تتحضر تركيا، حكومةً وشعبًا، للاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لإفشال انقلاب 15 تموز/يوليو الذي تتهم فيه الحكومة التركية جماعة غولن بالضلوع فيه، بهدف إسقاط الحكومة الشرعية المختلفة معها سياسيًا وفكريًا، والاستيلاء على الحكم.
يحق لمن قاوم بجسده العاري الدبابات أن يقيم الاحتفالات الوجيهة، ولكن هل سيكون هذا الانقلاب هو الانقلاب العسكري الأخير في تركيا؟
في تصوري، يبقى احتمال وجود انقلاب عسكري في تركيا أمرًا متوقعًا بشكل دائم، كان يصل كمون الانقلابات في تركيا وسلفها الدولة العثمانية، إلى 10 أعوام أو 20 عامًا، ولكن كانت موازين القوى الداخلية أو الخارجية متعرضة للتقلبات الدائمة التي تتسبب في حدوث انقلاب عسكري.
ربما العوامل الداخلية المساهمة في حدوث انقلاب داخل تركيا، أكثر وأوسع من العوامل الخارجية التي تتبلور بفعل مواتية العوامل الداخلية لها، وانطلاقًا من تلك القاعدة، يمكن سرد العوامل التي توضح أن احتمال حدوث انقلاب في تركيا لا زال قائمًا على الشكل التالي:
ـ العامل العسكري النفسي
في الحقيقة، كانت توصف تركيا حتى عام 2007، العام الذي يصادف آخر انقلاب ناعم حدث في 27 من نيسان/أبريل وأعقبه قضايا حقوقية استهدفت الضباط الأتاتوركيين الذين كانوا بصدد تنفيذ انقلابات خشنة، بأنها “جمهورية عسكرية بامتياز”، حيث كانت تُدار، بشكل غير مباشر، وأحيانًا بشكل مباشر، من قبل ضباط وجنرالات لم يستطيعوا الثقة بالمدنيين في يومٍ من الأيام، بل سعوا دومًا لتوجيه القرار السياسي من خلال الانقلابات الخشنة والناعمة، سعيًا في الحفاظ على مبادئ الجمهورية العلمانية، الجملة الأخيرة هي الذريعة القانونية والنفسية التي كان الانقلابيون يستندون إليها، قبل وبعد تنفيذ انقلاباتهم.
أدى العامل التاريخي السياسي دورًا أساسيًا في جعل الانقلابات أمرًا تقليديًا بالنسبة للضباط الأتراك الذين يحاول بعضهم الانقلاب كل خمس أو عشر سنوات
ويستند العامل العسكري النفسي لدى الجيش التركي إلى نقطة تأسيس الجمهورية التركية من قبل ثلة من الضباط الذين نجحوا في تحدي العديد من الدول “الإمبرايالية” في سبيل ذلك، ومن هذا المنطلق، يؤمن الجيش التركي بأن ترك أواصر الحكم بشكلٍ كامل إلى المدنيين قد يؤدي “بجمهوريتهم” إلى الزوال.
وفي الصدد ذاته، يمكن الإشارة إلى أن نجاح انقلاب 1960 غرس في نفوس الجنرالات الشجاعة والحق في القيام بتدخل عسكري كلما بزغت الحاجة لذلك.
ولا يمكن إغفال زرع مؤسسة الجيش في نفوس ضباطها مبادئ ضرورة الإخلاص التام لمبادئ أتاتورك التي على أساسها تم تأسيس الجمهورية التركية، عبر مناهج تربوية تلقن الطالب روح قوة الإرادة الحامية لوحدة الوطن من الأعداء الخارجيين والداخليين.
وفي إطار ذلك، تركز الأكاديمية العسكرية على تدريس كتاب “النطق” الذي يتناول حرب التحرير التركية حسب تصور “الفكر الكمالي”، كتب هذا الكتاب مصطفى كمال أتاتورك بنفسه، وفيه يدعو الشباب، لا سيما الضباط، إلى حماية وطنهم من العدو الخارجي والفاسدين الداخليين، لإبقائه موجودًا شامخًا بعيدًا عن الاضمحلال.
أيضًا في إطار غرس المبادئ، نجد أن خطاب أتاتورك للشباب يحظى بسيطرة واسعة على الخطابات الموجهة للشباب العسكري خلال طابور الصباح والمناسبات العامة، كتب أتاتورك الخطاب المذكور في 20 من تشرين الأول/أكتوبر 1927، ويمكن ترجمة فحواه على النحو التالي:
“أيها الشباب التركي! مهمتك الأولى هي الدفاع عن الاستقلال التركي والجمهورية التركية إلى الأبد، اعلم بأن ذلك هو أساس وجودك ومستقبلك، هذا الأساس أكثر كنوزك قيمة، في المستقبل سيظهر للسطح أعداء داخليون وخارجيون يريدون حرمانك من هذا الكنز القيم، لذا إن أجبرت في يوم من الأيام على الدفاع عن جمهوريتك، إياك أن تفكر بالأحوال والإمكانيات التي أنت بصددها، يمكن أن تكون حينذاك في وضع أليم وسيء جدًا، يمكن أن يسيطر العدو على القلاع والحصن، ويمكن أن يكون من على سدة الحكم فاسد وعائم في غفلة وضلالة المصالح السياسية والشخصية.
لكن إياك أن تركن لهذه الأحوال، وابق دومًا على استعداد للدفاع عن وطنك وجمهوريتك، يا ابن المستقبل التركي! حتى لو كنت في حالة مأساوية، يجب أن تكون مهمتك الأولى هي حماية الجمهورية التركية والاستقلال التركي، واعلم أن القوة التي تحتاجها موجودة داخل دماء وريدك الأصيل”.
منذ الانقلاب الأول للجيش التركي عام 1973 الناعم، ويُلاحظ أن الانقلابات تتم صياغتها من قبل ثلة معينة من الجيش، عادة تكون القيادة العليا التي يسهل عليها تمرير أمر الانقلاب عبر التسلسل العسكري
إن تتضمن الخطابات والمحاضرات الموجهة إلى الجنود والضباط الملتحقين، ودعوتهم دومًا إلى قراءة كتاب “النطق، وخطاب أتاتورك للشباب، والتحرك في إطارهما، يأخذنا إلى اللبنة النفسية الأساسية المشكلة لروح الانقلاب الدائم لدى الضابط التركي، لا سيما أن ذكر الأعداء “الداخليين” لم يتم توضيحه، الأمر الذي جعل تفسيره واقعًا لتقدير الجنرالات والضباط الذين أخذوا دومًا تفسيره على أنه يقصد “المحافظين” أو “الإسلاميين”.
ـ العامل القانوني المؤسساتي
حُدد الوضع القانوني العام للجيش التركي عبر المادة الخامسة من الدستور الذي أعده الجيش، برعايته المباشرة، عام 1982، ووفقًا لهذه المادة فإن مهمة الجيش هي الأخذ على عاتقه الهدف الأساسي لوجود الدولة، والهدف الأساسي هو توفير السعادة والسلام والرخاء للمجتمع والأفراد، وحماية الديمقراطية والجمهورية ووحدة الوطن ووحدة الشعب التركي واستقلاله.
وقد تم تحديد الوضع القانوني للجيش بشكل تفصيلي عبر قانون الخدمة الداخلية الذي أعده الجيش ذاته وأصدره يوم 4 من كانون الثاني/يناير 1961، ووفقًا لهذا القانون، فقد تم تحديد الوضع القانوني للجيش عبر المواد التالية:
ـ المادة 35: تنص المادة المذكورة على أن “المهمة الأساسية للقوات المسلحة هي حماية الوطن التركي أمام أي تهديد أو خطر خارجي، وتعزيز قوة الردع لدى الجيش التركي، وتنفيذ المهام الموكلة إليه بحسب قرارات البرلمان التركي، والمساهمة في تعزيز الأمن الدولي”.
ـ المادة 85: “تستعد جميع القوات للتحرك بشكل موحد في الحالات غير الطبيعية”، والغريب في الأمر أن هذه الحالات بقيت مجهولة لم يحددها القانون بشكل منفصل، وهنا يخطر على البال إمكانية الارتكاز عليها، كذريعة قانونية، في حال أقدم الجيش على الانقلاب.
بالتفكر قليلًا في المواد المذكورة، يُستقى الوضع القانوني الذي يوفر للجيش الذرائع المناسبة لتبرير انقلاباته، وفي حين استمرت هذه المواد على قيد الحياة، بقي احتمال الانقلاب “الشرعي”، المرتكز على هذه المواد، قائمًا.
ـ العامل التاريخي السياسي الفكري
ربما يطول الحديث عن حيثيثات العامل التاريخي السياسي للجيوش التركية عبر التاريخ، لكن النقطة الأساسية في هذا العامل أن “جميع” الدول التركية تم تأسيسها على يد عساكر أورثوا بعضهم بعضًا العامل النفسي الذي تحدثنا عنه آنفًا، والذي غرس فيهم شعور تحمل المسؤولية الأولى عن الحفاظ على دولهم.
علاوةً على دوره في ميلاد العامل النفسي، أدى العامل التاريخي السياسي دورًا أساسيًا في جعل الانقلابات أمرًا تقليديًا بالنسبة للضباط الأتراك الذين يحاول بعضهم الانقلاب كل خمس أو عشر سنوات.
تاريخيًا، أسس الشعب التركي دولته المُنتظمة الأولى عام 1040، مطلقًا عليها اسم “الإمبراطورية السلجوقية” التي أسسها القائد “سلجوق بيك” بتوافق 40 قبلية تركية من أصول أوغوزية، لعبت الإمبراطورية السلجوقية دورًا كبيرًا في فتح صحف التاريخ على مصراعيها للأتراك الذين أصبحوا بكيانهم السياسي الأول من العناصر الأكثر تأثيرًا في منطقتي آسيا الوسطى والشرق الأوسط.
كما هو الحال في جميع الإمبراطوريات آنذاك، اعتمدت الإمبراطورية السلجوقية على أسس القوتين الناعمة “الدبلوماسية، التعاون الاقتصادي، التداخل الثقافي”، والخشنة “الجيش”، لترسيخ دعائم دولتها وسط الدول الأخرى، ولكن لوحظ أن الإمبراطورية السلجوقية وخليفتيها العثمانية والجمهورية التركية، حتى ثمانينيات القرن الماضي، أعارت القوة العسكرية أهمية فاقت القوة الناعمة، بخلاف الإمبراطوريات والدول الأخرى التي واكبت ظهور الإمبراطورية السلجوقية وخلفها، ولكنها أولت التعاون الاقتصادي والدبلوماسي والتقدم العلمي والبحثي أهمية تساوت أو تخطت تلك العناية المعطاة للقوة العسكرية، ومن أوضح الأمثلة على ذلك الإمبراطورية أو المملكة الإنجليزية التي تفوقت في علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية وتقدمها العلمي والتكنولوجي على الدول التركية التي تزامنت مع عصرها، الأمر التاريخي السياسي التنظيمي الذي أرسى سيطرة عسكرية موسعة على أواصر الدولة.
ويمكن تفسير سبب إيلاء الشعب التركي والدول التركية المتواترة أهمية موسعة للقوة العسكرية على حساب القوة الناعمة عبر التاريخ، عبر الركون إلى توضيحات هيئة الأركان العسكرية التركية التي تذكر عبر صفحتها الإلكترونية أن “الأتراك كانوا يؤمنون بالمقولة الأسطورية الموجودة في كتابات قوم “غوك ترك”، الأقوام التركية الأولى، بأن ضريبة شكر الرب هي الانضمام للجيش والمحاربة به بالانصياع التام للدولة الحاكمة.”
وبدخول الأتراك للإسلام الذي يحث على الجهاد ضد الظلم والتهديدات الداخلية والخارجية المحيطة بالوطن، ازدادت هذه الأسطورة تأثيرًا لدى الأتراك، وهو ما ساهم بدوره في وجود دور كبير للجيش في عرى الدول التركية عبر التاريخ.
أعقبت الإمبراطورية السلجوقية الإمبراطورية العثمانية التي تأسست عام 1299، أولت الإمبراطورية العثمانية القوة العسكرية عناية أكبر من القوى الأخرى، اعتمدت الإمبراطورية العثمانية في سنواتها الأولى، على جيش القبائل غير المنتظم، ولكن بعد فترة من الزمن قام السلطان أورخان “1281 ـ 1362” بتأسيس جيش الإنكشارية المنتظم الذي ساهم في ترسيخ ركائز الدولة العثمانية وتوسيع رقعتها.
المسؤولون الأتراك، وعلى رأسهم رئيس الوزراء الأسبق ورئيس الجمهورية الحالي رجب طيب أردوغان، ووزير الداخلية بشير أطالي، أكدوا أن “تركيا العميقة” – قاصدين بذلك ضباط وقضاة جماعة غولن – يعملون ضد “الدولة العميقة”، قاصدين بها الضباط الأتاتوركيين
على الرغم من إحراز جيش الإنكشارية بكتائبه المتنوعة للعديد من الانتصارات البرّاقة، فإنه بعد فترة من الزمن أصيب بحالة شديدة من الهزل تناسلت عن حالة الضعف العامة التي أصابت الدولة العثمانية في مطلع القرن السادس عشر، إذ تولى إدارة الدولة العثمانية سلاطين ضعفاء الكلمة والخبرة، مما أفسح المجال لرجال الدولة رفيعي المستوى استغلال مناصبهم بالعمل بناءً على مصالحهم الخاصة، وقد أثر ذلك على تدهور الحالة الاقتصادية التي أدت بدورها إلى قطع بعض مشارب الدعم للجيش العثماني الذي اعتراه فساد إداري مستشرى حال دون تمكنه من الاستمرار في جني الانتصارات على عدوه.
وكانت معاهدة “كارلوقجي” أو “كارلوفيتس” التي أُبرمت بين الدولة العثمانية وعصبة 1684 المقدسة “آل هايسبورج، الاتحاد البولندي اللتواني، الإمبراطورية الروسية، جمهورية البندقية”، أول معاهدة يتمخض عنها تخلي الدولة العثمانية مرغمةً عن العديد من البقاع الأوروبية التي كانت تحت إمرتها.
توالت الوقائع العسكرية التي أظهرت الجيش العثماني على أنه جيش هزيل، وعندما حاول السلطان الشاب عثمان الثاني “1604 ـ 1622” إصلاح الجيش، من خلال إجراء إصلاحات إدارية ترتكز بشكل أساسي على تخفيف وتيرة الامتيازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شكلت السبب الأساسي لفساد الجيش، استبطنت الإنكشارية بأنها ستفقد الكثير من امتيازاتها جراء تلك الاصلاحات، فأقدمت على اغتياله في العشرين من آيار/مايو 1622.
وفيما يتعلق بالتسلسل التاريخي للانقلابات العسكرية في تاريخ الدول التركية، نجد أن جيش الإنكشارية انتفض لأول مرة عام 1445 ضد السلطان العثماني محمد الفاتح، لقيامه بتخفيف كمية الفضة الموجودة بداخل “الأكجة” العثمانية، ولكن ذلك الانقلاب الذي أطلق عليه اسم “عصيان بوجاك تابه”، اسم المنطقة التي لجأ إليها المنقلبون عقب صدهم من قبل حراس القصر، سرعان ما انتهى بعودة أب “محمد الفاتح”، “مراد الثاني” إلى سدة الحكم.
مر انقلاب بوجاك تابه الأول من نوعه في تاريخ الدولة العثمانية، بسلام، ولكنه لم يكن الأخير، بل كان الباب الذي فتح لجيش الإنكشارية طريق الانقلاب والعصيان على السلاطين الذين يتجهون لسحب الامتيازات الاقتصادية أو الاجتماعية من بين يديهم، وبينما كان لمحمد الفاتح أب يحميه، لم يكن لعثمان الثاني حام، مما ممكن الإنكشاريين من اغتياله مُرسلين بذلك رسالة دموية تحذيرية إلى كل من يحاول الاقتراب من كيانهم.
تعاقبت عمليات الانقلاب والاغتيال المُنفذة من قبل الإنكشاريين بحق السلاطين الذين حاولوا ترميم الجيش، فأعقبت عملية اغتيال السلطان عثمان الثاني السلطان إبراهيم الأول عام 1648، لاحقًا به السلطان مصطفى الرابع عام 1808، ومن ثم السلطان عبد العزيز عام 1876، فضلًا عن السلاطين الذين تم عزلهم عن العرش دون قتلهم مثل السلطان محمد الرابع عام 1687، والسلطان مصطفى الثاني عام 1703، وأخيرًا السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909.
على العكس من سلفه، تأنى السلطان محمود الثاني “1785 ـ 1839” في إجراء أي عملية تغيير أو تعديل في جيش الإنكشارية، بل اتبع ما يمكن وصفه بأسلوب “الثورة الصامتة” بمعنى كان على قناعة تامة بضرورة إجراء تغيير جذري، ولكن رأى أن تأسيس جيش بديل لجيش الإنكشارية بشكل سريع سيثير حفيظة الإنكشاريين ويدفعهم إلى عزله أو اغتياله، كما حدث مع سلفه سليم الثالث السابق الذي أسس جيش “النظام الجديد” عام 1689.
بعد تصادم المصالح بين جماعة غولن وحزب العدالة والتنمية، وعقب إقدام الجماعة على استغلال تدخله داخل أركان وزارة الداخلية والقضاء، وأخيرًا الجيش، ساد انطباع عام في الشارع التركي أن الضباط الأتاتوركيين ما هم إلا أناس مظلومون وقعوا تحت وطأة الظلم
ظهرت معالم الثورة الصامتة لمحمود الثاني في تريثه لمدة 17 سنة، عمل خلال تلك الفترة على تحصين نفسه بقيادات قوية ومؤيدة لعمليات تحديث الجيش، وأقنع رجال الدين داخل الدولة بضرورة تأسيس جيش قوي يرد للدولة العثمانية اعتباراها المهدور، ونال إعجاب الشعب بإصلاحاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
حرص محمود الثاني حرصًا شديدًا على إخفاء خطط الإصلاح الجذرية عن الإنكشاريين، غير أنه لم يتمكن من إخفاء ذلك بشكل كامل، إذ علمت الإنكشارية بنيته في تأسيس جيش جديد، في الرابع عشر من حزيران/يونيو 1825، علم قائد الإنكشارية المقرب للسلطان محمود الثاني “جلال الدين أغا” بتخطيط الإنكشارية لاغتيال السلطان محمود الثاني على إثر وصولهم أنباء تتعلق بعملية الإصلاح الجديدة، فتخلص من محاولة اغتيالهم له بصعوبة، واتجه مسرعًا نحو السلطان محمود الثاني ليبلغه بضرورة أخذ احتياطه الشديد لوقاية نفسه من عملية التمرد والاغتيال التي يخططها له المنقلبون.
ظفر السلطان محمود الثاني بذلك بفرصة ذهبية لوقاية نفسه من عملية الاغتيال، وفي صبيحة 15 من آيار/يوليو 1826، خرج الجيش الإنكشاري نحو ميدان “إيت” في إسطنبول، ضاربًا مواعين الطعام ومعلنًا تمرده ومطالبًا السلطان محمود الثاني بالتخلي عن العرش، ما لبث أن نزل الإنكشاريين إلى الميدان، حتى أصدر “الصدر الأعظم” قرارًا لقادة الجيش المقربين للسلطان بالنزول فورًا لمقارعة المنتفضين، ولم يتأخر شيخ الإسلام بالنزول بأعداد هائلة من المحاربين الكازاخستانيين مع أكثر من 3 آلاف و500 طالب مدارس عليا متعددة المجالات نحو ميادين إسطنبول الكبرى للقضاء على المنقلبين.
كما أن المجتمع العثماني الذي سئم “بلطجة” الإنكشاريين وقنع بأهداف محمود الثاني الإصلاحية، كان له دور بارز في القضاء على عصيان الإنكشاريين، قضى أكثر من ستة آلاف إنكشاري لقاء العصيان الذي أطلق عليه فيما بعد اسم “الواقعة الخيرية”، تيمنًا بتمكن السلطان محمود الثاني من القضاء على الإنكشارية التي شكلت عبئًا جسيمًا على الدولة، عقب فوح رائحة الفساد الشديدة بداخلها.
وهنا يُلاحظ أن الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان، بإجراءاته الاحترازية الناعمة التي أخذها ضد احتكار الجيش للسلطة، والتي تجلت في رفع مستوى المكتسبات الاقتصادية، والتحالف مع الضباط غير الأتاتوركيين ضد الضباط الأتاتوركيين، وتقريب أجهزة القضاء ومؤسسات الدولة الأخرى إليه لمجابهة أي انقلاب عسكري، وغيره، هو نسخة تامة من السلطان محمود الثاني.
لقد أسس السلطان محمود الثاني جيشه الحديث باسم “العساكر المنصورة المحمدية” على أطلال جيش الإنكشارية الذي بلغ عمره ما يناهز 464 عامًا، والذي كان أحد أذرع 15 وحدة عسكرية أخرى شكلت الجيش العثماني.
يُعتبر الجيش المحمدي البذرة الأساسية للجيش التركي الحالي الذي لا زال معظم المواطنين الأتراك يعرفونه على أنه “الجيش المحمدي” ويرسلون إليه أبناءهم على هذا النحو.
أراد السلطان محمود الثاني تحديث جيشه وكبح جماحه عن الانقلابات من خلال توثيق تبعيته للسلطان عبر 8 قادة تابعين لقائد واحد كان يدعى باش بين باشي رئيس هيئة الأركان، بالنظر إلى تاريخ ما بعد تأسيس عساكر المنصورة المحمدية، يُلاحظ بأن تلك الإجراءات لم تفِ الغرض في إحباط عملية الانقلابات العسكرية، إذ تم عزل واغتيال السلطان عبد العزيز ومن ثم عزل السلطان عبد الحميد الذي غرس بعض العيون داخل الجيش ومن ثم قبل تأسيس وزارتي البحرية “1867” والحربية “1908”، لربط الجيش بالسلطان والبرلمان بشكل قوي، إلا أن ذلك لم يحبط انقلاب العسكر وتدخله في الحكم.
والسبب الرئيسي وراء عدم إيفاء الإجراءات المتخذة من قبل محمود الثاني في كبح الانقلابات من بعده، يكمن في عدم اتخاذ إجراءات توعوية من شأنها تغيير العامل النفسي لدى الجيش، بالإضافة إلى عدم قضم النفوذ التنظيمي والمؤسساتي للجيش بالكامل، وهذان العاملان الرئيسيان في زرع شعور لدي أن عهد الانقلابات العسكرية في تركيا لم ينته تمامًا.
بعد انتهاء حرب التحرير التركية عام 1922، وتأسيس الجمهورية التركية عام 1923، تأسس الجيش التركي الجمهوري على بقايا معدات الجيش العثماني وهيكله التنظيمي.
ـ العامل التنظيمي
منذ الانقلاب الأول للجيش التركي عام 1973 الناعم، وهو يُلاحظ أن الانقلابات تتم صياغتها من قبل ثلة معينة من الجيش، عادة تكون القيادة العليا التي يسهل عليها تمرير أمر الانقلاب عبر التسلسل العسكري، ويُستثنى من ذلك انقلاب 1960 الخشن، وانقلاب 1962 و2016 الفاشلين، حيث تمت هذه الانقلابات عبر ثلة من الضباط التي عارضت المسار العام للدولة، فضلًا عن أغلب الانقلابات تمت من قبل ضباط أتاتوركيين، باستثناء انقلاب 2016 الذي نفذته جماعة غولن.
ربما يشكل هذا العامل مربط الفرس بالنسبة لتصوري، فوجود العوامل المحفزة، تحتاج إلى نخبة توظيفية توظفها لصالح فكرها الأيديولوجي أو مصالحها السياسية والشخصية، ولعل بإطلاق سراح مجموعة كبيرة من الضباط الأتاتوركيين الذين تم زجهم في السجن على إثر قضيتي الأرغاناكون والمطرقة، يبدأ خطر ظهور احتمال الانقلاب يسير قدمًا نحو التحقق على أرض الواقع.
قبل إضافة البيان على المذكور أعلاه، لا بد من إلقاء لمحة سريعة على قضيتي الأرغاناكون والمطرقة، بدأت قضية الأرغاناكون بتاريخ 12 من تموز/يوليو 2007، حينما وجدت قوات الأمن 27 قنبلة يدوية في إحدى العشوائيات الواقعة في ناحية العمرانية بإسطنبول.
لم يمضِ الكثير على إيجاد القنابل، حتى ادعى صاحب العشوائية محمد دامير تاش وابن أخته علي يغيت بأن الضابط المتقاعد ـ الأتاتوركي ـ أوكتاي يلديريم صاحب هذه القنابل، وهنا كانت بداية السلسلة التي فتحت الباب أمام القضاء ليعتقل عدد ضخم من الضباط الأتاتوركيين الذين خططوا لانقلاب عسكري خشن عام 2003، وآخر عام 2009.
تذكر مصادر متطابقة أن يلديريم تقاعد عام 2005، بعد تعرضه لانفجار عرضي داخل الجيش، عُرف عنه مشاركته الفاعلة في معظم المظاهرات والفعليات القومية، ومن ثم تأسيسه جمعية القواي الميلية، القوة القومية، وموقع إخباري يحمل نفس الاسم.
نتيجة للإجراءات التحقيقية، توافق الرقم التسلسلي للقنابل المذكورة مع رقم القنابل الملقاة على جريدة “جمهورييت” في آيار/مايو 2006، وعلى إثرها تم اعتقال يلديريم وعدد واسع من الضباط، الأمر الذي أظهر عمل الضباط على استهداف الصحف المعارضة للحكومة، لاستخدام الأمر كذريعة لهم في حال قاموا بانقلاب يحمي الحريات المضطهدة على يد الحكومة، أو على يد أناس آخرين لم تقم الحكومة بدورها في إيقافهم.
وجه القضاء للضباط المعتقلين تهمة التخطيط للانقلاب على الحكومة بحلول عام 2009، وتهيئة الأجواء لذلك، مطلقًا عليهم اسم “منظمة أرغاناكون الإرهابية”، وسُميت المنظمة بذلك نسبةً إلى إحدى الوثائق التي حملت ذلك الاسم، والتي وجدت في بيت يلديرم، وفقًا لملفات التحقيق، كان يسعى الضباط الأتاتوركيين إلى تشكيل “لوبي” متغلغل داخل الدولة.
اللافت في الأمر، أن المسؤولين الأتراك وعلى رأسهم رئيس الوزراء الأسبق ورئيس الجمهورية الحالي رجب طيب أردوغان، ووزير الداخلية بشير أطالي، أكدوا أن “تركيا العميقة” – قاصدين بذلك ضباط وقضاة جماعة غولن – يعملون ضد “الدولة العميقة” – قاصدين بها الضباط الأتاتوركيين -، ويؤكد هذا التصريح أن انعدام الخيار أمام حزب العدالة والتنمية، والتقاء مصالحه مع جماعة غولن، عاملان دفعاه، براغماتيًا، إلى التحالف مع جماعة غولن في سبيل تخفيف حدة سيطرة الضباط الاتاتوركيين على أركان الجيش والدولة.
وكدليل آخر على تحالف الطرفين، لعبت جريدة “طرف” التي أغلقت عقب أحداث محاولة الانقلاب الفاشلة التي حدثت في 16 من تموز/يوليو 2016، لعبت دورًا أساسيًا في نشر الوثائق التي تحتوي نوعية وتفاصيل التهم الموجهة للمعتقلين بشكل مفصل، كما لعبت صحف الجماعة الأخرى، كزمان وراديكال، دورًا أساسيًا في استثارة غضب الشعب التركي على المتهمين.
أبرز الأسماء التي تم اعتقالها في حين، رئيس الأركان الأسبق إيلكار باش بوغ، والقائد الأسبق للجيش الأول خورشيد طولون، والقائد الأسبق لقوات الدرك شانار أراويغور، والضابط السابق المتهم بالتعاون مع المافيا في التسعينيات سادات باكار، وغيرهم الكثير الذين باتوا أحرارًا بعد احتدام التنافس بين جماعة غولن وحكومة حزب العدالة والتنمية.
أما قضية “المطرقة” أو “باليوز”، فكانت متعلقة بوثائق الانقلاب الذي كان يُخطط له من قبل الضباط الاتاتوركيين أيضًا عام 2003، وكان لجزء كبير من الضباط المعتقلين على ذمة قضية “الأرغانوكون”، إلى جانب بعض الضباط الآخرين، دورًا كبيرًا في هذه القضية أيضًا.
“في البداية كانت قضيتا الأرغاناكون والمطرقة محقتين، ولكن بعد فترة من الزمن، تم استغلالهما من قبل جماعة غولن، لتحقيق مآربها في التغلغل داخل الدولة”، بذلك صرح رئيس شعبة الاستخبارات الداخلية الأسبق، حنفي أفجي، لموقع نون بوست، وهذا ما يؤكد أن الضباط الذين تم اعتقالهم، كانوا بالفعل على عزمٍ لإجراء انقلاب عسكري يُنهي حكم “الحكومة الرجعية”، ومن خطط لذلك مرة، يخطط مرات عديدة.
لقد استمرت التجاوزات القانونية لقضية أرغاناكون في الاعتقال التعسفي وفترة الاعتقال دون محاكمة البعض لمدة تسع سنوات، لكن، بعد تصادم المصالح بين جماعة غولن وحزب العدالة والتنمية، وعقب إقدام الجماعة على استغلال تدخله داخل أركان وزارة الداخلية والقضاء وأخيرًا الجيش، ساد انطباع عام في الشارع التركي أن الضباط الأتاتوركيين ما هم إلا أناس مظلومون وقعوا تحت وطأة الظلم “الغولنِي”، على الرغم من تأكيد التحقيقات في البداية، أنه بالفعل كان هناك تخطيطًا لإجراء انقلابات دموية.
انتهت قضية أرغاناكون بقرار المحكمة العليا، والذي صدر بتاريخ 21 من نيسان/أبريل 2016، ليلغي القضية بدعوى عدم وجود دليل ملموس حيال الوجود الفعلي لمنظمة أرغاناكون الإرهابية واستخدام وسائل غير قانونية لإثبات التهم، مثل التصنت على العاملين بجهاز المخابرات وغيره، وتضمن القرار التالي:
ـ إخلاء سبيل 275 متهمًا.
ـ محاكمة رئيس هيئة الأركان إلكار باشبوغ في الديوان العالي، وقد تم تبرئته فيما بعد.
وعلق محامي باشبوغ البروفسور الدكتور فاتح محمود أوغلو في حينه على ذلك بالقول: “بهذا القرار نستطيع التأكيد بأن أبواب قضية أرغاناكون قد أغلقت، وبأن جميع المتهمين في هذه القضية سيخرجون براءة”.
وفيما بدأت أولى جلسات قضية “المطرقة” بتاريخ 16 من كانون الأول/ديسمبر 2010، ألغت المحكمة العليا في 4 من حزيران/يونيو 2015، القضية لعدم كفاية الأدلة، أسفرت القضية عن اعتقال 250 شخصًا واتهام 365 شخصًا آخر.
الواقع التركي يجعل احتمال الانقلاب في تركيا أمرًا متوقعًا بشكل دائم، لا يعني هذا الطرح أن حزب العدالة والتنمية لن يتخذ الإجراءات الاحترازية ضد هذه العوامل، أو ضد أي انقلاب يطفو على السطح في المستقبل
تذكر مصادر متطابقة أن القضية اعتراها الكثير من الشكوك والهشاشة، خاصة بعد عرض النيابة لنتائج التحقيق قبل إتمام جلسات المرافعة والدفاع، الأمر الذي دفع محكمة الأناضول الجنائية الرابع لإصدار قرار في الـ19 من حزيران/يونيو 2014، قرار ينص على إخلاء سبيل الـ230 شخصًا المعتقل، أما المحكمة الدستورية فبرأت جميع المشتبه بهم في القضية عبر قرار نهائي أصدرته بتاريخ 31 من مارس 2015.
ومن قبلها، أعلنت المحكمة الدستورية بتاريخ 18 من حزيران/يونيو 2014، عن هشاشة الدلائل، خاصة الإلكترونية المقدمة في القضية.
ـ العامل الإعلامي
ويستند هذا العامل إلى إعادة تأهيل الضباط الأتاتوركيين والترويج لهم عبر مسلسلات تُبث على القنوات اليسارية الأتاتوركية، كمسلسل “اسمسيزلار” “مجهولون” الذي يُبث على قناة “د”، و”ساواشتشي” “المحارب” الذي يُبث على قناة “فوكس”، و”سوز” “الوعد” الذي يُبث على قناة “ستار”، واللافت في الأمر، أن جميع هذه المسلسلات بدأت عملية عرضها في آنٍ واحد، وكأنها حملة إعلامية ترغب في الحصول على نتيجة واسعة وسريعة.
في المحصلة، استمرار هذه العوامل في السيطرة على العقلية العسكرية والشعبية والواقع التركي يجعل احتمال الانقلاب في تركيا أمرًا متوقعًا بشكل دائم، لا يعني هذا الطرح أن حزب العدالة والتنمية لن يتخذ الإجراءات الاحترازية ضد هذه العوامل، أو ضد أي انقلاب يطفو على السطح في المستقبل، ولكنه يعني أن الإجراءات الاحترازية ومواجهة الانقلابات التي قد تحدث، لن تمر دون تعريض تركيا وجيشها وحكومتها لاهتزازات سلبية تحمل نوعًا من الديمومة.