يحتفل الأتراك في هذه اليوم الخامس عشر من تموز، بالذكرى الأولى لإفشالهم محاولة الانقلاب العسكري على الرئيس رجب طيب أردوغان، بينما كان يتباكى المصريون أو بعضهم على مرور أربع سنوات على الانقلاب العسكري على الرئيس محمد مرسي في الثالث من يوليو عام 2013، المرور بشوارع إسطنبول هذه الأيام يدفعك للتساؤل دائمًا لماذا لم يمر هذا ولماذا مرّ ذاك؟
عُدت بالذاكرة للثالث من يوليو 2013 لأتذكر مشهد الانقلاب في مصر، كانت هناك حركة شعبية تملأ ميدان التحرير، فرحةً مسرورة بتحرك الجيش وهو يقضي على أول تجربة ديمقراطية في مصر منذ إعلان الجمهورية، ثم وقفت القوى السياسية من اليمين إلى اليسار بجانب الجنرال لتعلن مباركتها هذا التحرك والتأسيس لمرحلة جديدة عنوانها القمع، أيضًا وقف رأسا أكبر مؤسسات دينية في البلاد (الأزهر والكنيسة) مؤيدين للجنرال وخارطة طريقه، المشهد في صورته الكاملة، يبدو أن ثمّة شبه إجماعٍ على هذا التحرك، فماذا يتبقى لإضفاء الشرعية الكاملة على هذا المشهد؟
كان الأمر مختلفًا تمامًا عما رأيته في القاهرة قبل أربع سنوات، ثمة شيء مختلف هنا، هذا الرجل يحكم هذه البلاد منذ سنين، يضرب بيده في قلب السلطات من زمن بعيد، اخترق القضاء والمؤسسة العسكرية والشرطية والاستخباراتية وشبكة رجال الأعمال
كانت جماعة الإخوان قد حشدت أنصارها منذ الثامن والعشرين من يونيو 2013 (قبل الانقلاب بخمسة أيام)، وأعلنت الاعتصام في ميدان رابعة العدوية دعمًا لشرعية الرئيس المنتخب، دون أي تحرك تجاه مقاومة ما بدأ يُشاع وقتها عن انقلابٍ عسكري يقوده الجنرال السيسي، بل إن عددًا لا بأس به من قادة الجماعة أكدوا لعناصرها عدم صحة هذه الإشاعات، أحدهم أشار قائلًا وهو يرتدي بذلته: “السيسي في جيبنا اليمين ومحمد إبراهيم (وزير الداخلية) في جيبنا الشمال”.
وحتى بعد الثالث من يوليو، كانت منصة الاعتصام، تعلن اقتراب إفشال الانقلاب، وأشيع من على المنصة أن الجيش الثاني الميداني انشق عن الجيش وأعلن التمسك بالشرعية، ثم أشيع بين المعتصمين أن الحرس الجمهوري يحمي الرئيس ويرفض تسليمهـ بينما علمنا فيما بعد أن الحرس الجمهوري نفسه هو من احتجز مرسي بعد بيان عبد الفتاح السيسي.
المعلومة الأهم التي سمعتها من بعض قيادات الجماعة فيما بعد، أن مرسي وبعض معاونيه كانوا محتجزين بشكل قسري قبل بيان السيسي لساعات طويلة من اليوم السابق، بينما كانت القيادات تؤكد لقواعدها أنه لا انقلاب ولا تحرك عسكري.
على الصعيد الرسمي أيضًا، ظهر مرسي بُعيد البيان، في مقطع فيديو مدته تزيد على عشرين دقيقة، يتحدث فيه عما قام به من مبادرات ويحكي كيف وصل للحكم وكيف أن الثورة المصرية في 2011 أعظم الثورات، ويطالب الجيش والشرطة بالالتزام بالشرعية، تلك الكلمة التي أصبحت مثار سخرية لدى كل المصريين من تكرارها.
بشكل عام، كان هذا هو المشهد العام للثالث من يوليو/تموز 2013 في مصر، فكيف كان المشهد العام في الخامس عشر من يوليو/تموز 2016 في تركيا؟
استخراج الفوارق أمر سهل، في مصر كانت كل القوى تقريبًا موافقة على تحرك الجيش بما فيها قوى مدنية يفترض أنها ترفض سياسة الانقلابات
بدأت التحركات العسكرية، التي قادها جنرالات الجيش التركي للإطاحة بأردوغان من الساعة الحادية عشر مساء يوم الخامس عشر من تموز، حيث أغلقت المركبات العسكرية كوبري البوسفور (أحد أهم الطرق الرابطة بين إسطنبول الأوروبية والآسيوية)، وبدأ الاعتداء على المواطنين الذي أبدوا رفضًا لهذا الإجراء، قُتل على الكوبري آيرول أولتشاك، العقل المدبر للسياسة الإعلامية لحزب العدالة والتنمية هو ونجله، حيث قيل إنهما كانا في سيارةٍ حكومية.
تطورت الأمور بعد ذلك، حتى خرج أردوغان عبر الفيس تايم على إحدى القنوات المحلية، وطلب من الشعب التركي صراحةً مواجهة المتمردين، بل طلب من باقي القوات الحكومية من الجيش والشرطة التصدي لهذه المحاولة، لا أخفيكم سرًا أن الخوف تملكني حينما رأيت أردوغان يحاول الوصول إلى شعبه عن طريق الهاتف المحمول، مما يعني أن موقف الرجل أصبح ضعيفًا.
قُرب بلدية إسطنبول الكبرى بمنطقة الفاتح كان هناك ملحمة حقيقية، خاضها الأتراك ضد القوات الانقلابية، واجهوا فيها الرصاص والقتل وسقط العديد من المواطنين برصاص العساكر، بينما كانت هناك جموع من المواطنين تتجه إلى غلق مطار أتاتورك، وهو المطار الرئيسي في إسطنبول، وكان مواطنون آخرون بالعشرات أمام ماكينات الصرف الآلي البنكية، لسحب ما يمكن سحبه من أموال، فالغد أضحى مجهولًا تمامًا، كان هذا هو المشهد الثاني الذي أكد لي أن الانقلاب سيمضي قدمًا، فالأتراك أدرى الناس بانقلاباتهم.
في سياق السياسة، في ساعات متأخرة بعد هذا التحرك، بدأت القوى السياسية المعارضة للعدالة والتنمية في إعلان رفض الانقلاب، بعضهم انضم إلى البرلمان التركي لصياغة بيانٍ لرفض الانقلاب، وتعرض مجلس الأمة حينها للقصف بشكل مرعب.
بعد المحاولة بأيام، كنت في أنقرة أمام البرلمان للقيام ببعض المهام الصحفية وشاهدت حجم الدمار الذي وقع في المجلس، كما أن الجرافات التي أغلق المواطنون بها مداخل المجلس ما زالت في أماكنها.
في تركيا، كان الجميع شركاءً في النصر، شركاءً في سحق الجناة، بينما في مصر استقبل الجميع الجناة والمنقلبين بالورود
في إسطنبول، كانت المساجد تواصل حشد الناس حتى فجر اليوم، بينما كانت الطائرات العسكرية تحوم على مستوى منخفض، وتعرض المبنى السكني الذي كنا فيه لأكثر من هزة نتيجة هذا الطيران، اتصلنا بالأصدقاء في بعض المناطق، فأكدوا أن مجهولين قاموا بالاشتباك المباشر مع القوات الانقلابية، فكان للمعادلة أكثر من ضلع.
بعد هذا السرد القصير لكلا الحدثين، يكون استخراج الفوارق أمرًا سهلاً، في مصر كانت كل القوى تقريبًا موافقة على تحرك الجيش بما فيها قوى مدنية يفترض أنها ترفض سياسة الانقلابات، بينما في تركيا، كان الوضع مختلفًا، حتى داخل الجيش، فعلى مستوى الاستخبارات وقوات التدخل السريع والحرس الجمهوري وبعض الألوية الخاصة داخل الجيش كانت رافضةً لهذا التحرك، ينضم لها جزء لا بأس به من جهاز الشرطة بأذرعه السرية وفي خلفية كل هذا شبكة مصالح تتقاطع مع النظام الحاكم مما يعني انهيارها بانهياره.
هنا، كان الأمر مختلفًا تمامًا عما رأيته في القاهرة قبل أربع سنوات، ثمة شيء مختلف هنا، هذا الرجل يحكم هذه البلاد منذ سنين، يضرب بيده في قلب السلطات من زمن بعيد، اخترق القضاء والمؤسسة العسكرية والشرطية والاستخباراتية وشبكة رجال الأعمال، وكل شيء تقريبًا، حتى المعارضة التي بينه وبينها ما صنع الحداد رفضت هذا الانقلاب وأبقوا الصراع السياسي بعيدًا عن أيدي العساكر.
في تركيا، كان الجميع شركاءً في النصر، شركاءً في سحق الجناة، بينما في مصر استقبل الجميع الجناة والمنقلبين بالورود، وفي هذه هزمت مصر، وفي تلك انتصرت تركيا!