أعادت كلمات اللواء، “إبراهيم عبد الغفار”، المأمور السابق لسجن “العقرب” المصري الأشهر، حول نهاية اللواء الراحل “محمد عبد الحليم موسى”، وزير الداخلية المصري السابق، إلى النفس أصداء من الذكريات ما كنتُ أظن أنها تُنسى، لولا ما جاءت به الأحداث في بلدي مصر عقب الثورة ثم الانقلاب العسكري، وما تبعهما من أحداث بالغة الغرابة جعلت حفنة من العسكر الذين لا يعرفون من أمر الدنيا سوى استخدام القوة لقهر خصومهم، بل الحياة الحقيقية بعد الديمقراطية..!
خرج اللواء “عبد الغفار” على صفحته بالفيس بوك، الأسبوع الماضي ليروي أنه لقي الراحل “عبد الحليم موسى” بعد إقالته بقرابة العام، أقيل “موسى” من وزارة الداخلية في عام 1993م، فوجده رجلًا بالغ النحافة إلى حد غير طبيعي، لدرجة أنه لم يتعرف عليه، لولا تنبيه صديق لهما، ولما اعتذر “عبد الغفار” للوزير الراحل بادره الأخير قائلًا:
ـ “أنا عارف ومتأكد إنك لم تتعرف علىَّ نظرًا لما فعل بي السرطان، كل أصدقائي الآن صعب جدًا أن يتعرفوا علىَّ من أول وهلة”.
عقاب الله لي لأني أمرت بتصفية جسدية لأبرياء، وهم كثير ولم يرتكبوا أي ذنب ولم يأتوا بفاحشة، وليس من حقي أن أمر بتصفيتهم، حتى لو أذنبوا، كل ما اقترفوه أنهم عارضوا “مبارك”
وكان “موسى” فارع الطول مع سمنة لا تخطئها العين، إذ رأيتُ الرجل عيانًا مرة في العمر في ندوة له في “معرض القاهرة الدولي للكتاب” في يناير/كانون الأول 1991م وبعد قرابة العام من توليه وزارة الداخلية، وكم كانت ندوة غريبة عجيبة تصلح لأن تعلق بالذهن مدى العمر، إذ ظهر الرجل تلقائيًا عفويًا يبوح بكل ما في خاطره، على النقيض تمامًا مما عُرفَ به رجال الداخلية بل المقربون من السلطة في مصر وغيرها.
استدعت كلمات اللواء “عبد الغفار” بقوة قرابة ثلاث ساعات قضيتُها على مقعد أقرب ما يكون من المنصة الخاصة بالسرايا الرئيسية للمعرض، هذا بعد الصفوف الأولى التي حُجزتْ، بلا تفاهم، لكبار رجال الداخلية وأمن الدولة، رغمًا عن أنف محبي الاستماع الدقيق لكبار ضيوف المعرض آنذاك، أما كلمات مدير سجن “العقرب” السابق التي استدعت الندوة فلكأنها كانت العام الماضي، رغم مرور أكثر من ربع قرن عليها، ومنها أن الوزير الأسبق للداخلية قال له بعد تركه الوزارة بعام واحد ومرضه الشديد:
ـ ذلك عقاب الله لي لأني أمرت بتصفية جسدية لأبرياء، وهم كثير ولم يرتكبوا أي ذنب ولم يأتوا بفاحشة، وليس من حقي أن أمر بتصفيتهم، حتى لو أذنبوا، كل ما اقترفوه أنهم عارضوا “مبارك”، وكانوا في أغلب الأحيان على حق إن لم يكن كل مطالبهم مشروعة، لقد غرني المنصب ماذا أقول لربى وأنا سألقاه قريبًا جدًا ليس لدى عذر أقوله؟!..
في تلك الظهيرة من يناير/كانون الثاني 1991م، كنتُ وأقرب الأصدقاء نتساءل في صوت لا يُبالي بالآذان من حولنا، إذ كم كان الشباب غضًا فتيًا بداخلنا، والآمال حلوة عفيّة في المقبل من تاريخ بلادنا، وكيف سنغيره لتلحق بالأمم الكبرى، بواسطة مخلصي شبابها بالطبع، كان السؤال المتكرر يجعل العيون تحملق فينا وتتعجب:
ـ هل يفعلها الوزير ويأتي ويتحمل أسئلة الصحفيين وما ستكتبه الجرائد في غد من ردوده؟
أبتلينا في مصر برجال للشرطة بعضهم أغبياء، فلدينا مجندون يمسكون بالأقلام بالمقلوب وهم يدونون أرقام المُخالفين في المرور
كنا فُتشنا بدقة قبل دخول القاعة، وصُورتْ بطاقات الهوية، للمرة الأولى، وبعد قليل جاء الوزير ليعلن منذ البداية ألّا دخل له من الأساس بالثقافة، وإن كان لا يكره المثقفين بالطبع كما قال، وبعد كلمات عن مصر التي يحميها الله، ورزقها برئيس مخلص “حسني مبارك”، ورجال أمن لا يهمهم إلا حمايتها، مهما كانت الأخطار، وهو ما استدعى تصفيق الصفوف الأولى فتح باب الأسئلة عبر الأوراق لا المُشافهة، وكان أبرزها ما قال به اللواء الراحل السابق لـ”موسى”، ووزير الداخلية الرابع في عهد “مبارك” “تولى زكي بدر الداخلية من عام 1986 حتى 1990” من سب جميع رموز مصر الثقافية قبل إقالته، في مؤتمره الشهير ببنها، الذي سب فيه وزير الثقافة ومسئولين آخرين مع مؤسس جماعة الإخوان الراحل “حسن البنا”، بأكثر الألفاظ بذاءة، وكشف عن خطته لقتل 560 ألف مصري ..وهلم جرًا، فقال الوزير “موسى”:
ـ هذا أمر انتهى ومضى والتاريخ يحكم عليه، وإني لا أحب في المثقفين والإعلاميين عمومًا محبتهم لتقليب الكلام والمواجع، اللواء “بدر” رجل محترم .. لكن خانه لسانه.. وكلنا خطّاء ..
ثم أردف محاولًا امتصاص غضب البعض ومعليًا من شأن نفسه:
ـ ولكن ما قاله لا يعبر عن أخلاق الريف بوجه عام..
وكان تصفيق الصفوف الأولى والمُنظمين إيذانًا بانتهاء المناقشة، فجاء سؤال جديد حول الاعتقالات غير المبررة والتعذيب وأحيانًا القتل دون محاكمة .. فقال اللواء الراحل بهدوء حسدناه عليه:
ـ طبعًا صاحب السؤال احتمى بأنه قدمه في ورقة، ولكننا قادرون على الإتيان به، عبر خطه، أليس كذلك يافلان؟ (أحد معاونيه)، نحن عمومًا لا نظلم احدًا، ونعامل الناس بالحسنى .. ولكن هناك بعض المُتعبين من الشباب وهم مندسون في المجتمع المصري .. يحقدون علينا فإن تركناهم أتعبوا المجتمع كلهم .. لذلك نحن نستضيفهم لدينا لـ”نريحهم قليلًا” فإن ارتاحوا “أخرجناهم”!
أثارت الكلمات ردود فعل شديدة في القاعة بين ضحكات صاخبة من البعض واستنكار من الآخرين للتلاعب بأرواح الناس على هذا النحو.. لكن الوزير الراحل فاجأ الجميع بقوله:
ـ أبتلينا في مصر برجال للشرطة بعضهم أغبياء، فلدينا مجندون يمسكون بالأقلام بالمقلوب وهم يدونون أرقام المُخالفين في المرور .. وجماعات إسلامية بعضهم ذكي، وحتى ينصلح الحال لدى الجميع سنحمي مصر ..
ليت وزراء للداخلية لا يخافون الله في وطننا العربي يفهمون أو حتى يقرأون .. وعلى رأسهم “مجدي عبد الغفار” وزير الداخلية المصري الحالي
عندها جاءت ورقة للوزير السابق قرأها على مهل، وسط كلماته وذهول الحاضرين، ليقول “زكريا”، مدير أمن القاهرة، ينصحني بأن اكتفي .. لا يا …. سأكمل والمصارحة أفضل سبيل للتغلب على المخاطر ..
ترك مقدم الندوة المنصة على إثر ذلك، وأدركتُ وصديقي مقدار المحنة التي يمر الوطن بها إذ يصير وزير الداخلية يتحدث عن أتباعه ومَنْ يراهم أعداؤه على نحو أفضل ما يُقال عنه إنه مكلف بتقويم الجميع بأي طريقة!
وكان “علاء محيي الدين”، المتحدث الرسمي باسم الجماعة الإسلامية، أُغتيل في أغسطس/أب 1990م على يد الداخلية قبلها بأشهر، وكانت الداخلية بزعمه مسيطرة على الوضع في البلاد، وبالتالي قتل الخصوم مباح فضلًا عن الاعتقالات غير المحدودة وبأوامر ممهورة بتوقيع الوزير ودون تحديد أسماء، للحفاظ على نظام “مبارك”، واكن الملمح الرئيسي الذي خرج الجميع به من اللقاء أن الرجل تابع لا يريد إعمال عقله، فإن كان الجميع كذلك، فإنه من سياق فريد في الإفصاح عما في نفسه .. وفي صباح اليوم التالي لم تقل الجرائد شيئًا ذا بال مما ذكره الرجل.
وعما قريب من الندوة حاول الرجل الحوار مع الجماعة الإسلامية لقاءات قام بها كبار رجال الدين معهم، لكن النظام المصري انقلب عليه فأقاله ليُصاب بالسرطان، وتنحسر عنه الأضواء في شدته وإفاقته العقلية، وقد كان الإعلاميين لا يفارقونه في السلطة مهما قال، وفي عام 1994م لقيه اللواء “عبد الغفار”.. وقد ظهر المرض على الوزير موسى السابق ، وحاول الأول التخفيف عنه بتذكيره أن الله يغفر الذنوب جميعا ..فقال له:
ـ “إني قاتل أنا خايف جدًا من عقاب، وعذاب الله، ثم قام وانصرف من المنزل بدون أن يسلم علينا، وكان يقول وهو منصرف “ربنا يستر.. ربنا يستر.. ربنا يستر، يارتنى ما سمعت كلام مبارك”.
ليت وزراء للداخلية لا يخافون الله في وطننا العربي يفهمون أو حتى يقرأون .. وعلى رأسهم “مجدي عبد الغفار” وزير الداخلية المصري الحالي.. ولله عاقبة الأمور فلا يضيع لديه شيء سبحانه في الدنيا قبل الآخرة، وإن أمهل الظالمين فطال إمهاله..!