تتركُ الحروب آثارًا عديدة أكثر تعقيدًا وعمقًا مما نتخيل، تتعدى كونها آثارًا جسدية أو عضوية وتمتد إلى الآثار النفسية والعقلية التي قد تبقى وتمتد سنين طويلة حتى بعد أن تشفى الجراح وتختفي، وليس غريبًا مع ما يمر به عالمنا العربي من أحداث خلال العقود الأخيرة، وجود آثار واضطرابات نفسية لدى الآلاف من الأشخاص.
الكثير من البحوث والدراسات توصلت إلى أن الأطفال الذين تعرضوا لمخاطر الحروب وعايشوها معرضون بشكلٍ خطير للإصابة بالمشاكل العقلية والنفسية التي يمكن أن تمتد آثارها على مدى سنين طويلة قد تمتد طيلة العمر
تبدأ الآثار العميقة في غالبية الحالات بتطور الاضطراب النفسي المعروف بـ”اضطراب ما بعد الصدمة” أو “Post-Traumatic Syndrome Disorder”، ويرافق الاضطراب العديد من العوامل التي يسهل ملاحظتها وتمييزها مثل صعوبة النوم أو محاولة تجنبه خوفًا من الكوابيس المتكررة والمتعلقة بالحرب وذكرياتها، فقدان السيطرة على المشاعر والغضب الشديد، تجنب الحديث عن أمور متعلقة بأحداث الحرب أو الذهاب لأماكن يمكن لها إعادة بعض الذكريات الأليمة، ضعف الثقة بالنفس والتواصل الأسري أو الاجتماعي، إلى جانب اضطراب بعض المعاني الوجودية مثل الإيمان والحياة والموت والتفكير بالانتحار، وغيرها من العوامل التي تختلف من شخص لآخر ومن عمرٍ لآخر.
الكثير من البحوث والدراسات توصلت إلى أن الأطفال الذين تعرضوا لمخاطر الحروب وعايشوها معرضون بشكلٍ خطير للإصابة بالمشاكل العقلية والنفسية التي يمكن أن تمتد آثارها على مدى سنين طويلة قد تمتد طيلة العمر، فتؤثر على مجرى حياة الشخص من جهة، وعلى علاقاته بأسرته ومجتمعه بمؤسساته المختلفة من جهة أخرى.
وفقًا لتقارير رسمية تركية فإن 55% من اللاجئين السوريين يحتاجون إلى خدمات نفسية
وبحسب الهيئة الطبية العالمية فإن 54% من اللاجئين يعانون من اضطرابات عاطفية جدية، بالإضافة إلى أن 26.6% من الأطفال يواجهون تحديات فكرية ونموية كبيرة.
ووفقًا لتقارير رسمية تركية فإن 55% من اللاجئين السوريين يحتاجون إلى خدمات نفسية، ونحو نصف الأسر السورية بحاجة إلى الدعم النفسي، ومع ذلك، تشير التقديرات إلى أنه لا يتم توفير سوى 5% من العلاج النفسي اللازم للاجئين في الأردن ولبنان وتركيا.
العلاج
طور علماء النفس في السنين الأخيرة الكثير من الأساليب والمدارس المتخصصة في علاج اضطراب ما بعد الصدمات واضطرابات الحروب بشكلٍ خاص، منها العلاج المعرفي أو ما يُعرف “Cognitive Therapy” أو العلاج المعرفي السلوكي “Cognitive Behavioral Therapy”.
كلا العلاجين يقومان على تغيير أفكار وسلوكيات المريض السلبية وتحويلها إلى أفكار أكثر إيجابية متصالحة مع الواقع، من خلال جلسات عديدة متنوعة تكون بشكلٍ فردي أو مع مجموعة من الأشخاص الذين عانوا وعايشوا نفس التجربة المؤلمة غالبًا، يعمل المعالج من خلالها على مساعدة المريض لإدراك تصرفاته وأفكاره الحالية والعمل على تغييرها بطريقة تساعد في معالجة التجارب النفسية الأليمة بطرقٍ مختلفة.
ولأنشطة الدعم الاجتماعي والأسري آثارًا بالغة الأهمية في علاج اضطرابات ما بعد الحروب، فالكثير من الدراسات توصلت إلى أن نقص الدعم الاجتماعي أدى إلى تدهور مضاعفات الصدمة وتردي الحالة النفسية.
أساليب علاج ما بعد الصدمات أخذت طريقها في علم النفس للمرة الأولى بعد الحرب العالمية الأولى، لعلاج الجنود والمدنيين المتضريين نفسيًا من الحرب وآثارها
ويُعرف الدعم الاجتماعي بتوفير الموارد النفسية والمادية التي تساعد الفرد على مواجهة الصدمات والتغلب عليها، ويأخذ هذا الدعم أشكالًا مختلفة وطرقًا عديدة، منها الدعم العاطف أي تعزيز السلوكات والتصرفات التي تُشعر المصاب بأنه مُحتوى ممن حوله، بالإضافة لتعزيز ثقته بنفسه بكونه محبوبًا ومُتقبلاً في ظروفه كافة، فصدمات ما بعد الحروب عادة ما تؤثر على ثقة الفرد بنفسه ومجتمعه.
ولو عدنا بالتاريخ للوراء، لرأينا أن أساليب علاج ما بعد الصدمات أخذت طريقها في علم النفس للمرة الأولى بعد الحرب العالمية الأولى، لعلاج الجنود والمدنيين المتضريين نفسيًا من الحرب وآثارها، ومنذ ذلك الحين أخذ العلاج بالتطور يومًا بعد يوم، ليحتوي أشكالًا عديدة وطرقًا شتى هدفها حماية الفرد من ذكرياته المؤلمة وإعادة تأهيله في الواقع والمجتمع.
وفي حال عدنا بالأرقام التي تم ذكرها في فقرةٍ سابقة، فسنرى أن الأرقام والنسب مهولة فيما يخص العالم العربي خاصة في الدول التي أصابتها الحروب في السنوات الماضية، فبعد كل ما مر بتلك الشعوب وعايشته دون أن تتلقى العلاج الكافي وأشكال الدعم الوافية، ألا يخطر في بالنا أن نتساءل كيف بإمكان كل أولئك الشباب والأطفال أن يصمدوا في هذه الحياة دون التفكير في الانتحار؟ أو ما شكل المجتمع الناتج عن كل هذه الحالات المليئة والمعبأة بكل تلك الآلام المتروكة دون علاج؟