الأسرة هي المجتمع الأول الذي يبدأ الطفل في بناء علاقة اجتماعية معه. ويتفاعل معه بالطريقة التي يتعلمها من هذا المحيط الصغير والذي لا يعرف بوجود غيره. وعادة ما يتعامل الآباء بطرق مختلفة مع أبنائهم، باختلاف الهوية الجنسية للطفل، وذلك لإكساب الطفل سلوك معين يلائم المعايير الاجتماعية التي تضمن له التقبل الاجتماعي والاندماج داخل هذه المنظومة الكبيرة.
وتبقى عملية تحديد أدوار الطفل في المجتمع وتشكيل سلوكه داخل الإطار المجتمعي، أمر مشترك بين مؤثرات البيئة المحيطة والمجتمع والثقافة والعادات والتقاليد والقوانين الذي يعيش ضمنها ويتفاعل معها. فهذه العوامل جميعها تُنشئ أساليب الفكر والعاطفة والفعل لدى الطفل منذ السنوات الأولى.
من البديهي أن تكون هذه التنشئة هي الأساس في تكوين الأسلوب الخاص للفرد وتعريفه باتجاهاته السلوكية والعاطفية في التعامل مع الناس
مؤخرا كشفت دراسة عن اختلاف ردود فعل الآباء الذين لديهم أولاد عن آباء الفتيات، واختلاف استجابتهم لأطفالهم خلال التعامل معهم باللعب أو بالحديث، ولا شك أن هذه التعاملات المختلفة تعزز بعض العواطف الفطرية لدى الطفل وتشكل خامته السلوكية والفكرية. ومن البديهي أن تكون هذه التنشئة هي الأساس في تكوين الأسلوب الخاص للفرد وتعريفه باتجاهاته السلوكية والعاطفية في التعامل مع الناس، وذلك من خلال اللغة المستخدمة من قبل الآباء وطريقة الاستجابة للأطفال في أمور معينة.
يقول أستاذ العلوم النفسية والتربوية في جامعة ابن رشد، رهيف العيساوي أن “الطفل يولد صفحة بيضاء وأن تربية الآباء تضع بصماتها الأولى على تكوين شخصيته بحسب هويته الجنسية والمواقف الحياتية اليومية، والتي لها دور في تنمية المعرفة الاجتماعية لديه”. لكن في المقابل، ما هو تأثير هوية الطفل الجنسية والاجتماعية على الآباء؟
هذه السلوكيات الأبوية لا تعني أنه هناك تحيز جنسي من جانب الآباء لأي من الأبناء، فهذه التحيزات فاقدة للوعي، لكنها تعكس تأثير اللغة المستخدمة في تشكيل سلوك الأطفال بما يتماشى مع التوقعات الاجتماعية
كما يقول البروفيسور في مختبر الأنثروبولوجيا بجامعة إيموري جيمس ريلينغ، جينيفر ماسكارو “عندما يبكي طفل وينادي على أبيه، فإن الآباء يستجيبوا بطريقة أسرع للفتيات أكثر من أبنائهم الصبيان” وهذا دور اللاوعي في الدماغ الذي يتطلب انتباه واهتمام أكبر لأبنائهم من الفتيات. ويضيف أن آباء الفتيات يستخدموا عبارات عاطفية مثل “الحزن” و “الإحساس” ، والعكس تماما عند التعامل مع الأولاد فإنهم يميلون لاستخدام لغة تميل إلى الشدة والخشونة، خاصة خلال أوقات اللعب.
وهذه السلوكيات الأبوية لا تعني أنه هناك تحيز جنسي من جانب الآباء لأي من الأبناء، فهذه التحيزات فاقدة للوعي، لكنها تعكس تأثير اللغة المستخدمة في تشكيل سلوك الأطفال بما يتماشى مع التوقعات الاجتماعية وفي تأثير هوية الأطفال على دماغ الآباء وتفاعلهم مع أبنائهم.
تعامل الآباء مع الفتيات بهذا الأسلوب يساعد على زيادة مشاعر التعاطف لدى الطرفين، أما عند الأولاد تتقلص هذه المشاعر لعدم وجود داعم لها
ويضيف البروفيسور ماسكارو، “خضع الآباء لفحص الدماغ بالرنين المغناطيسي الوظيفي وعُرض أمامهم صور لأطفال مجهولين مع تعبيرات على وجوههم. وكان آباء الفتيات يستجيبون لتعبيرات الأطفال ووجوههم بتعبيرات عاطفية وفي غاية، وعلى النقيض من ذلك، استجابت أدمغة آباء الأولاد بتعبيرات حادة وقوية”. وبهذه التجربة يُكشف النقاب عن أي انحياز خفي في تعاملات الآباء مع أبنائهم من الإناث أو الذكور. ويشير إلى أهمية ملاحظة الآباء لتعاملاتهم وعباراتهم مع أبنائهم ليكون هناك وعي كامل عن كيف تتشكل تصرفاتنا وعواطفنا تجاه الآخرين.
ويضيف أن تعامل الآباء مع الفتيات بهذا الأسلوب يساعد على زيادة مشاعر التعاطف لدى الطرفين، أما عند الأولاد تتقلص هذه المشاعر لعدم وجود داعم لها.
تتفق نتائج هذه التجربة، مع دراسة أخرى نُشرت في مجلة العلوم السلوكية العصبية، تشير إلى أن الآباء الذين استخدموا لغة أكثر عاطفية مع الفتيات ويستخدمون كلمات تشجيع بعيدة عن الشدة والقوة والخشونة، بعكس التعامل مع الأولاد. ومن غير الواضح ما إذا كانت هذه الاختلافات ترجع إلى أسس بيولوجية تطورية، لكن من المؤكد أنها نتيجة للتأثير الثقافي الذي فُرض على الأسرة أولا ومن ثم على الأبناء بطريقة تربوية.
كما أن هذا يعني أن الآباء يمكن أن يكونوا قادرين على الاستجابة بشكل مختلف للأبناء والبنات. أما الاحتمال الآخر، فهو أن هناك معايير اجتماعية وثقافية وجندرية حول كيفية تعامل الآباء مع الفتيات والأولاد، ويمكن أن تكون هذه المعايير هي السبب في اختلاف سلوك الآباء مع الأطفال طبقا لهويتهم الجنسية.
وبعيدا عن هذه الاحتمالات، يقول الباحثون أنهم لا يستطيعون ربط هذه التجارب بأي نتائج طويلة الأجل بما يخص التأثيرات الاجتماعية والثقافية والعاطفية لدى الأطفال، مع حقيقة أن اختلاف تعامل الآباء مع أبنائهم منذ وقت مبكر، ساعدت على فهم اختلاف الأدوار لكل من الفتيات والأولاد داخل المجتمع.