إن أبرز ما يميّز القيادة التركية الحالية هو تعلم الدروس من التاريخ و الاستفادة منها، فبعد مرور عام على أطول ليلة شهدتها تركيا في تاريخها الحديث والتي حصلت أثناءها محاولة إنقلاب عسكرية بقيادة تنظيم فتح الله غولن، لا بد وأنّ الأتراك قد استخلصوا العديد من الدروس الاستراتيجية التي مكّنتهم من التعامل مع الارتدادات المحتملة لذلك الانقلاب.
القضاء على التنظيم بشكل نهائي لن يكون سهلاً
يتم اتّهام قيادة تركيا على الدوام باستغلال حالة إعلان الطوارىء وما تلاها من عمليّات تطهير لأجهزة الدولة، بغرض تصفية معارضي الحزب الحاكم بمختلف أطيافهم. إنً هذه الاتهامات تغفل خطورة التنظيم بشكل متعمّد، حيث عمل التنظيم جاهداً لمدة ٤٠ عاماً على بناء جيل كامل من الأتباع من ذوي الولاء المطلق، وزرعهم في كافة مفاصل الدولة. ليشكلوا شبكة راسخة من العلاقات ذات الفعاليّة الكبيرة.
إن النتيجة التراكمية لتلك الجهود تحمل بلا شكّ مردوداً كارثياً على أجهزة الدولة البيروقراطيّة، حيث أن التنظيم قد أعاد بالفعل مفهوم الدّولة العميقة إلى أذهان الأتراك، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ طبيعة التنظيم السرًية جعلته ديناميكياً وقادراً على تغيير شكله بسرعة كبيرة، مما يجعل اجتثاثه بشكل كامل ضرورة حتمية للحفاظ على الدولة.
لا يمكن استغراب ازدواجية المعايير التي تتصف بها السياسات الأمريكية، نظراً لأن طبيعة الشراكة الاستراتيجية التي ترغب بها الولايات المتحدة لا تتناسب قطعاً مع تركيا الجديدة التي استطاعت منذ (٢٠٠٣) أن ترسم سياساتها و قراراتها السيادية بمعزل عن الهيمنة الأمريكية.
وبالعودة إلى محاولات عمليّات أرغنكون، وباليوز (المطرقة) ومحاولات الإنقلاب القضائية التي جرت في ١٧-٢٥ ديسمبر ٢٠١٣، يمكن التنبؤ بأنّ أي محاولة للتخلص من التنظيم بشكل جزئي لن تكون مجدية، حيث أن القضاء على التنظيم يجب أن يكون بشكل شامل ابتداءً من رأس الهرم، “غولن” نفسه.
ضمن هذا السياق يرى رئيس مركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية (SETA) السيد برهان الدين ضوران، أن طبيعة التنظيم غير التقليدية بوصفه ”كيان استثنائي بغطاء ديني، تم تنظيمه ظاهراً و باطناً أثناء الانخراط في الشبكات العميقة للوبي الدولي تجعل من اجتثاثه من الدولة بشكل كامل مهمة صعبة للغاية إن لم تكن مستحيلة”.
نسبيّة ”الإرهاب“ في الشراكات الاستراتيجيّة
تصف كلٌّ من الولايات المتحدة وتركيا علاقتهما بالشراكة الاستراتيجية خاصّةً فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب، لكنّ الإرهاب كما ظهر في أعقاب محاولة الإنقلاب هو مفهوم نسبي، تحدده الولايات المتحدة اعتماداً على “طول اللّحية” الذي يتّصف به الإرهابيون، وإنطلاقاً من هذا المفهوم يمكن للولايات المتحدة النظر لأفعال مثل نزول دبابات إلى الشارع في مواجهة مدنيين أو قصف للبرلمان أثناء تواجد البرلمانيين ضمنه، كدفاع عن الديمقراطية والتعددية.
لقد عمدت وسائل الإعلام الغربيّة وعلى رأسها الأمريكية إلى تصوير ما يحدث في تركيا على أنّه صراع على السلطة أو إسكات للأصوات المعارضة. كما بدأت بتناسي مفاهيم مثل الديمقراطية و الشرعية الانتخابية، لتصبّ تركيزها على مفهوم حقوق الإنسان، محاولة إظهار الإجراءات التي اتخذتها تركيا لمواجهة هذا التنظيم على أنها انتهاكات لحقوق الإنسان، وهنا لا بد للمراقب أن يتسائل عن معايير حقوق الإنسان التي تتعامل الولايات المتحدة ضمنها مع أي تهديد محتمل لأمنها القومي، فضلاً عن المعايير التي تعتمدها عند اختيارها للميليشيات المحلية التي تدعمها لقتال داعش و غيره.
ولا يمكن استغراب ازدواجية المعايير التي تتصف بها السياسات الأمريكية، نظراً لأن طبيعة الشراكة الاستراتيجية التي ترغب بها الولايات المتحدة لا تتناسب قطعاً مع تركيا الجديدة التي استطاعت منذ (٢٠٠٣) أن ترسم سياساتها و قراراتها السيادية بمعزل عن الهيمنة الأمريكية.
محاولة الانقلاب جاءت بشكل مباغت لتنبه قيادة العدالة و التنمية إلى ضرورة إعادة الهيكلة بشكل كلي، الأمر الذي يتطلب التغيير إلى النظام الرئاسي
وبحسب رآي عضو الهيئة التدريسية في جامعة مدنيات الاستاذ فخر الدين ألطون أن السبب الرئيسي وراء اهتمام الولايات المتحدة بالتنظيم و الدفاع عنه قد جاء نتيجةً ”لمستوى المعلومات التي يملكها تنظيم غولن، واتساع شبكته في الأجهزة البيروقراطية، مما جعل منه قوة جديرة بالاهتمام“.
إذاً فإن الشراكة الاستراتيجية التي ترغب بها الولايات المتحدة تتضمن تدخلاً في القرارات السيادية و الشؤون الداخلية للدول الشريكة، وهو الأمر الذي تعتبره تركيا وصاية أكثر منها شراكة.
الديمقراطية المستوردة لن تلقى رواجاً في تركيا
إن أهم ما يميز حزب العدالة و التنمية هو مقدرته على فهم الفجوة التي خلّفها النموذج الكمالي بين السلطة المثمثّلة في الدوائر النخبويّة الضيّقة وبين إرادة الأغلبية الساحقة من الشعب مما جعل تغيير البنية البيروقراطية ضرورة حتمية، لكن و في ذات الوقت كان لا بد من إجراء التغييرات بشكل بطيء وعلى مراحل. وكان السر الأهم في نجاح تلك التغييرات ترافقها بتجارب اقتصاديّة و إداريّة ناجحة استطاع الحزب من خلالها إعادة تركيا لمسار المنافسة الدوليّة.
عملت تركيا خلال العقدين الأخيرين على التطوير من بنيتها بشكل ممنهج بغرض الانضمام للإتحاد الأوروبي، و لكن السياسات الغربية لم تكفّ عن وضع معوّقات في وجه حصول تركيا على العضوية
لكنّ محاولة الانقلاب جاءت بشكل مباغت لتنبه قيادة العدالة و التنمية إلى ضرورة إعادة الهيكلة بشكل كلي، الأمر الذي يتطلب التغيير إلى النظام الرئاسي، وهكذا ذهبت تركيا باتجاه الاستفتاء الذي أظهر أن هذا التغيير يعكس إرادة الشعب، ولأنّ الفروقات بين المؤيدين و المعارضين كانت ضئيلة، وجدت وسائل الإعلام الغربيّة فرصةً أخرى لمهاجمة الرئيس أدروغان شخصياً بوصفه دكتاتوراً يعمل على تحصين سلطاته الدستورية على حساب انقسام المجتمع. و بهذا فإن وسائل الإعلام الغربية قد تجاهلت عمداً حقيقة ضرورة التغيير، نظراً لأن طبيعة المرحلة التي تمر بها تركيا في منتهى الخطورة، و تحتاج لجهاز بيروقراطي متماسك، و هذا ما يجعل من النظام الرئاسي ورقة ضمان لاستقرار البلاد و خروجها من أزمتها.
وقد يتفق أو يختلف المحللون حول مدى ملائمة النظام الرئاسي للمرحلة، بيد أن الصناديق قد قالت كلمة الفصل، واختارت أن تغيّر الأساس الأيديولوجي الذي قامت عليه الجمهورية الكماليّة، والذي لم يعد ملائماً للمرحلة الحاليّة بحسب البعض، وبناءً عليه فقد اختار الأتراك بناء نموذجهم المتباين متخلين بذلك عن النموذج الذي أدى إلى تشتت هويتهم وضياع مكانتهم الجيوسياسية في السابق.
وسائل الإعلام الغربية والنظرة “الاستشراقية” نحو تركيا
عملت تركيا خلال العقدين الأخيرين على التطوير من بنيتها بشكل ممنهج بغرض الانضمام للإتحاد الأوروبي، ولكن السياسات الغربية لم تكفّ عن وضع معوّقات في وجه حصول تركيا على العضوية، لتأتي محاولة الانقلاب و ما تلاها من إجراءات بمثابة الفرصة الذهبية لوسائل الإعلام الغربية لتبدأ حملة تستهدف تشويه صورة تركيا بكثافة غير معهودة النظير.
حيث عمدت كبرى وسائل الإعلام الغربية في الولايات المتحدة و بريطانيا و ألمانيا إلى استغلال موجة الإسلاموفوبيا التي تصاعدت بشكل هستيريّ في العالم بغرض تصوير ما يجري في تركيا على أنه صراع علماني-إسلامي، و بأنّ المظاهرات الشعبية التي واجهت الانقلاب هي عبارة عن عملية قام بها أنصار التيار الإسلامي المتوحشين بالانتقام من الجنود الأبرياء الذين حاولوا الإنقلاب بهدف إنقاذ علمانيّة تركيا.
لقد فهم الأتراك أن صورة المسلم النمطية و التي تروّج لها وسائل الإعلام الغربية سوف تبقى ثابتة و لن تتغير، وهو الأمر الذي يجعل مصداقيّة تقييم ملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي موضع تساؤل وشك. ففي حين تطمح تركيا لبناء نموذج من الشراكة الإقليمية المفيدة لكافة الأطراف. لا يزال الغرب (أو وسائل إعلامه على أقل تقدير) تنظر إلى تركيا بمنظور ضيّق و يمكن وصفه بأنه إستشراقي، يحول دون التكافؤ بين الشرق و الغرب ، حيث أن الاستشراق كما عرّفه إدوارد سعيد يعني ”نظر الغرب للشرق على أنه شيء، وحشي وبربري و أقل شأناً”.
مكافحة التنظيم والقضاء عليه سوف يبقى هاجساً يسيطر على الأتراك ويشغل حيزاً كبيراً من حياتهم اليومية
إن هذه النظرة تثير تساؤلات عديدة حول احتمال وجود شراكة قائمة على التكافؤ و العمل المشترك بين تركيا و الاتحاد الأوروبي مستقبلاً . حيث يرى عضو الهيئة التدريسية في الجامعة الألمانية التركية الاستاذ أنس بيرقلي “أن الانحياز و أحادية الجانب التي أظهرتها تغطية وسائل الإعلام الغربية لمحاولة الانقلاب في تركيا تكشف عن الصورة الاستشراقية المغرضة تجاه المجتمعات الإسلامية، و تدل على أن مفهوم الديمقراطية لديهم هو مفهوم غربي لا يخص أحداً سواهم“.
في النهاية يتوجب الإشارة إلى أنّ التغطية الإعلاميّة السلبية تجاه تركيا، والموقف السلبي للعديد من الدول الغربية تثير الكثير من الجدل حول قوة التنظيم وعمق نفوذه الدولي. وبما أنّ نهاية التنظيم بيروقراطيّاً، لا تنفي بأي حال من الأحوال قوة تأثيره في اللوبيات العالمية، فإن مكافحة التنظيم والقضاء عليه سوف يبقى هاجساً يسيطر على الأتراك ويشغل حيزاً كبيراً من حياتهم اليومية.