منذ بداية أحداث “طوفان الأقصى” 7 أكتوبر/تشرين الأول، وبشكل سريع جدًا، ظهرت الاصطفافات الأكاديمية والتف كل صف حول السردية التي يؤمن بها ويدافع عنها، كأن الزلزال ضرب عمق الشريحة الثقافية، وبدأت المواقف تتوالى، فمنها ما اتفق مع ما كان ينظر له طيلة حياته، ومنها ما برز كنفاق واضح لما كان يقال من قبل، مثل يورجن هابرماس الذي أصدر – ومعه نيكولا ديتلهوف أستاذة العلوم السياسية، ورينر فوريست الفيلسوف المعروف، والأستاذ كلاوس غونتر – بيانًا عما يجري في قطاع غزة، أدانوا فيه “المجزرة التي ارتكبتها حماس ضد إسرائيل بنية إبادة الحياة اليهودية بشكل عام”.
لقد فشلت الأفكار التنظيرية الكبرى، مثل تلك التي يمثلها فيلسوف مدرسة فرانكفورت هابرماس، في مواكبة هذا التفاعل والتأثير، ما يسلط الضوء على الفجوة بين تفاعل الشباب والطبقات الأكاديمية الشابة، وآفاق وأفكار المفكرين الكبار الذين يعتبرون من رواد المدرسة الفلسفية المذكورة.
قفز هابرماس، ومن معه في الزمن، وتم إغفال الامتداد التاريخي للقضية الفلسطينية، وقفز معه العديد من الفلاسفة والمفكرين، فالفيلسوف “اليساري” سلافوي جيجك مثلًا، أدان هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول بلا أي “لكن” أو “لو”، وهو موقف تماهى في جوهره مع الصهيونية اليمينية.
وفي ذات الوقت، أظهر فلاسفة ومفكرون آخرون مواقف مبدأية باحثة عن العدالة تجاه القضية، وتم رفع الصوت بشكل واضح أن هذه الأحداث وهذه الحرب لم تبدأ في 7 أكتوبر/تشرين الأول، بل من قبل 75 عامًا من الاحتلال والاضطهاد والعدوان.
من بين أولئك الفيلسوفة الألمانية نانسي فريزر ابنة المدرسة النقدية، يعني تلميذة هابرماس، وإتيان باليبار وجوديث بتلر والاقتصادي آدم ميتز، والمؤرخ القانوني صامويل موين، الذين وقّعوا مع نحو 400 أستاذ من أساتذة الفلسفة في الجامعات الأمريكية بيان “فلسفة من أجل فلسطين”.
وقد أصدر أكاديميون متخصصون في دراسة الهولوكوست، بينهم المؤرخ الإسرائيلي أومير بارتوف، والمؤرخ الأمريكي كريستوفر روبرت براوننغ، والمؤرخة البريطانية جين كابلان، والمؤرخة الأمريكية ديبورا دورك، رسالة مفتوحة عن إساءة استخدام ذاكرة المحرقة، معتبرين أن استخدام سردية المحرقة لتبرير الجرائم التي ترتكبها “إسرائيل” في غزة تشكل إخفاقات فكرية وأخلاقية.
تطور الموقف تجاه الفلسطينيين بين الشباب الأمريكي (بين 18 و29 عامًا) بصورة كبيرة، إذ أصبح 61% منهم ينظر بإيجابية إلى الفلسطينيين
كما أصدر أكثر من 2600 أكاديمي من مختلف أنحاء العالم من علماء الاجتماع والعلوم الإنسانية والقانون والطب وطلبة الدراسات العليا، بيانًا يدعون فيه إلى الوقف الفوري لإطلاق النار وإنهاء الحرب ورفع الحصار عن غزة وإنهاء الاحتلال عن كل الأراضي الفلسطينية وتقويض نظام الفصل العنصري والوقوف مع حق الشعب الفلسطيني في الحرية والعدالة.
أما على صعيد جيل أكاديميي ما بعد الاستعمار، فقد نشر عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الهندي إرفان أحمد مقالته النقدية لبيان هابرماس وزملائه بعنوان “الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وفساد فلسفة هابرماس”، لتثور عليه موجة من الأكاديميين من مناصري “إسرائيل” وأبرزهم نيكولا ديتلهوف، إحدى الموقعين على بيان هابرماس.
من المثير للاهتمام متابعة الفعاليات التي تجري في الجامعات الأمريكية عن أحداث “طوفان الأقصى”، مظاهرات وجدالات ومقاطعات وتحدٍ واضح لأبرز تحالف و”لوبي” يحكم الولايات المتحدة بحكومتها وجيشها وملياراتها، حفنة من طلبة جامعيين استطاعوا تحويل الجامعات إلى أبرز مخاوف اللوبي الصهويني في الولايات المتحدة!
على سبيل المثال جرى التخطيط لفعالية “يوم المقاومة” التي أطلقتها منظمة “طلاب من أجل العدالة في فلسطين” في أكثر من 12 جامعة أمريكية، بما في ذلك جامعة فرجينيا وجامعة أريزونا وجامعة كاليفورنيا في لوس أنغلوس ومعهد أم آي تي وستانفورد وهارفرد التي تعتبر كليات وجامعات “نخبة” سياسية واقتصادية.
وقد تم تنظيم أكثر من 200 تظاهرة طلابية حتى تاريخ كتابة هذا المقال، كما أصدرت 33 مجموعة طلابية من جامعة هارفارد بيانًا مشتركًا للتضامن مع فلسطين، وحمّل البيان “النظام الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن كل أعمال العنف الجارية”.
مظاهر دعم القضية الفلسطينية في الشوارع، خاصة بين طلبة الجامعات المرموقة مثل ستانفورد وهارفرد، تشكل تحولًا جذريًا في طبيعة فهم العلاقات الأمريكية الإسرائيلية
عقب هذه التحركات، بدأت الأصوات تتعالى والاستطلاعات تتوجه للشباب في بحث عن آرائهم، وكانت الصدمات تتوالى، فقد أظهر استطلاع للرأي أصدره معهد “بيو للأبحاث”، تغير مشاعر الشباب الأمريكي تجاه طرفي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بصورة فاجأت الكثير من مراقبي الشرق الأوسط في النخبة الأمريكية.
وعلى الرغم من أن الأمريكيين يحملون مشاعر إيجابية تجاه الإسرائيليين أكثر كثيرًا من مثيلاتها تجاه الفلسطينيين، فإن الأمر اختلف في السنوات الأخيرة، وتطور الموقف تجاه الفلسطينيين بين الشباب الأمريكي (بين 18 و29 عامًا) بصورة كبيرة، إذ ينظر 61% منهم بإيجابية إلى الفلسطينيين، في حين تبلغ النسبة تجاه الإسرائيليين 56%.
لقد أكدت العديد من مصادر الإعلام الأمريكي أن مظاهر دعم القضية الفلسطينية في الشوارع، خاصة بين طلبة الجامعات المرموقة مثل ستانفورد وهارفرد، تشكل تحولًا جذريًا في طبيعة فهم العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، ففي حين كان تأييد “إسرائيل” جارفًا في أمريكا، أصبح الصوت الفلسطيني واضحًا ومسموعًا، بل ومؤثرًا.
إن حراكات الطلبة الأمريكيين وجيل الأكاديميين الجدد تجاه دعم السردية الفلسطينية أثار مخاوف الساسة وصانعي القرار الأمريكي، ما دفع وزيرة التعليم الأمريكية إلى فتح تحقيقات شملت سبع مؤسسات كبرى من بينها جامعة كولومبيا وكورنيل وبنسلفانيا وجامعة في كانساس، كما استدعى الكونغرس ثلاثة من رؤساء أعرق الجامعات الأمريكية متمثلين برئيسة جامعة هارفارد كلودين جاي، ورئيسة جامعة بنسلفانيا ليز ماجيل، ورئيسة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا سالي كورنبلوث لاستجوابهم بشأن انتشار معاداة السامية في صفوف طلابهم.
ويبقى السباق المحموم في هذه المرحلة سيد المشهد، فالاصطفافات الأكاديمية مدعومة ببوتقة واسعة من الإعلام بشقيه التقليدي والبديل لنشر مواقفها ومبادئها، تصارع الزمن كما تصارع غزة على الأرض جيوش اللاأخلاق، التي تدافع عنها بعض النخب الأكاديمية والمثقفة الهرمة، ولن تجد لها مكانًا في أمواج الأكاديميين الجدد والمفكرين وكاتبي التاريخ إلا في مزابله.