في كل مرة كان يصل الحديث إلى رفع الدعم أو تقليله، كان يخرج السادة الإعلاميون الذين لا يعدو كونهم أبواق لأجهزة أمنية مختلفة لنفي هذه الشائعات والتأكيد على أن الشعب المصري الذي يعاني الأمرّين لا يستحق منّا أن نرفع الدعم عنه بل يجب أن تقف الحكومة إلى جانب شعبها الهمام الذي يبذل الغالي والنفيس من أجل الوطن والدولة وكان سرعان ما يتم نفي هذه النوايا المبيتة لرفع الدعم. لكن هذه المرة يبدو أن الجنرال لا يأبه كثيرًا للاعتبارات الشعبية سؤال الشرعية والشعبية ويمضي قدمًا في خطته لرفع الدعم عن السلع وفرض ضرائب جديدة تثقل كاهل المواطنين، كجزء من خطة صندوق النقد الدولي.
والحقيقة أنني لا أعتقد أن هنالك وقت مناسب أكثر من هذه اللحظة لطرح سؤال العدالة، ليست العدالة بمعناها القضائي ولكن العدالة بمعناها الاجتماعي والاقتصادي في بلدٍ كمصر، يبدو أن العدالة الاجتماعية لم تعرف طريقه من قبل.
عندما نتحدث عن الفقر أو عدم العدالة فإن التفسيرات أكثر من أن نحصيها في هذه السلسلة لكننا سنركز على تفسير الدولة المصرية الحالي
ولأن العدالة قد تبدو فكرة مجردة مثالية لا مكان لها في واقع كالذي نحياه فإنني سأتجه إلى تعريف وإيضاح مفهوم ‘‘عدم العدالة/عدم المساواة الاجتماعية‘‘ والتي يمكن تعريفها أنها نتيجة مجتمع ينظمه التسلسل الهرمي للطبقة والعرق والنوع والدين والتي تعتبر عوامل مؤثرة في الوصول إلى الموارد والحصول على الحقوق، وبسبب عدم وجود مجتمع متجانس أعضاؤه عبارة عن نسخ متكررة فإن توزيع الموارد والفرص لا يكون متساويًا، وهذا التفاوت ليس فقط ماديًا بل إنه قد يكون متعلقًا بالمصادر الثقافية والتعليم أي موارد تقنية متعلقة بالجودة أكثر من الكمية. يمكننا أيضًا أن نقول أنها التوزيع غير المتساوي للفرص والعوائد لمختلف المواقع الاجتماعية والحالات الإجتماعية داخل مجموعة ما أو مجتمع ما.
و”عدم العدالة” هذه تتأثر تأثرًا مباشرًا بالعرق والسلالة والجنس والدين والثروة والدخل والتعليم وعلاقات القوة داخل الدولة والمجتمع. أو وفي الحالة المصرية يبدو أن علاقات القوة يمكن تسميتها، داخل الدولة المصرية، بصراعات المصالح داخل شبكات فساد الدولة المصرية تعتبر البعد الأكثر تأثيرًا في توزيع الفرص والعوائد، تليها بعد ذلك الثروة والجنس والتعليم والعرق لاحقًا باعتبارهم أثار بنسبة أكبر منها فاعلة.
إذ يمكنك أن ترى في مصر، رجل مسلم بأصول مصرية خالصة وحاصل على مؤهل عالٍ ومن أسرة ميسورة الحال، ومع ذلك فإنه لا يحصل على الفرص التي يستحقها رغم أنه مؤهل بشكل كافٍ ويمتلك كل المهارات اللازمة لإدارة الوظيفة التي تناسب مؤهلاته بطريقة كفؤة فقط، لأنه ليس لديه “واسطة” أو لأن آراؤه السياسية تخالف توجهات النظام، أي أن موقعه في علاقات القوة موقع ليس بالقوة الكافية ليحصل على ما يستحق.
أنا لا أنفي بالطبع أن العوامل والأبعاد الأخرى لا تؤثر لكنني أحاول أن أبرهن أن “علاقات القوة” هي المحرك الرئيس لهذه المنظومة بالكامل وأنه إذا حدث تعارض بين أي عامل وبين علاقات القوة فإن علاقات القوة يكون صاحب الكلمة الأخيرة واليد العليا. وعلاقات القوة هذه ليست مجرد علاقات على مستوى المؤسسات أو المسؤولين وإنما هي علاقات موجودة في التفاعل اليومي بين شخص وشخص آخر وداخل الأسرة والمجتمع والكيانات الاقتصادية والسياسية وداخل مؤسسات الدولة نفسها وبين الدولة والمؤسسات أو الدول الأجنبية. وعلاقات القوة هذه هي التي تستند إليها بنى القهر والظلم والفقر والاستبعاد والاستعباد الإجتماعي والسياسي. كما أن محاولة لمحاربة الفقر والبطالة لا تبدأ بتفكيك هذه العلاقات وفهم مصدر هذه العلاقات وكيف تتشكل وتتغير فهي محاولة محكوم عليها بالفشل.
وعندما نتحدث عن الفقر أو عدم العدالة فإن التفسيرات أكثر من أن نحصيها في هذه السلسلة لكننا سنركز على تفسير الدولة المصرية الحالي؛ “لوم الفقراء” أي أن الدولة المصرية تلوم الفقراء على فقرهم مدعية أن الفرص موجودة وبكثرة وإنما هؤلاء الفقراء فقراء لأن ليس لديهم الدوافع الكافية، التعليم، المهارات اللازمة للحصول على وظيفة تخرجهم من دائرة الفقر. والحقيقة أن هذا التفسير متماهٍ بشكل كبير جدًا للتفسير النيو-ليبرالي القائل بأن الفقراء هم أولئك الأفراد والمجموعات التي لم تندمج بشكل كاف في السوق.
أي أن المصريين الذين يعانون من الفقر الأن إما كسالى ينتظرون الحكومة أن تضع الطعام في أفواههم وإما ليس لديهم المهارات والمؤهلات التي يتطلبها سوق العمل أو أنهم لا يؤمنون بأهمية التعليم فأخرجوا أبناء ليس لديهم تعليم كافٍ للحصول على فرصة عمل وبالتالي فإن الدولة تنظر إليهم بأنهم غير مستحقين للدعم وأنهم مسؤولون عن فقرهم قبل أي أحد آخر وعليهم أن يواجهوا الأمر بمفردهم، هكذا قالت الدولة المصرية بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي عندما بدأت في عملية رفع الدعم عن السلع وإضافة ضرائب جديدة.
الفجوة التي تتسع يومًا بعد يوم بين الطبقات العليا المصرية والطبقات السحيقة المعدمة وكيف يحيا كلًا منهما على نفس الأرض دون حدوث صدام بينهما
إذن ما نود أن نقوله أن الحكومة المصرية لا تفسّر الفقر كمسؤولية الدولة وجهازها أو حتى كمسؤولية مشتركة بينها وبين المجتمع وإنما كمسؤولية للفقراء وأن أوضاع كهذه لا تتعلق بالأفكار الإجتماعية عن العرق والجنس والسلالة بقدر ما تتعلق بعلاقات القوة في المنظومة ككل.
قريبًا جدًا من بل ربما في القلب من الموضوع الذي أفردنا له السطور السابقة، أتذكر أنه في الأشهر الأخيرة لا أعتقد أن شيئًا سيطر على عقلي وأرّقني بهذا الشكل، مفارقة حزينة سكنت خاطري فلم تفارقه ولو للحظة منذ أن لقطها ذهني للمرة الأولى.
المفارقة تكمن في أن الخبر الأول يقول أن المدرسة الأمريكية بالقاهرة “AIS” أقامت حفلًا لطلابها بمناسبة تخرجهم من المرحلة الثانوية وقامت بالاستعانة بفرقة إستعراض روسية لتحيي الحفل، وكانت أحد فقرات الحفل المبارك “عرض تعرٍ” للطلاب الذين لا يتعدى عمرهم الثمانية عشر عامًا. نعم، عرض تعرٍ لطلاب في المرحلة الثانوية، أهلًا بكم في مصر التي لا تعرفونها.
الخبر الثاني كان استقبال مستشفيات السويس لأكثر من 400 طالب أصيبوا بالتسمم إثر تناول وجبات الحكومة الدسمة ولحسن الحظ لم يؤدِ هذا التسمم إلى أية وفيات. وبالطبع حتى يومنا هذا يبقى المسؤول مجهولًا ولسان حال الحكومة أن احمدوا الله على أن أبناءكم ما زالوا في أحضانكم. أهلًا بكم في مصر التي تعرفونها.
يبدو الخبر الثاني مألوفًا في زماننا هذا للأسف، فإنها ليست المرة الأولى ولا الأخيرة التي ينقل فيها طلاب إلى المستشفيات بسبب إهمال أحدهم – سيظل مجهولًا – ويعيش أهالي الطلبة في حالة ذعر حتى يعود إليهم أبناؤهم. ولأن الألفة تمنع الغضب وتجعل شواذ الأمور وعجيبها مقبولًا ومعتادًا فإن الحدث الأول هو ما أثار حنقي بينما تمتمت فقط بالدعاء لضحايا الحادث الثاني راجيًا ربي أن لا يموت أحدهم. لكن مجرد تخيل أن هناك فعلًا أطفال كانوا يرقصون بينما يصارع الموت آخرين فقط لأنهم فقراء ولا يملكون أي رفاهية الرقص، بل إن الكثير منهم إن لم يكن أغلبهم عليه أن يعمل بعد الدوام الدراسي تجعلني أختنق.
دفعني هذا الغضب لمحاولة فهم ما وراء هذا التناقض الصارخ أو ما يقوله لنا عن الطبقات المصرية وكيف تشكلت هوّة كبيرة بين مختلف الطبقات، وكيف قسّم المجتمع المصري إلى جزر منعزلة لا تعرف عن بعضها شيئًا
حدث كهذا يثير الكثير من التساؤلات حول طبيعة وهوية تلك الطبقة التي تتمتع أولًا برفاهية تسمح لهم أن يعيشوا أسلوب حياة يجعل أبنائهم المراهقين يصلون إلى النشوة أمام فتيات روسيات عاريات وسط قبول مجتمعهم الصغير أو جزيرتهم إن صحّ التعبير.
الأسئلة التي يثيرها هذا الحدث كثيرة جدًا، فمنها اقتصادية تتعلق بمجتمعات مصرية صغيرة لا تعرف شيئًا عن المجتمع المصري الكبير وأسئلة عن الهوّة والفجوة التي تتسع يومًا بعد يوم بين الطبقات العليا المصرية والطبقات السحيقة المعدمة وكيف يحيا كلًا منهما على نفس الأرض دون حدوث صدام بينهما وأسئلة هويّاتية الطبقة البرجوازية المصرية بشكل عام والتغيرات التي طرأت عليها وأخرى تتعلق بهوية البرجوازيين الجدد وكيف أنهم يطورون هويّات ممسوخة لا نكهة لها.
قد يصرخ أحدهم ويعتقد أن حدث كحفل تعرٍ ناتج عن خلل أو كارثة حلت على العامل الديني و الأخلاقيّ داخل المجتمع فقط، أي لفساد الأخلاق وعملية التغريب وتهميش دور الدين في حياة البشر أو أنه محاولة لخلق أجيال جديدة بعيدة تمامًا عن الثقافة المحافظة المصرية بشكل عام والإسلامية على وجه التحديد. وعلى الناحية الأخرى، قد يجادل أحدهم أن لا منطق سيكون قادرًا على فهم أبعاد حدث كهذا سوى المنطق الاقتصادي وحده أي أن البدأ من اليسار سيقود إلى تفسير الظاهرة كلها في كافة تجليّاتها وتبعاتها. ورغم إيماني بأن الرأسمالية “البعد الاقتصادي” لها اليد العليا بشكل أو بآخر فوق الدين والأخلاق في عالم اليوم وأنها تشكلها وتطوّعها وتصيّرها أدوات لها لخدمة السوق إلّا أن نموذج تفسيري يستبعد البعد الهويّاتي أو يجعله تابعًا وخاضعًا تمامًا للرأسمالية وتأثيرها سيكون به من الخلل الكثير.
وبناءًا عليه فإن محاولتي لتفسير هذا الحدث والأحداث المشابهة له مثل cairo zoom و 6ix degrees وغيرها سيكون مبنيًا على نموذج ‘‘ intersectionality ‘‘ يجمع بين الهوية والحالة والاقتصادية دون طغيان إحداهما على الأخرى.