في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي، كان السودان يشهد تجربة فريدة من نوعها في المنطقة إثر دعواتٍ للعصيان المدني نظمتها مجموعات شبابية احتجاجاً على زيادة أسعار الوقود والدواء، اختلفت التقديرات بشأن نسبة نجاح حملة العصيان، ولكن المؤكد أنه أربك حسابات الحكومة، فقد بدت شوارع العاصمة الخرطوم خالية من المارة في اليوم الأول، وانهارت البورصة، وخلت البنوك وشركات الاتصالات والمؤسسات الخدمية من المتعاملين.
ضمن تغطية وسائل الإعلام العالمية لتلك التطورات التي أربكت حكومة الخرطوم، أجرت شبكة (BBC) البريطانية مقابلة مع وزير الثقافة والإعلام السوداني، أحمد بلال عثمان، الذي أنكر جملة وتفصيلاً وجود شيء اسمه “عصيان مدني”، غير أن المذيع فاجأه بسؤال عن دلالات مُصادرة الأجهزة الأمنية 5 صحف بعد طباعتها، لم يفتح الله على الوزير إلا أن يجيب بقوله: “هذه إجراءات روتينية، السلطات درجت على مصادرة الصحف التي لا تلتزم بالخط الوطني وتسبح عكس التيار في كل الأوقات، وهذا أمر طبيعي عندنا لا علاقة له بالعصيان المدني”. لم يتمالك مذيع البي بي سي نفسه من التبسُّم عند تلك النقطة فما عساه يقول لوزير إعلامٍ يبرر ويعترف بأن حكومته درجت على مصادرة الصحف كإجراء روتيني في الأحوال العادية ولا يشير ذلك إلى وجود حدث طارئ.
تصريحات بلال أقل ما توصف به أنها “مندفعة” و”رعناء” و”غير مسؤولة”، لأن الرجل بمنصبه الحالي لا يمثل نفسه، ولا يمثل الحزب الذي ينتمى إليه “الاتحادي الديمقراطي”، بل يمثل الحكومة بأجمعها لأنه يشغل منصب الناطق الرسمي ووزير الإعلام
لم تكن السقطة المذكورة أعلاه، الأولى من نوعها لنائب رئيس الوزراء وزير الإعلام الناطق الرسمي باسم الحكومة “حسب الوصف المعتمد”، فقد نقلت عنه صحف ووكالات أنباء عالمية في مارس/ آذار الماضي تصريحات مثيرة، قال فيها “إن فرعون الذي ذُكر في القرآن الكريم سودانياً، مستدلاً ب”الأنهار التي تجري من تحتي”، وإن مصر ليس فيها سوى نهر واحد “النيل”، بينما السودان بلد متعدد الأنهار، وأن تاريخ السودان تعرض للكثير من الزيف عبر التاريخ، كان الوزير بلال، يتحدث حينذاك مستنكراً تقليل وسائل إعلام مصرية من شأن الأهرامات والآثار في شمال السودان.”
هناك العديد من السقطات و”الشطحات” للوزير أحمد بلال عثمان، لكن أخطرها ما بثته وسائل إعلام مصرية وسعودية ظهر 13 من يوليو/ تمّوز الجاري، حيث ظهر في تسجيل فيديو واضح هاجم فيه قناة الجزيرة، واصفاً خطها الواضح بأنها تعمل على إسقاط النظام في مصر، وإثارة الفوضى، مشيرا إلى أن ذلك خطأ ومرفوض، “كررها مرتين”.. لقي ذلك التصريح الغريب انتشاراً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي خلال ساعات قليلة، وفجّر غضباً كبيراً في أوساط الشارع السوداني بتياراته المختلفة نسبة لأن السودان، رسمياً، لم ينحز لأي من طرفي الأزمة الخليجية لحساسية موقفه، وقد عبّر الرئيس عمر البشير أكثر من مرة عن دعمه للوساطة الكويتية، فما الذي دفع الناطق الرسمي باسم الحكومة لإطلاق هذه التصريحات التي يمكن تفسيرها على أنها دعم لموقف الدول الأربع ضد قطر؟، إذ أن قناة الجزيرة أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع الأزمة بين قطر وبين دول الحصار، التي احتفى إعلامها بتصريحات الوزير السوداني ونشرها على نطاق واسع.
لعلّ الوزير أحمد بلال وهو يغرد خارج السرب، نسي أو تناسى أن رئيس الحكومة “التي هو أحد وزرائها”، قرّر قبل أيام استمرار حظر المنتجات المصرية في إشارة واضحة على عمق التوتر في العلاقات بين الخرطوم والقاهرة
ظنّ بعض السودانيين أن تغييراً ربما طرأ على موقف السودان، غير أن الظنون تبددت في لقاء صحفي عقده وزير الخارجية إبراهيم غندور في الخرطوم، إذ سأله صحفيون عن تصريحات وزير الإعلام وهل هناك تغيُر في الموقف. فأجاب بأن موقف السودان ثابت وهو دعم الوساطة الكويتية، وأبدى استغرابه هو الآخر من تصريح أحمد بلال عثمان، وقال للصحفيين (بنص العبارة) “يُسأل عن ذلك وزير الاعلام وأتمنى أن أتعرف على رده أنا أيضاً !!.”. وبالفعل حاول عثمان، التملص وإنكار أقواله الواضحة والموثقة بالصوت والصورة، فزعم أنه لم يدلِ بأي تصريحات بخصوص تغطية “الجزيرة” للشأن المصري، وقال عبر بيان نشرته الملحقية الإعلامية لسفارة السودان في بيروت إن “موقف السودان من الأزمة الخليجية واضح وتم التأكيد عليه أكثر من مرة، وهو موقف يدعو إلى إصلاح ذات البين بين الأشقاء” .
تصريحات بلال أقل ما توصف به أنها “مندفعة” و”رعناء” و”غير مسؤولة”، لأن الرجل بمنصبه الحالي لا يمثل نفسه، ولا يمثل الحزب الذي ينتمى إليه “الاتحادي الديمقراطي”، بل يمثل الحكومة بأجمعها لأنه يشغل منصب الناطق الرسمي ووزير الإعلام. كما أن اللغة التي استخدمها الوزير في تصريحه جعلته يبدو “ملكياً أكثر من الملك” فما شأنه بمصر وبإسقاط نظامها وإثارة الفوضى فيها، هل هو وزير الإعلام السوداني أم المصري؟ أم أن الرجل تهور كالعادة وتحمّس زيادة عن اللزوم؟
يعمل وزير الإعلام ضد توجهات بلاده، وقد أضرّ بعلاقات السودان مع دولتين شقيقتين “قطر وإثيوبيا” في أقل من 24 ساعة
الأدهى والأمر أن الوزير عاد بتصريحاتٍ أشد غرابة وأكثر تناقضاً مع مواقف حكومته قبل أن يجف مداد تصريحه السابق، فقد أكد في لقاء مع صحفيين بسفارة الخرطوم في القاهرة (13 من يوليو/ تموز الجاري)، أن “السودان مع مصر قلبا وقالبا في ملف سد النهضة، وأنه لن يسمح بالمساس بالحصة المائية لها”، مشيرا إلى أن بلاده ستكون المتضرر الأول في حالة انهيار سد النهضة، وقال “الخرطوم لا تلعب دور الوسيط بين القاهرة وأديس أبابا.”. في الجزئية الأخيرة نتفق معه بأن الخرطوم لا تلعب دور الوسيط بين القاهرة وأديس أبابا، ببساطة لأن السودان يدعم الموقف الإثيوبي في سد النهضة تماماً، وهو ما عبّر عنه الرئيس عمر البشير بوضوح في زيارته الأخيرة لأديس أبابا قبل أقل من شهرين، وهناك أدلى البشير بتصريحات زادت من توتر علاقاته مع مصر المتوترة أصلاً، حيث اعتبر أن “أمن إثيوبيا من أمن السودان”، “وأن سد النهضة لا يشكل أي خطورة على السودان بل يفيده”، لم يكتفِ البشير بتلك التصريحات، فقام بتوقيع مذكرة تكامل مع رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي مريام ديسالين.
التصريح الثاني نجزم كذلك، بأنه سقطة جديدة من سقطات وزير الإعلام المتهور، الذي يتعجل في إطلاق قذائفه ثم يضطر إلى تكذيبها وإنكارها، ذلك أن السودان بأكمله ينتظر قيام السد الإثيوبي من أجل الحصول على المزيد من الكهرباء بأسعار تفضيلية عبر الشبكة التي تربط بين البلدين، كما أن يعمل السد على “ترويض” النيل الأزرق وإزالة خطر الفيضان الذي يهدد المناطق المتاخمة له على الضفتين، فضلاً عن زيادة الرقعة الزراعية في ولايتي النيل الأزرق والقضارف “حسب خبراء وزارة الري”، وبجانب ذلك كله يتعاطف السودانيون شعبياً مع قيام سد النهضة بعد “الصدمات” التي يرون أنهم تعرضوا إليها من مصر في ملف حلايب المتنازع عليه، والذي تصر القاهرة على تبعيته إليها وترفض دعوات السودان للتفاوض أو التحكيم.
لعلّ الوزير أحمد بلال وهو يغرد خارج السرب، نسي أو تناسى أن رئيس الحكومة “التي هو أحد وزرائها”، قرّر قبل أيام استمرار حظر المنتجات المصرية في إشارة واضحة على عمق التوتر في العلاقات بين الخرطوم والقاهرة، وقبل ذلك اتهم الرئيس البشير، مصر بشكل صريح وواضح بدعم الهجوم الأخير الذي شنه متمردون على إقليم دارفور، وربما نسي، أيضاً، أن التلفزيون الرسمي عرض صوراً للمعدات العسكرية المصرية التي تمّ الاستيلاء عليها بعد صد الهجوم”.
بتصريحاته الهوجاء الرعناء، يعمل وزير الإعلام ضد توجهات بلاده، وقد أضرّ بعلاقات السودان مع دولتين شقيقتين “قطر وإثيوبيا” في أقل من 24 ساعة فماذا ينتظر رئيس الوزراء؟.. المساءلة والاستيضاح لا يجديان مع هذا الشخص المندفع وغير المنضبط، لذا ندعو إلى الاستجابة لدعوات الشباب الذين طالبوا عبر هاشتاغ #الشعب_يريد_إقالة_وزير_الإعلام، بإعفاء الرجل فوراً وإسناد حقيبة الإعلام إلى أحد الكفاءات من “التكنوقراط” لحساسية هذا المنصب، إذ إن مشكلتنا الكبرى في السودان هي المحاصصة وتوزيع المناصب كغنائم لقادة الحزب الحاكم والحركات المتمردة و”المؤلفة” قلوبهم!