من لحظة تأسيسه أو قل قبلها إلى الأن، لا تمرّ فترة قصيرة حتى تسمع عن أزمة داخل أروقة حركة نداء تونس أحد مكونات الائتلاف الحاكم في البلاد ووريث التجمع الدستوري الديمقراطي المنحلّ وواجهة المنظومة القديمة وقاطرتها الأساسية بعد الثورة، أزمات متكررة أدّت إلى تشظّي الحزب وانقسامه إلى أجزاء بعضها مجهري وبعضها الأخر يكابد حتى يطلّ برأسه ويرسم لنفسه مستقبلا في ساحة سياسية مليئة بالأحزاب الورقية التي لا يتعدّ أنصارها عدد أفراد العائلة أو أقلّ.
هل حدثت خيانة؟
في البداية جمع الباجي قائد السبسي الرئيس الحالي لتونس ومؤسس النداء، يساريين ودستوريين وتجمعيين ورجال أعمال ونقابيين ومستقلين حوله، وأعلن عن تأسيس حزبه في منتصف سنة 2012، وخاض به انتخابات 2014 وفاز في التشريعية والرئاسية، إلاّ أن العقد انفك لدقة خيطه وبدأ في الانفراط وانتشرت حبّاته على قارعة الطريق لمن يقدّم أكثر.
من يقدّم أكثر مالا وجاها يشتري نوابا ائتمنهم منتخبوهم على أصواتهم، إلا أنهم خانوا الأمانة وباعوا لمن يشتري، نوابا يشكّلون لوبيات مصالح داخل أروقة البرلمان، همّهم الوحيد جمع المال، أما إيصال صوت من انتخبهم والدفاع عن حقوقهم، فذلك شعار انتخابي ذهاب زمانه إلى غير رجعة.
حزب ناشئ، قال إنه يستند يرنو إلى حماية تونس من أيدي العابثين والحاقدين والطامعين فيها، إلا أن نوابه وقياداته وحتى أنصاره ورئيسه كانوا هم الحاقدين والطامعين
من ساعة ائتمنهم الشعب وصوّت لهم بكثافة وتمكنوا من الحصول على أغلبية المقاعد في البرلمان، غيّروا وجهتم وقبلتهم نحو جمع المال وكسب السلطة عوض وضع برامج لتنمية البلاد واخراجها من أزماتها المتكررة التي ضربت جلّ القطاعات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
حزب ناشئ، لم يمرّ على تأسيسه خمس سنوات، قال إنه يستند إلى الفكر الإصلاحي التونسي وإلى التراث الإنساني العالمي وقيم الحرية والعدالة الاجتماعية، وإنه يرنو إلى تكريس المواطنة وهيبة الدولة وحماية تونس من أيدي العابثين والحاقدين والطامعين فيها، إلا أن نوابه وقياداته وحتى أنصاره ورئيسه كانوا هم الحاقدين والطامعين.
أحزاب هجينة
حزب نداء تونس الذي عمل على تبييض المنظومة الحاكمة قبل الثورة تمهيدا لاستنساخ سياساتها وخياراتها الكبرى التي تتعارض بصورة كبيرة مع أي أفق ثوري أو حتى إصلاحي، لم يفلح يومًا في تنظيم اجتماع أو تظاهرة دون أن نسمع ونشاهد العصي واللكمات خلالها، عصي ولكمات واتهامات متبادلة، كانت سمة اجتماعات النداء، الداخلية والعامة، حتى انقسم الحزب إلى دكاكين حزبية، كل وزبانيته، وهذا أمر طبيعي بين أشخاص لم يكن الجامع بينهم يومًا فكرًا ولا برنامجًا وإنما المصلحة.
نداء تونس، فمشروع تونس لمحسن مرزوق، فحزب أو “تيار المستقبل” للطاهر بن حسين ثمّ “تيار الأمل” لفوزى اللومي، و”حركة بني وطني” لسعيد العايدي وصولا إلى “حركة تونس أولا” التي ينوي القيادي السابق في “نداء تونس” رضا بالحاج الإعلان عنها في الـ 24 من شهر يوليو الحالي.
كل الشقوق تقول إن مرجعيتها الفكرية، مرجعية “نداء تونس”
أحزاب ولدت من رحمة الأزمات المتكرّرة لنداء تونس التي كان منطلقها بداية الأشهر الأولى لتكوين الحركة منتصف 2012 فالنداء ضم من جملة ما ضم طيفا محسوبا على اليساريين وآخر محسوب على الدساتوريين البورقيبيين والتجمعيين ورجال أعمال، و تدعم الأمر مع تحديد القوائم الانتخابية المشاركة في الانتخابات التشريعية التي أجريت في 26 أكتوبر 2015 و رئاسة هذه القوائم في عديد المحافظات داخل تونس و خارجها، لتتطور هذه الأزمات مع بدأ تشكيل الحكومة و ظهور خلافات حول منصب رئيس الحكومة و التعيينات والحقائب الوزارية والمناصب بالإضافة الى مسألة التحالفات، خاصة التحالف مع حركة النهضة، وصولا إلى الانتدابات الجديد في صفوف الحزب.
حتّى الشقّ الذي بقي مع نجل الرئيس حافظ قائد السبسي داخل الحزب الأم نداء تونس، وصلته حمّى الانقسامات، فعوض أن تجتمع الهيئة التأسيسية للحزب بمنسقيه في الجهات الأحد الماضي، انقسمت الهيئة والمنسقين، فشاهدنا اجتماعين أول في محافظة سوسة وثان في تونس العاصمة وترأسه المدير التنفيذي للحزب حافظ قائد السبسي، ليخرج الاجتماعين ببيانين متناقضين.
وحّدتهم النهضة وفرّقتهم أيضا
في بداية تأسيسه كان القاسم مشترك بين مكونات هذا الحزب، عداء حركة النهضة الإسلامية والرغبة في الوصول إلى السلطة، ولأن هذا الهدف تحقق إثر انتخابات 2014 فقد بدا واضحا أن مهمة الحزب انتهت وأنه لن يستطيع الاستمرار موحدا من دون اعادة النظر في المبادئ التي يقوم عليها وفي الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها.
أمام هذا الوضع الجديد لم يبق أمام الكثير من قيادات النداء من هدف واضح لنشاطهم السياسي سوى العمل على تحقيق طموحاتهم الشخصية
كما وحّدتهم وجمعتهم تحت سقف واحد، فرّقتهم أيضا، فمناهضة النهضة وعدائها لم يعد مبررا كافيا لاستمرار حركة نداء تونس موحدة فهذا الترياق فقد فاعليته خصوصا بعد أن اشترك الاثنين في الحكم واختارا سياسة التوافق.
وأمام هذا الوضع الجديد لم يبق أمام الكثير من قيادات النداء من هدف واضح لنشاطهم السياسي سوى العمل على تحقيق طموحاتهم الشخصية مما زج بهم جميعا في صراع محموم حول تقلد المناصب السياسية العليا، وبما أن هذا الصراع لم يعد محكوما باعتبارات فكرية ولا حتّى سياسية فإن العوامل المساعدة على مزيد تفكك الحزب صارت أكثر حضورا من عوامل رأب صدعه.
انتهائه بانتهاء السبسي سياسيا
منذ تأسيسه ارتبط اسمه باسم مؤسسه الباجي قائد السبسي، فالنداء هو السبسي والسبسي هو النداء، فالذين صوتوا في الانتخابات التشريعية الأخيرة أكتوبر 2014، صوتوا للباجي ولم يصوتوا للذين ضمتهم قائمات النداء.
السبسي يشرف على المؤتمر الأول للحزب
وحتما سيكون مصير حزب نداء تونس كمصير أحزاب كثيرة أخرى في تونس وفي العالم ارتبطت بشخصية مؤسسها المؤثرة في الرأي العام، وقد انتهت هذه الأحزاب بنهاية المؤسس، أي خروجه من سدة الحكم، ونهاية النداء ستكون بنهاية السبسي سياسيا، خاصة وأنّه يفتقر إلى هيئات تحكيم منتخبة تبت في النزاعات الحاصلة بين أعضائه.