قائلًا: “نعلن بدء عملية طوفان الأقصى بضربة أولى استهدفت مواقع ومطارات وتحصينات عسكرية للعدو”، وأضاف أن هذه الضربة الأولى تجاوزت 5 آلاف صاروخ وقذيفة خلال أول 20 دقيقة من العملية.
اعتبر الضيف أن “اليوم هو يوم المعركة الكبرى لإنهاء الاحتلال الأخير على سطح الأرض”، ودعا الفلسطينيين في الضفة الغربية وأراضي 48 للانضمام إلى هذه الحرب بكل ما يملكون من أسلحة نارية وأسلحة بيضاء، وبالاحتجاجات والاعتصامات، كما دعا الشعوب العربية والإسلامية إلى الدعم بالمظاهرات والاعتصامات، وكل أشكال الضغط الشعبي.
وبدأت العملية في شكلها الحاليّ مغايرة تمامًا لما جرى في معركة الفرقان من ناحية الأداء العملياتي للمقاومة الفلسطينية والانتقال من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم، مرورًا بطبيعة الصواريخ التي امتلكتها وغطت فلسطين المحتلة، خلافًا لما جرى عام 2008 حين كان أقصى مكان تصله الصواريخ هو بئر السبع.
وإلى جانب هذا، فإن المقاومة نجحت في ابتكار وحدات عملياتية جديدة كوحدة الصقر التي تقوم بعمليات إنزال جوي، بالإضافة إلى الضفادع البحرية والوحدات البرية التي تمتلكها المقاومة في غزة، وهو أمر مختلف تنظيميًا عما كان يحصل في السابق.
أما على الصعيد الآخر فإن المشهد المتشابه اليوم يتمثل في تشابه الأهداف بين إسقاط حركة حماس والقضاء عليها واستعادة الأسرى، وما جرى عام 2008 حين كان الهدف أيضًا إسقاط حركة حماس واستعادة الأسير الإسرائيلي شاليط، فيما يبقى السؤال القائم حاليًّا: هل ما فشل سابقًا – والمقاومة أقل مما هي عليه الآن – سينجح اليوم؟