حينما نبدأ الحديث عن الهندسة الاجتماعية، يجب عليك أن تعرف أنها نوع من أنواع القرصنة الذي لن تستطيع حماية نفسك أمامه، فهي ليست عملية قرصنة عادية تحصن نفسك أمامها بمجموعة من برامج الحماية على جهاز حاسوبك، بل هي عملية معقدة وشديدة الذكاء مُصممة من قِبل المهندسين الاجتماعيين للتلاعب بالبشر من أجل تحفيزهم على إعطائهم معلومات خاصة أو سرية، ولا يجب أن يكون ذلك من خلال منصات بعينها، فقد تتم تلك العملية بمنتهى البساطة من خلال فيسبوك أيضًا.
يربط بعض المفكرين الهندسة الاجتماعية (Social Engineering) بمفهوم البروباجندا الذي تمت إثارته في نهاية العشرينات من القرن الماضي من قِبل بعض المفكرين، كان من بينهم “إدوارد بيرنيز“، الأب الروحي للعلاقات العامة، في وصفه للبروباجندا والذي لا يبعد كثيرًا عن وصف الهندسة الاجتماعية في أيامنا هذه قائلًا:
يعد التلاعب الواعي والذكي بأفكار وعادات الجماهير المنظمة من أهم عناصر المجتمع الديموقراطي، بحيث يكون هذا التلاعب بمثابة الحكومة غير المرئية، والتي تتشكل فيها السلطة الحقيقة للحكم.
ما يحاول أن يعبر عنه “إدوارد بيرنيز” في العبارة السابقة لا يبعد كثيرًا عما يحاول أن يعبر عنه تلك المجموعة من البشر من يحاولون “هندسة” المجتمع، فهم لا يرون في الجماهير أي شيء سوى كونهم مجموعة من الآراء والعادات المنظمة، والتي ما إن قام الجماهير بالكشف عنها لهم، سيكون من السهل على المهندسين الاجتماعيين التنبؤ بردود أفعال البشر تجاه أمور بعينها، منها نتائج الانتخابات الرئاسية على سبيل المثال.
ما هي مهمة الهندسة الاجتماعية؟
هناك ثلاثة أسلحة في أيدي تلك النخبة للتحكم بأفكار وآراء الجماهير من خلالها، وأولها هو التعليم
ليس من الضروري أن تكون مهمة الهندسة الاجتماعية هي الحصول على المعلومات فحسب، بل تحمل على عاتقها أيضًا مهنة إقناع الجماهير، قد تضمن إقناعهم بانتخاب مرشح بعينه في الانتخابات، أو بشراء منتج معين خاصة بعلامة تجارية معينة، أو باستخدام منصة جديدة للتواصل الاجتماعي، الاحتمالات كلها واردة في مجال الهندسة الاجتماعية، فالمهندسون في ذلك المجال يؤمنون أنه سيأتي الوقت الذي يكون باستطاعة أي شخص إقناع شخص آخر بأي شيء، إذا ما توفر للشخص الأول هنا المال والمصادر المناسبة.
ربما ستكون أولى نتائج بحثك على محركات البحث المختلفة إن بحثت عن معنى كلمة “الهندسة الاجتماعية” لها علاقة بالقرصنة الإلكترونية، أو عمليات الاحتيال الإلكتروني، لا اختلاف هنا على أن عمليات القرصنة والاختراق والاحتيال الإلكتروني إحدى أدوات الهندسة الاجتماعية، إلا أنها ليست بالضرورة المُحددة لها ولا هي الوحيدة.
الهندسة الاجتماعية تعود إلى مجموعة من النخبة لديهم مجموعة من المصادر ومقدار من المال مصحوبًا بمكانة رفيعة لدى السلطة أو الحكومة تُمكنهم من استخدام العلم من السيطرة على مجموعات كبيرة من الجماهير من خلال “هندسة” تلك الأجيال ليقوموا بتوجيههم إلى الوجهة التي يريدونها دون وعي من تلك الجماهير بذلك، فيمكنهم إقناعهم بما يحلو لهم من خلال تلك العملية، والتلاعب بأفكارهم و آرائهم الشخصية وعاداتهم الحالية والمستقبلية.
هناك ثلاثة أسلحة في أيدي تلك النخبة للتحكم بأفكار وآراء الجماهير من خلالها، أولها هو العملية التعليمية وطرق التدريس، ومن ثم يأتي بعد ذلك دور العلاقات العامة والدعاية والإعلان التي تتخذ صورًا ومنصات تختلف في الشكل والتصميم و تتفق في الهدف، أما الوسيلة الأخيرة فيكون الإعلام بمختلف منصاته بداية من الصحافة التقليدية والرقمية وحتى مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك و إنستجرام وتويتر وما يشابههم.
السر في الرسالة
هذه هي الميكانيكية التي تعمل بها الهندسة الاجتماعية، فهي تحفز الفرد قبل المجموعة للتفكير في وجهة معينة تحددها تلك النخبة القائمة على الهندسة الاجتماعية ذاتها، فتقوم بالتلاعب برأيه الشخصي، وتأمره بفعل ما يحلو لها
تقوم الهندسة الاجتماعية في الأساس بالتركيز على الرسالة ومحتوى النص المُستخدم في الوسائل الثلاثة المذكورة سابقًا للتحكم في أفكار الجماهير، بحيث تكون الجماهير مجموعة من المتفرجين السلبيين، يقومون فقط بتلقي المعلومات بشكل برمجي بحت، خالي من حرية التفكير أو حرية الاختيار، بحيث يستطيع القائمين على الهندسة الاجتماعية أن يتنبئوا أفعال الجماهير و ردود أفعالهم أيضًا.
يمكنك أن تتخذ الاحتيال الإلكتروني مثالًا للميكانيكية التي تعمل بها الهندسة الاجتماعية، فعندما تقرأ رسالة بريدية جديدة على صندوق الوارد لديك تبدو وكأنها مُرسلة من البنك الذي تتعامل معه تريد منك أن تضغط على رابط معين لملأ بعد النماذج المطلوبة للحصول على بعض البيانات، ونتيجة لعدم سرعة الملاحظة والوثوق السريع بتلك الرسالة، سيقع القاريء في فخ الاحتيال الإلكتروني.
هذه هي الميكانيكية التي تعمل بها الهندسة الاجتماعية، فهي تحفز الفرد قبل المجموعة للتفكير في وجهة معينة تحددها تلك النخبة القائمة على الهندسة الاجتماعية ذاتها، فتقوم بالتلاعب برأيه الشخصي، وتأمره بفعل ما يحلو لها، مثل الضغط على الرابط في حالة الاحتيال الإلكتروني، أو بتوجيه الرأي العام في صف شخصية سياسية معينة من خلال الدعاية والإعلان ومنصات التواصل الاجتماعي، ومن ثم يكون للهندسة الاجتماعية السيطرة ليس فقط على الفرد بل على الجماهير.
كيف ندافع عن أنفسنا؟
لماذا يطيع الناس الحكومات؟، وتكمن الإجابة في أنهم يقومون باستعباد أنفسهم لكي يقبلوا بأن يحكُمُهم الطغاة
ربما يبدر للأذهان سؤال منطقي عند اكتشاف أساليب الهندسة الاجتماعية في السيطرة الفكرية على الجماهير، وهو كيف يمكننا أن ندافع عن أنفسنا أمام تلك الأساليب المختلفة للمهندسين الاجتماعيين، وربما لأن الإجابة شديدة السهولة يقوم الأغلبية بتجاهل أهميتها، تكمن الإجابة في مقولة للكاتب الفرنسي “أتين دي لابويسيه، مؤسس الفلسفة السياسية الحديثة في فرنسا حين كتب:
يكون السؤال الجذري في السياسة هو لماذا يطيع الناس الحكومات؟، وتكمن الإجابة في أنهم يقومون باستعباد أنفسهم لكي يقبلوا بأن يحكُمُهم الطغاة، ولكن في الحقيقة لا تكون الحرية من العبودية عن طريق ردها بالعنف، ولكن تأتي الحرية من العبودية عن طريق رفض المرء أن يخدم سيده، حيث يسقط الطغاة عندما لا يؤيدهم الناس.
على الرغم من أن كلام “أتين دي لابويسيه” كان قبل خمسمائة عام من الآن، إلا أن فلسفته مازالت قابلة للتطبيق حتى يومنا هذا، وبالأخص في مسألة الهندسة الاجتماعية، حيث هناك إمكانية لنفس الجماهير التي يتم التحكم بها بدون وعي منها أن تقوم بالتفكير الواعي و تتنصل من تأثير البروباجندا، ويمكنها أن تختار لنفسها أن ترفض الاستمرار تحت ذلك التأثير.
تبدو الإجابة شديدة السهولة، إلا أنها الحقيقة التي ترفضها الأغلبية من الجماهير، وذلك لاعتيادهم على البرمجة والتلقي بشكل سلبي، إلا أنها بيدها الاختيار في النهاية أن تعيش في عبودية من نوع آخر وبشكل أكثر حداثة وأقل عنفًا من العبودية المعروفة بالمعنى التقليدي، أو أن تعيش ولها الحق في حرية الاختيار.