في أحد الأيام العادية التي تحظى بحدث استثنائي يسمع صداه مستقبلًا، رفض المخرج الإسرائيلي صامويل ماعذ أن تستقل ابنته سيارة أجرة إلى المدرسة، فمن رأيه، كان عليها أن تتقبل وجود اختيارات صعبة، وتعتاد ركوب الأتوبيس المدرسي العام.
عقب مغادرة ابنة صامويل بنحو نصف ساعة، سمِع الوالد عبر الراديو حدوث تفجير على الخط الخامس، وهو نفسه مكان انتظار ابنته لتركب الحافلة، حاول صامويل الاتصال بابنته دون رد، وكانت على حد قوله ساعات أسوأ من حرب لبنان، التي شارك بها كجندي مدفعية. عادت ابنته سالمة، لأنها تأخرت ولم تلحق بالحافلة.
جوارًا إلى ذكرياته مع حرب لبنان، شكلت الحادثة المذكورة نواة إخراج فيلم “foxtrot-خطوة الثعلب”، بحكايته التي تنتقد وتسخر من نظام التجنيد الإجباري ودواخل الجيش الإسرائيلي وآليات قتل المجندين معنويًا بإلقائهم في مناطق بعيدة دون أي رعاية، تحت إطار وهمي تصدره المؤسسة، باعتبارها في حالة حرب دائمة، أو تأهب للحرب.
هناك فارق بين الجيش الإسرائيلي كقيادة عليا تفرض سردية الوطن الموحد والمهدد دائمًا، والجنود الذين يمثلوا ترسًا يفعّل هذه السردية شكليًا بالإجبار، مع التحفظ على دخول هؤلاء الجنود ضمن إطار الضحايا، فالمشهد الحاليّ في قطاع غزة يفرض إدانةً وعداءً لكل ممثل للجيش الإسرائيلي، قيادة وجنود، لكننا بحاجة إلى فهم الدواخل الهشة والعطب في قلب هذا الجيش.
يعرض فيلم “خطوة الثعلب” حكاية مهمة لينظر إليها الشأن العربي، لأنها حكاية من الداخل، لا تنحصر في إحصائيات وبيانات معلوماتية، بقدر ما تسرد حالة عائلية كاملة وموقفها من التجنيد في “إسرائيل”، وتقربنا المادة الشعورية في الفيلم من جانب السينما هي أفضل وسائطه، حتى نتوصل إلى الاشتباك مع جانب مجهول في علاقة التجنيد الإسرائيلي ببنية الأسر، ومدى نفوذه الشمولي القادر على تفكيكها.
الحرب في رأس القائد
يعيش “فيلدمان” في شقة وسط تل أبيب، مصممة على معمار حداثي، وتشير إلى الرفاه الذي يعيش فيه، مع ذلك يقف عاجزًا أمام وجود ابنه يوناتان في الشمال، يخدم في إحدى محطات التفتيش الحدودية. تفتح زوجة فيلمدان الباب، فتجد أمامها تشكيلة من الضباط الإسرائيليين، تعرف في الحال أنهم يحملون خبر وفاة ولدها.
الجزء الافتتاحي في الفيلم، عبر بذكاء بصري وتكوينات صورية عن انفصال فيلدمان الأب عن مسألة التبعية لفكرة الجيش بالكلية، حفلت المشاهد بديكورات رمادية، وفيلدمان بدوره لا يستطيع أن يتفاعل مع خبر مقتل ابنه، يخضع لقدسية “البطولة الشكلية” التي تمارسها سردية الدولة حتى في حالة الموت. يطلب من فيلدمان أن يشرب كوب ماء كل ساعة، يجبره الجندي على فعل ذلك، ويضبط له منبهًا على رقمه لتذكيره، لأنه بالضرورة سيصمد.
يتتبع الفيلم كيفية إلزام العائلة بشكلٍ ثابتٍ للحزن على ابنهم، فالجندي حينما يموت تابعًا للجيش الإسرائيلي، لا يكتب في نعيه “رحل الجندي كذا” بل “سقط الجندي كذا”، باعتبار أن كل جندي يموت، فإنه بالضرورة يضحي بنفسه في أرض المعركة لأجل انتصار “الأمة اليهودية الإسرائيلية” على حد تعبير رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
لم يكن فيلدمان مؤمنًا، ومع ذلك تم إلزامه بالموافقة على تعليمات الجندي المشرف على خطوات الجنازة، حيث يتم دفن الجنود ضمن تقليد يهودي، وقبل الدفن، يظهر من جنود الجيش مفاجأة: هناك خطأ في الاسم وتم إخبار عائلة فيلدمان بالخطأ.
حينما يقف فيلدمان بغريزة الأب القلِق على ابنه، أمام عجز الجنود عن تبرير خطأهم، أو تحديد مكان خدمة يوناتان، تحضر العقيدة الغالبة والمتأثرة بمبالغات سردية الدولة على لسان أم يوناتان، وهي تخبر زوجها: “هذا هو الشيطان، ليس أنت”، لأنه فقط واجه الجنود بعجز الجيش عن توفير السلامة لابنه.
ينتقل الفيلم عبر الجهة الأخرى، حيث مكان خدمة يوناتان. العالم هناك ضيق ومقبض، ثمة انطباع تبثه الصورة أن هؤلاء الأشخاص منسيون، في منطقة معزولة وبعيدة، لدرجة أن يسأل أحد الجنود في الوحدة قائده قائلًا: “لماذا نقاتل هنا؟ هناك أي هدف؟ نحن نقاتل في حرب نفسية يا سيدي، نحن في حرب مع المجهول، ومن هو المجهول الذي أنت في حرب معه؟ لو كنت أعرف أيها القائد لما أطلقت عليه وصف المجهول”.
تنتقل الصورة من الهدوء الجمالي للبيت إلى خواء كبير، وجنود تفضح الكاميرا مدى ضآلتهم وانزوائهم في نقطة غير مهمة، لا شيء مثير لديهم إلا التضييق على المارين العرب في السيارات، والنبش وراء هوياتهم لإيجاد أي دليل إدانة.
يعمل الجنود بأجهزة تقنية صدئة، ينامون في حاوية قديمة تميل كل يومٍ أكثر من سابقه في الأرض المالحة والرطبة، هنا يغيب الحديث عن الوطن، لأن كل واحدٍ لديه همومه في النجاة بأن تمر الأيام آمنة، ولا يتشارك الجنود إلا في الضعف والهشاشة الكبيرة.
لا يرتبط أحد من جنود نقطة التفتيش بمرجعية دينية قوية، فالجزء الهوياتي من “اليهودية” مفقود، تمثل ذلك في حكاية يوناتان لزملائه، إذ سلمت جدته والده نسخة توراة قديمة، وأوصته بأن يسلمها لولده، إلا أن الوالد فضل تسليم مجلة “آنمي” ليوناثان، فقطع سلسلة تداول التوراة، ما يدل على الانفصال بين الجيل الحديث وجيل المحرقة، لأن الجيل القديم تجاوز خطر الإبادة بتوجيهها إلى الفلسطينيين، بينما الجيل الجديد، الذين هم جنود الجيش حاليًا، نشأوا في مجتمع داخله مفكك، باتت سردية الوحدة فيه مستهلكة بسبب تفحش الأنظمة السيادية، سواء كنظام شمولي يشجع صعود اليمين في الداخل، أم كنظام يمثل شرعنة احتلال الأراضي الفلسطينية.
الجانب المثير في نهاية الفيلم، هو تبيين كيفية موت يوناتان، فبعد أن توسط الوالد ليعود الولد إلى منزله، انقلبت شاحنة نقل الجندي من وحدته إلى البيت، لأن السائق خشي الاصطدام بجملٍ يمر على الطريق الصحراوي، كان هذا الجمل يكرر مروره على نقطة التفتيش منذ أول الفيلم.
تحول يوناتان إلى بطلٍ بالضرورة، وطُلب من أهله حضور مناسبة تشريف للجنود الضحايا تحت إشراف وزير الدفاع، وهو ما دفع عائلته للسخرية من الأمر، لكن أي سخرية تكون ثمنًا لتفكك عائلة؟ لم يتحمل أهل يوناتان فقده، ولم يعرفوا أنه مات صدفة، وحتى سردية موته كبطل لم تعن العائلة، ولم تعد ترابطها مرة أخرى.
في حوار معه عن الفيلم، وضح المخرج أن الحرب لا تجد قرارها، أو ملامح الإيمان بها، في عقلية الجنود، يمكنك أن تجدها على جهاز خاص بالقائد أو في رأسه، على الجنود أن يشعروا دائمًا أنهم في حالة حرب، حتى إن كانوا في الحقيقة لا يفعلون شيئًا ذا قيمة، ولن يحقق اهتمامهم من عدمه أي فارق، عليك فقط أن تكون هنا، لأن الحرب هنا.
رغم السخرية اللاذعة وحدة الانتقاد الظاهرة في لغة الفيلم وبنيته الصورية من المخرج، بدا الجانب الفلسطيني مجهلًا، القضية هنا منغلقة على المجتمع الإسرائيلي، والمخرج بحكم بحثه عن المواطنة السلمية وحرية الاختيار، يضع لحكايته حدًا يبدأ من عند ما هو إسرائيلي ولا يتجاوزه، ليست أكبر مشاكله مبدأ الاحتلال من الأساس، بل هو مشكلة عرضية تخلق مشكلة مركزية داخل المجتمع الإسرائيلي المفكك، إلا أن أحداث “طوفان الأقصى” لها قول آخر.
الصعود من قلب الأرض: بخ!
عندما سئلت وزيرة الثقافة الإسرائيلية ميري ريغيف عن الفيلم وما يطرحه من إدانة كبيرة للجهاز العسكري والسردية الإسرائيلية مجملًا، ردت بأن الفيلم مسيئ ومثير بالغضب، ومن سوء حظ الوزيرة، أن المحاور سألها عما أثار غضبها في الفيلم، وكان ردها: “المشهد الذي يقتحم فيه الجندي القرية الفلسطينية، ويدخل منزلًا فلسطينيًا ويضرب العائلة”، لم يكن في الفيلم أي مشهدٍ من قريب أو من بعيد حتى لما ذكرته الوزيرة، وتبين أنها لم تشاهد الفيلم.
حضرت هوامش لمشاهِد قريبة من المشهد المختلق في رأس وزيرة الثقافة، لكنها أشارت إلى عمق الهشاشة كمنطلق للاعتداء والقتل الجماعي. خلال نوبة حراسة ليوناتان ليلًا، مرت سيارة بها مجموعة شباب وفتيات سكارى، كانوا مسالمين، ووقعت عبوة من الصفيح بالخطأ من يد إحدى الفتيات في السيارة على الأرض، ترجمها يوناتان سريعًا إلى قنبلة يدوية، وفتح نيران رشاشه على السيارة، ليتم دفنها بمن فيها من بقايا جثث، والتعتيم التام على الأمر.
دفنت السيارة بأمرِ من قائد الوحدة، لأنه ليس على الجيش وأي ممثل له أن يخطئ، وإن حدث، فلا سبيل لإثبات ذلك الخطأ، هناك حضور قوي لعقيدة إقصائية تجاه الخطأ، تتعامل مع وجودها باعتبارها ضحية بالضرورة، تستهلك رصيدها التاريخي بحقارة نفعية، وتجعل كلمة “تهديد” وثنائيات الخير والشر مادة مركزية لكل الخطابات الرسمية.
في الواقع، التهديد الحقيقي يبدأ من الترويج المجتمعي للتجنيد في “إسرائيل”، فالإسرائيلي الحقيقي في عين الدولة لا يهرب من التجنيد.
في مقال بعنوان “لماذا أرفض الخدمة في الجيش الإسرائيلي؟”، يتطرق أحد المستوطنين الرافضين للتجنيد الإجباري إلى الغضب المبالغ فيه الموجه إلى رافضي الخدمة، رغم أن مجموع الرافضين علنيًا كل سنة لا يتجاوز بضع مئات، خاصة المحتجين على سياسات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، يتجلى ذلك في موقفٍ تعرض له الكاتب خلال إحدى الحروب على غزة، حينما واجه مجموعة إسرائيليين أخذوا يصيحون بوجهه “أنت خائن، اذهب وعش في غزة”، بالإضافة إلى تهديد بالقتل طال إحدى زوجات قتلى 1973 من الجيش الإسرائيلي، حينما وقعت على خطاب ضد الخدمة العسكرية.
عودةً إلى فيلم “خطوة الثعلب” وعلاقته بالحرب الحاليّة على غزة، لو أزحنا الأحداث الحاصلة في الفيلم من الجانب الفني إلى ساحة الواقع حاليًا، نجد أن النتائج متسقة مع سردية الفيلم بشكل كبير، الخوف والضآلة اللذان يشبّع بهما الجنود وتعرفهما القيادات جيًدا، تظهر أولًا في نسبة استدعاء جنود الاحتياط، التي تجاوزت 300 ألف، دمر معظمهم ماليًا وانهارت مشاريعهم بسبب نقص المساعدات الحكومية، التي بالمناسبة تعرض عودة المستوطنين إلى بيوتهم في غلاف غزة، مقابل 6500 دولار كمكافأة.
في أرض الحرب، ظهرت تصريحات وتسريبات كثيرة لجنود تظهر الاشتباكات مدى هشاشتهم من ناحية، ومدى إهمالهم من ناحية أخرى، ففي الكنيست، وقف جندي يبكي من أنه يخشى استخدام بطاقته الائتمانية من كثرة مديونيته، حتى إنه لا يستطيع شراء علبة حليب لطفلته، ويسأل الكوادر السياسية والحزبية الموجودة: هل أحد منكم ثلاجته فارغة مثلي؟ هل رواتبكم لا تكفيكم مثلي؟
تبلغ تكلفة مرتبات جنود الاحتياط فقط في “إسرائيل”، منذ بدء الحرب، نحو 1.3 مليار دولار شهريًا، فضلًا عن ميزانيات زائدة مخصصة لإعادة تأهيل الجنود المصابين بصدمة ما بعد حرب، تجاوز عددهم 10 آلاف مصاب.
حتى الجنود الواقفين في نقاط تفتيش حدودية لا تحتد فيها الحرب، استفاق أحدهم من كابوس وبدأ بإطلاق النار عشوائيًا تجاه الحائط، ما تسبب في إصابة جنود آخرين بجروح طفيفة.
يعترف جندي آخر في الكنيست، وهو يبكي، أنه يتبول على نفسه ليلًا من الخوف بسبب الحرب، ولا يستطيع النوم إلا بعد شرب قارورة، ويختم حديثه: “أتحدث إليكم وأنا أشم رائحة الجثث”.
أعدت مشاهدة فيلم “خطوة الثعلب” مرة ثانية، بعد المشاهدة الأولى بعدة أيام، لأنني خشيت الوقوع في فخ التعاطف مع تورط جنود كثيرة في حربٍ لا تمثلهم، وتبين لي مع المشاهدة الثانية، مقارنة بالحوادث الخبرية المذكورة عن الجنود، أن بنية الجيش الإسرائيلي متعددة الأعراق، والتي تشبه تجمعًا عصابيًا أكثر من جيش نظامي، تقوم على بطانة هشة، ليست هناك علاقة وثيقة بين خوف الجنود وخوف السلطة، إلا أن كلاهما جدير بالعداوة، فليس علينا أن نتساءل عن خيرية هذه الدوافع، بينما قطاع غزة يتعرض إلى إبادة من الجوع والقصف والمرض.
ومن بين هذا الأسى، تحديدًا من قلب “المجهول” الذي تساءل عنه الجندي وذكرته في مطلع المقال، يظهر الفلسطيني المقاومة من قلب الأرض، لم يعد مجهولًا مثلما حدث في الفيلم، بل أصبح مصدرًا إضافيًا لخوف الجنود، وصوتًا صارخًا في أرض الحرب، يعرفنا الجانب الآخر من أصالتها، والتحديق في عيون الموت بدلًا من الهروب منه، مع القناعة بأن الكفاح المسلح أداة ضرورية ولا بديل عنها لمقاومة الاحتلال.