كشفت صحيفة “التايمز” البريطانية النقاب عن بعض الاستراتيجيات التي تتبعها المملكة العربية السعودية للتخلص من معارضيها والمحتجين على سياسات حكمها، يأتي على رأسها “قوانين الجرائم الإلكترونية” التي باتت سوطًا يسلط على رقاب كل من تسول له نفسه أن يغرد خارج سرب النظام الحاكم.
تقرير الصحيفة البريطانية جاء في أعقاب تأييد محكمة الاستئناف السعودية حكمًا بالإعدام بحق عبد الكريم محمد الحواج، الأسبوع الماضي، بتهمة نشر أخبار عبر حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي “واتس آب”، وبالتزامن مع تنفيذ حكم الإعدام بحق 4 أشخاص سعوديين بدعوى ارتكابهم “جرائم إرهابية”.
الصحيفة اتهمت في تقريرها لندن بالتورط في دعم الرياض في ملاحقة المحتجين عبر وسائل التتبع الإلكترونية من خلال ما كشفته بشأن تدريب كلية الشرطة في بريطانيا لعناصر من الشرطة السعودية على جمع المعلومات الاستخباراتية عن المتظاهرين والمعارضين لنظام آل سعود سواء في الداخل أو الخارج، تمهيدًا لتوقيفهم ومعاقبتهم.
تطور نوعي في أساليب القمع
“إن الحكومات الخليجية استمرت بحملاتها لإسكات النقاد السلميين”، بهذه الكلمات علقت منظمة “هيومن رايتس ووتش” على انتهاكات حقوق الإنسان في دول الخليج خلال النصف الأول من العام الحالي 2017، متهمة الأنظمة الحاكمة بالعمل على تضييق الخناق على الأصوات المعارضة لها بشتى السبل.
المنظمة أشارت إلى أنه ورغم توقيع دول مجلس التعاون الخليجي باستثناء عمان على المادة 32 من “الميثاق العربي لحقوق الإنسان”، والتي تنص على “الحق في الإعلام وحرية الرأي والتعبير وكذلك الحق في استقاء الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأي وسيلة ودونما اعتبار للحدود الجغرافية”، فإنها تمارس عمليات القمع للمعارضين والنشطاء السياسيين، لمجرد ممارستهم السلمية لحرية التعبير.
مديرة قسم الشرق الأوسط في “هيومن رايتس ووتش” سارة ليا ويتسن ربطت بين أزمة قطر الأخيرة وازدراء دول الخليج وعلى رأسها السعودية لحرية التعبير وانتهاكات حقوق الإنسان، في إشارة منها إلى طلب إغلاق قناة “الجزيرة” القطرية الذي يمثل “ضربة مباشرة لحرية الإعلام”، على حد وصفها، مضيفة “تعمل دول الخليج على تخويف ومراقبة وسجن وإسكات النشطاء كجزء من هجومها الشامل على النقد السلمي، عليها التوقف عن منع المواطنين الخليجيين من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها لطلب الإصلاحات الإيجابية”.
تدريب كلية الشرطة في بريطانيا لعناصر من الشرطة السعودية على جمع المعلومات الاستخباراتية عن المتظاهرين والمعارضين لنظام آل سعود
كما استنكرت ويتسن التطور النوعي في ممارسات القمع لدى بعض النظم الخليجية والذي وصل إلى فرض عقوبات على من يتعاطف أو يؤيد بلدًا خليجيًا آخر، في إشارة منها لقطر، حيث علقت على ذلك بقولها “هذه الدول لا تزال متحدة بعناد في هجومها الجماعي على حق مواطنيها في حرية التعبير وقد وصلت دول الخليج إلى مستوى قمع جديد مع زجها بالمواطنين في السجن لانتقادهم أو تأييدهم دول خليجية أخرى”.
المنظمة رصدت بعض النماذج التي تكشف انتهاك السعودية لحقوق الإنسان ومساعي لتضييق الخناق على حرية التعبير، وهو ما حدث مع الناشط عصام كوشك، مهندس الكمبيوتر الذي سعى إلى الدفاع عن حقوق الإنسان في المملكة من خلال تسليط الضوء على قمع الناشطين والمعارضين السلميين، وطالب بإطلاق سراحهم لعدم ارتكابهم أي جرائم جنائية تستوجب العقاب، إلا أنه فوجئ باستدعاء من إدارة البحث الجنائي السعودي لاستجوابه في الثامن من يناير الماضي وتم توقيفه بالمطار واحتجازه وإيداعه سجن مكة العام دون إبداء أي أسباب.
استدعت وزارة الداخلية السعودية لعدد من الصحفيين والناشطين ورجال الدين، وحذرتهم من التعبير عن آرائهم الشخصية، مهددة إياهم بالسجن حال مخالفتهم لتلك التعليمات
منظمات حقوقية تدين انتهاكات السعودية بحق العشرات من المعارضين والنشطاء
إخماد المعارضين بالتجسس
النظام السعودي لا يتوانى في التجاوب مع المستجدات التكنولوجية المتاحة لترسيخ أركانه وإسكات كل الأصوات المناهضة له سواء في الداخل أو الخارج، وهو ما دفعه للبحث عن كل ما هو جديد في تقنيات المراقبة والتجسس.
صحيفة “وول ستريت جورنال” في الثالث من يوليو الحالي ذكرت أن بعض المسؤولين العاملين مع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، قد اشتروا برامجًا إلكترونية من أوروبا وأمريكا خاصة من شركة “هاكينج تيم” الإيطالية لمنع توجيه أي انتقادات للحكومة ولا النظام الحاكم من خلال التجسس على السعوديين على الإنترنت وجميع شبكات التواصل الاجتماعي.
تلك البرامج المشتراة حديثًا تمكن الحكومة السعودية من فرض سيطرتها على كل منافذ الشبكة العنكبوتية داخل المملكة، مما يعني وبكل سهولة التعرف على أي مواطن يغرد خارج السرب، أو ينشر مواد من شأنها أن تسيء للنظام أو المسؤولين، في محاولة لقمع أي صوت معارض يفكر في التشويه أو الانتقاد، وذلك بالمخالفة لما وقعت عليه الرياض من مواثيق تتعلق بحرية التعبير والإعلام وحق المواطن في المعرفة.
مديرة قسم الشرق الأوسط في “هيومن رايتس ووتش” سارة ليا ويتسن ربطت بين أزمة قطر الأخيرة وازدراء دول الخليج وعلى رأسها السعودية لحرية التعبير وانتهاكات حقوق الإنسان
وقد نقلت الصحيفة عن مسؤولين سعوديين وأمريكيين قولهم “جهود الديوان الملكي لإخماد المعارضين داخل المملكة تشمل الرقابة وفي بعض الحالات اختراق الحسابات الشخصية لبعض النشطاء والمدونين على شبكات التواصل الاجتماعي”.
الصحيفة الأمريكية كشفت عن استدعاء وزارة الداخلية السعودية لعدد من الصحفيين والناشطين ورجال الدين، وحذرتهم من التعبير عن آرائهم الشخصية التي تحمل أي شبهة انتقاد أو تحفظ على سياسات المملكة على مواقع التواصل الاجتماعي، مهددة إياهم بالسجن حال مخالفتهم لتلك التعليمات.
العديد من النماذج أوردتها الصحيفة للتأكيد على انتهاج النظام السعودي لسياسات القمع وإجبار النشطاء والدعاة على التوقف عن التعبير عن آرائهم، من بينها توقف الداعية بدر العامر عن الكتابة في موقع “تويتر” في الرابع عشر من يونيو لأسباب لم يعلن عنها وإلى أجل غير مسمى، كذلك المستشار القانوني السابق في الحكومة السعودية إبراهيم المديميج، والذي برر توقفه عن الكتابة لأسباب صحية، إضافة إلى عدد من الأسماء الأخرى منها عبد الله الشهري، داود المقرن، عمر المقبل.
التواطؤ البريطاني مع السعودية سواء فيما يتعلق بالتعاون الأمني أو غض الطرف عن تورطها في تمويل الإرهاب في بريطانيا ليس من قبيل التطوع، إذ إن هناك ثمن تسعى لندن للحصول عليه
إجبار الدعاة على التوقف عن التغريد وإلا السجن
لماذا بريطانيا؟
صحيفة “التايمز” البريطانية في تقريرها سالف الذكر أشارت إلى ضلوع الداخلية البريطانية في ممارسات القمع وانتهاكات حريات التعبير في السعودية من خلال تدريبها عناصر من الشرطة السعودية على آليات وسبل جمع المعلومات الاستخباراتية عن المعارضين للمملكة على الشبكة العنكبوتية، ومن ثم يسهل تقديم التهم لهم وحبسهم في ظل قانون الجرائم الإلكترونية التي أقرته السعودية مؤخرًا.
تقرير الأمس الذي جاء بعد أيام مما نشرته صحيفة “الجارديان” بشأن عرقلة رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي لنشر تقرير يفضح تورط السعودية في تمويل الإرهاب في بريطانيا، يدفع للتساؤل: لماذا بريطانيا؟ وماذا تريد من السعودية في مقابل تسترها على تمويلها للإرهاب من جانب ومساعدتها في تدريب عناصرها الأمنية على جمع المعلومات عن المعارضين والمحتجين لنظامها الحاكم؟
“من المرجح أن يغضب تقرير مصادر تمويل التطرف في بريطانيا المملكة العربية السعودية، إذ إنه يضعها على قائمة الممولين للإرهاب في الوقت الذي تتهم فيه دولاً خليجية أخرى بأنها الممول الرئيسي للإرهاب في الخارج”، كان هذا ملخص التقرير الذي نشرته صحيفة “الغارديان” البريطانية صباح الأربعاء الـ5 من يوليو 2017.
“نون بوست” في تقرير له نقل عن توم ويلسون – الذي أعد تقرير مصادر تمويل التطرف في بريطانيا بحسب طلب البرلمان البريطاني -، قوله: “في حين أن البلاد من جميع أنحاء الخليج وإيران مذنبون بتمويل التطرف، فإن المملكة العربية السعودية بلا شك على رأس تلك القائمة”، مضيفًا “تشير الأبحاث إلى أن بعض الأفراد والمؤسسات السعودية شاركوا بشكل كبير في تصدير أيديولوجية وهابية متطرفة، لذلك من السخرية، على أقل تقدير، أن تتهم السعودية قطر بأنها الممول الأساسي للإرهاب في العالم”.
التقرير تطرق إلى عرقلة رئيسة الحكومة البريطانية نشر تفاصيل ما خلص إليه تقرير مصادر تمويل الإرهاب في بلادها رغم الحوادث الإرهابية التي تعرضت لها خلال الفترة الماضية، مرجعًا ذلك إلى كونه ينطوي على انتقادات للسعودية بالضلوع في عمليات التمويل حسبما جاء على لسان عضو البرلمان وزعيمة حزب الخضر، كارولين لوكاس.
وبالأمس جددت وزيرة الداخلية البريطانية آمبر رود، رفضها لنشر التقرير، وعزت هذا الأمر إلى اعتبارات تتعلق بالأمن القومي للبلاد، قائلة: “لن ينشر التقرير بسبب حجم المعلومات الشخصية التي يحتويها ولأسباب تتعلق بالأمن القومي”، في حين قالت المعارضة إن الأمر يتعلق بإخفاء معلومات قد “تورط” السعودية.
من المرجح أن يغضب تقرير مصادر تمويل التطرف في بريطانيا المملكة العربية السعودية، إذ إنه يضعها على قائمة الممولين للإرهاب في الوقت الذي تتهم فيه دولاً خليجية أخرى بأنها الممول الرئيسي للإرهاب في الخارج
بريطانيا تغض الطرف عن تقرير يفضح تورط السعودية في تمويل الإرهاب
التواطؤ البريطاني مع السعودية سواء فيما يتعلق بالتعاون الأمني لترسيخ أركان النظام الحاكم من خلال قمع المعارضين وكبت الحريات أو بغض الطرف عن تورط الرياض في تمويل العمليات الإرهابية في بريطانيا، وعرقلة نشر تقرير يفضح ذلك، بلا شك أنه ليس من قبيل التطوع إذ إن هناك ثمن تسعى لندن للحصول عليه مقابل مواقفها الحالية.
فبريطانيا عقب خروجها من الاتحاد الأوروبي فقدت العديد من الامتيازات التي طالما تمتعت بها في السوق الأوروبية المشتركة، مما دفعها للبحث عن مصادر بديلة لتعويض هذا الفقد، فكانت السعودية بما لديها من ثراء نفطي واحتياجات عسكرية متزايدة أحد أبرز تلك الخيارات أمام الحكومة البريطانية.
الصادرات البريطانية إلى دول الخليج بلغت 13.6 مليار جنيه إسترليني (نحو 16.5 مليار دولار) في 2014، كما بلغت قيمة الاستثمارات الخليجية في بريطانيا 200 مليار دولار، حصة العقارات منها 45 مليارًا، مما يمثل 40% من الاستثمارات الخليجية في العقارات بأوروبا، إضافة إلى ذلك فإن المملكة تعد أبرز منشطي سوق السلاح البريطانية.
الحكومة البريطانية تهدف إلى فتح فرص استثمارية جديدة في السعودية خلال السنوات القادمة تعوض بها ما خسرته عقب خروجها عن عباءة الاتحاد الأوروبي وهو ما جسدته التصريحات الصادرة عنها والتي تقول إن هناك فرص تقدر قيمتها بـ30 مليار جنيه إسترليني للشركات البريطانية، للاستثمار في 15 مجالاً مختلفًا في الخليج، خلال السنوات الخمسة المقبلة.
وهكذا يُكشف النقاب عن حلقة جديدة من المخطط السعودي لإجهاض كل أشكال المعارضة داخل المملكة، مستعينة في ذلك بما لديها من قدرات ونفوذ مادي يؤهلها لشراء ذمم بعض المسؤولين أو الحكومات هنا وهناك، ليصبح الطريق ممهدًا أمام محمد بن سلمان للجلوس على كرسي العرش خلفًا لوالده حتى لو كان ذلك على جماجم وجثث المعارضين والمحتجين من السعوديين.